قضايا وآراء

الصورة"النموذجية" للمثقف الحداثي التونسي

1300x600
"حينما تجلب الكلمات أموالا تختفي حروفها...الكنز و الكلمات لا يجتمعان في جيب المثقف".

(عبد الرزاق الجبران، جمهورية النبي :عودة وجودية)


لا يهدف هذا المقال إلى أن يكون بحثا نفسيا علميا في شخصية "المثقف الحداثي التونسي"، ولكنه  سيحاول الوقوف على أهم السمات المشتركة بين من يتعرّفون ذاتيا أو يُعرّفهم الإعلام على أنهم نخبة المجتمع التونسي، أي أولئك الذين يتحركون تحت استعارة/أسطورة تأسيسية كبرى هي "النمط المجتمع التونسي". ونحن نقصد بالنموذجية المعنى الفيبري للنموذج المثالي، أي مجمل السمات المجردة التي لا يُشترط فيها أن تجتمع كلها في شخصية واقعية. وقد وقفنا على تلك السمات المشتركة من خلال استقراء التدخلات الإعلامية لجملة من الأكاديميين والإعلاميين والفنانين وغيرهم من الشخصيات الاعتبارية المهيمنة على الحقل الإعلامي بعد الثورة، التي اكتسبت شرعيتها باعتبارها حاملة لخطاب "نخبوي" يعكس معرفة نوعية تنطلق من "المعرفة التقنية" بالمعنى الذي يتحدث عنه فوكو، ولكنها لا تنحصر فيه.

لفهم التركيبة الميتا-أيديولوجية للنخبة التي يحتكر أفرادها صفة "المثقف" بعد 14 جانفي 2011، يمكننا أن ننطلق من الفرضية التالية: إن ما يحدد الانتماء إلى النخبة-والإقصاء منها-  هو الموقف من الإسلام السياسي (في الداخل والخارج على حد سواء)، والموقف من المنظومة الحاكمة قبل الثورة والموقف الاستراتيجي-لا المرحلي أو التكتيكي- من ورثة تلك المنظومة. أمّا باقي المحددات الأخرى فهي محددات ثانوية وذات طبيعة اشتقاقية من هذه المحددات الثلاثة. 

فلكي يكون الإنسان "مثقفا" حداثيا تونسيا معترفا به، عليه أن يبتعد عن أي إحالة على المرجعية الدينية بما هي اختيار روحي"ذاتي" صريح، لأن التدين مُؤذن بالتشكيك في سمة الحداثة ذاتها . فالدين لا يحضر عند "المثقف" إلا بما هو الخطاب"المحتكَر" من الآخر الذي لا يمكنه أن يكون من "النخبة"، والدين أيضا هو "التجربة الروحية الجماعية" التي ينبغي إظهار قابليتها "للملكية المشتركة"- لكن في المستوى "الإعلامي"لا في المستوى الوجودي، وهو الأمر الذي يُفقد النسق الحجاجي"الحداثي" الكثير من مصداقيته عند المتلقي، الذي شكلته ثقافة لم تستطع عملية التحديث "الظاهرية" أن تفصلها عن الجدلية التأسيسية بين العلم و"التخلّق" به، كما حدّدها طه عبد الرحمن في الثقافة العربية الإسلامية"التقليدية". 

"المثقّف" الحداثي التونسي هو ذاك الذي ينتقد في كل نفس احتكار الإسلام السياسي للمعنى الديني، دون أن يُكلّف نفسه عناء البحث عن فشل الإسلام الرسمي في النهوض بتلك الوظيفة "الاجتماعية، والتساؤل عن فشله هو نفسه في بناء خطاب في الدين يبتعد بالعقل النقدي عن غرابته "المطلقة" عن الشأن الديني التي لا تحضر في المقاربات "الوضعية" إلا بما هي "موضوع" معرفة "تراثية"، لا بما هو موضوع "خبرة" أو تجربة روحية "حداثية". و"المثقّف"التونسي هو الذي ينظر إلى "الشعب" من علٍ باعتباره "كتلة بشرية" تتوقّف كينونتها "الحقيقية" على التماهي مع انتظارات "المثقّف" وإملاءاته، وإلا رمى بها إلى العدم "القيمي" باعتماد مفهوم"الشعبوية" المعبّر عن احتقار "دفين" لكلّ مظهر من مظاهر "التعبير الجماعي" المارق عن الوصاية "الأبوية" الحداثية.  

