أصداء الأزمة
المصرية السعودية كانت مدوية على طول وعرض الساحة العربية، ولدويها قرع عال جدا في الأوساط الليبية. فمصر حليف للبرلمان والحكومة والجيش التابعين له، والولاء للنظام المصري قوي وتثبت الأيام أن التعبير عنه من قبل الفاعلين في البرلمان والجيش والحكومة ليس للاستهلاك أو التمويه، بل هو حقيقي وثابث، وها هي الأزمة المصرية الراهنة تكشف عن رسوخه.
كان لخليفة حفتر، قائد الجيش التابع للبرلمان، تصريح أثار جدلا كبيرا ذكر فيه صراحة أنه سيؤيد أي قرارات تتخذها مصر حتى لو جاءت ضد مصلحة
ليبيا. وتشنج صقر الجروشي، آمر القوات البرية، في كذا مناسبة وهو يعبر عن عمق تأييده لمصر وللنظام المصري وعن خصوصية العلاقة، وتماهى في تصريحاته مع كلام حفتر بعبارات إذا اختلفت لفظا، فإنها تتطابق في المعنى.
الجديد حول التعبير عن العلاقة المميزة مع مصر جاء على لسان زياد ادغيم، عضو البرلمان عن مدينة بنغازي، الذي صرح بثقة ووضوح عن تأييده للدعم اللامتناهي لمصر في أزمتها الجديدة، معلنا عبر عدة قنوات فضائية مصرية أن كتلة السيادة التي هو عضو فيها، التي عُرفت بدعمها للجيش ولخليفة حفتر، ومعارضتها للاتفاق السياسي، حثت الحكومة المؤقتة التابعة للبرلمان، التي تقتصر على أربعة وزراء فقط ولا يعترف بها في الفضاء الخارجي أحد حتى المصريون أنفسهم، لتوفير احتياجات مصر من الخام الأسود دون شروط ودون مقابل مالي!!
عبدالله الثني، رئيس الحكومة المؤقتة، التي أُكرر أنها فُرغت من سلطتها محليا ولا يُعترف بها دوليا، لم "يكذب خبرا" ولم يتقاعس في الامتثال لطلب الكلتة البرلمانية التي لا تمثل إلا أقل من 20% من أعضاء البرلمان، وشرع حسب ادغيم في إجراءات فتح الخزانات الليبية لتغدق على المصريين الذين يواجهون أزمة في الطاقة، بل في كل شيء.
هكذا بكل بساطة يتم التعبير عن الحلف الليبي المصري، وهو بالمناسبة حلف محدود ومشروخ، يأتي في سياق صراع سياسي عسكري ولم يقم في ظروف اعتيادية، فالنظام المصري كان سخيا في دعمه للبرلمان وللحكومة والجيش في نزاعهم مع المؤتمر الوطني وأنصاره، وقد أزفت اللحظة التاريخية لـ "رد الجميل".
لكن لم يقل لنا السيد ادغيم كيف لكتلة محدودة العدد من البرلمانيين أن تطالب الحكومة بالتحرك للوقوف مع الأشقاء المصريين فعلى الفور تستجيب، وفي الحال تتحرك للقيام بالواجب الأخوي برغم الصعوبات الكبيرة التي تمر بها البلاد؟!
بالقطع إن دعم الشقيقة مصر واجب، وليس مكرمة، لكن التحفظ هو على إخضاع الوقوف مع الشعب المصري للتجاذبات السياسية، فنعتبر المساعدة زمن المؤتمر الوطني عمالة، وفي عهد البرلمان موقفا قوميا، والشعب المصري الذي يعيش ضائقة هو الشعب المصري زمن محمد مرسي أو تحت حكم عبدالفتاح السيسي. من ناحية أخرى، فإن المصريين سيكونون أكثر تفهما لتقصير الليبيين في هذه الظروف نظرا لسوء الحال وشظف العيش الذي أَلَمَّ بمعظمهم وخاصة أهل بنغازي.
لا أدري كيف سيبرر السيد ادغيم والثني ومن لف لفهم لليبيين هذا الكرم الحاتمي، في وقت تطبق الأزمة المالية والمعيشية الخناق على رقاب الليبين، وبالذات سكان مدينة بنغازي التي يمثلها السيد ادغيم، حيث تشهد المدينة هذه الأيام بالذات نقصا حادا في الغاز والكهرباء ونقصا في السيولة جراء تراجع إنتاج وتصدير النفط، فإذا بالنفط، وفي هذه الظروف القاهرة، يذهب على الفور وفي الحال ودون مقابل لمصر.
الليبيون أهل كرم، والتاريخ يشهد بوقوفهم مع الشعوب الشقيقة ويسجل صفحات ناصعة عن دعمهم وإثارهم لدول الجوار في المحن التي مرت بها، لكن المشهد اليوم مختلف، فما يواجهه المصريون اليوم إنما هو جراء أزمة سياسية مفتعلة، وليس بسبب كوارث طبيعية أو استعمار غاشم، كما أنه يأتي في وقت يواجه فيه الليبيون أياما شديدة الصعوبة وينظرون إلى المستقبل بقلق، فإذا بهم وبثروتهم التي حرموا خيرها يقعون في سياق مزايدات سياسية، وبدفع وتوجيه تنقصه الشرعية. فالجدل حول صلاحيات البرلمان بعد التوقيع على الاتفاق السياسي ملتهب، والحديث عن عدم شرعية الحكومة المؤقتة ومؤسسة النفط في بنغازي لا يتوقف، فالحكومة المؤقتة التي يترأسها الثني ليست مقنعة حتى لأنصار البرلمان أنفسهم، ولم تقدم لأهل المنطقة الشرقية، فضلا عن عموم ليبيا، شيء يذكر، فهل مقبول أو مبرر أن تُقْدم على مثل هذا القرار؟! أترك لليبيين التعليق، وأحتفظ لنفسي بحق الرفض لهذه المزايدات.