"المثقّف" الحداثي التونسي ليس هو صانع الرموز الكبرى لجماعته، ليس لأنه عاجز جوهريا عن ذلك، بل لأنه يراها جماعة "قدَرية" لاعلاقة له بها إلا من باب الصدفة. فهو  لم يُخيّر في الانتماء إليها ولا يرغب إلا في قيادتها نحو انتمائه"الإرادي" للآخر  في تعيناته الحداثية-، وهو ليس المتحكّم في حركية تلك الرموز ضمن إكراهات الأطر الاجتماعية للمعرفة (كما هو مفترض فيه)، وليس أيضا المدافع عن الرمزيات الجماعية التراثية. وهو دور غير منتَظر منه في  مستوى الانتظارات الجماعية خارج "الجماعة الحداثية"، وذلك لأنّ "الذاكرة" الجمعية التي لم تجد المثقف الحداثي يوما ما، بعيدا عن صناعة المنظور السلطوي نفسه أو معارضا لسياسات التحديث الفوقي وما خلفته من دمار لبنى التمثل التقليدية، دون النجاح في بناء تمثلات/مؤسسات حداثية حقيقية،بل إنّ  المثقّف هو –في وجه من وجوهه- مدمّر الرموز "المعتبرة" داخل مجاله السوسيوثقافي والمسفّه لأحلام المؤمنين بها ، ولكنّه يبقى عاجزا عن بناء رمزيات جديدة سواء باستلهام الموروث الديني أو العقلاني في بعديهما "العالم " La Culture Savante أو "الشعبي" La Culture Populaire. 

"المثقّف" الحداثي التونسي  هو الذي استعاض عن غياب "السند" السلطوي الحزبي ( التجمّع الدستوري ) بورثته في النظام الحاكم و ملحقاته الإعلامية المرئية و المسموعة و المكتوبة. فالتجمّع لم ينحلّ فقط ليتشظّى إلى عشرات الأحزاب،بل ليكون أيضا "أعدل المرجعيات قسمة" بين المثقفين في تحليل ظاهرة الإسلام السياسي وطرح آليات التعامل معه من جهة أولى، وفي "تبييض" النظام الدستوري –التجمعي، والتطبيع مع رموزه ومنطقه من جهة ثانية . فالتعارض بين "المثقّف" الحداثي التونسي وبين "الدولة الوطنية" منذ إنشائها بعد الاستقلال  لم يكن إلا تعارضا ضمن "مشترك قيمي علماني" على النمط اليعقوبي الفرنسي، وهو ما يُفسّر "التوافق" الوظيفي والمصلحي بين سلطة "وطنية" تابعة و عقل"تقدمي" موظّف عند تلك السلطة -خاصة في فترات "الأزمة" أو الاختلال كما حصل في عهد المخلوع زمن الحرب الموجّهة ضدّ الإسلاميين في أواخر الثمانينيات و أوائل التسعينيات من القرن الماضي-، وكما وقع أيضا من تحالفات بعد الثورة بين القوى "التقدمية" وورثة التجمع للدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي". 

يستطيع "المثقّف" الحداثي التونسي الانتقال بسهولة بين "المعارضة" اليسارية والموقع السلطوي الليبرالي، بل يستطيع حجب الترسانة المفهومية اليسارية كلها ليكون مجرّد "ناقل" للتراث الليبرالي في مفاهيمه التأسيسية الكبرى، تلك المفاهيم التي تشتغل على صعيدين متكاملين: على صعيد "شرعنة" السلطة "اللاوطنية" من جهة أولى، وعلى صعيد "شيطنة" المعارضة الإسلامية من جهة ثانية، وفي كلا المهمّتين لا يمكن "للمثقّف "النجاح إلا بالتحالف "التكتيكي" مع وكلاء "الامبريالية" الغربية، وبِعلْمنة الموروث الدوغمائي اللاواعي، وهو يحسب "واها" أنه قد خرج فعلا من الإبستيمي التقليدي إلى إبستيمي حديث. 

بصرف النظر عن الادعاءات الذاتية للمثقف الحداثي التونسي، وبصرف النظر عن خطابات الشيطنة التي أنبنت حول دوره السلبي في تعميق المسارات المتعثرة للانتقال الديمقراطي، يمكننا أن نقول إنّ "المثقّف" الحداثي التونسي هو ذاك الذي أدى -من جهة أولى- دور "المترجم الفاشل" للمعرفة الحداثية اللازمة لتحقيق التنمية في بعديها البشري والاقتصادي قبل الثورة وبعدها، وهو –من جهة ثانية- ذاك الذي أدى دور المترجم الفاشل لللانتظارات المشروعة للمواطنين منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. 

واقعيا، فشل العقل "النقدي" الحداثي حتى في الاشتغال النقدي على تاريخه وعلى خطاباته، وهو ما يعطينا الحق في وسم تلك الخطابات باللاوظيفية سواء من جهة علاقتها بالثورة واستحقاقاتها، أو من جهة علاقتها بالتأسيس المفهومي والمؤسساتي للجمهورية الثانية، لأسباب ذاتية موضوعية ليس هذا موضع تفصيلها، اختار "المثقف الحداثي التونسي" أن يبقى مرتبطا بمواقع إنتاج المعرفة والسلطة والثروة  زمن المخلوع، بحيث أصبح  في الأغلب الأعم من ظهوراته العمومية وتدخلاته الإعلامية قوة من أكبر قوى الجذب إلى مربع 13 جانفي 2011، بل قوة من أكبر القوى الارتكاسية التي تحول دون انبثاق مفهوم المواطنة، وترسيخه بعيدا عن المنظورات السلطوية التي ما قامت الثورة إلا عليها.