قضايا وآراء

تساؤلات حول دور المساجد في الشأن العام

1300x600
تذكر كتب التاريخ أنّ "أوّل ملوك الإسلام" معاوية بن أبي سفيان الذي جعل الحكم "ملكا عضوضا"، كان يخطب في الناس وهو يلبس قميص عثمان بن عفّان ثالث الخلفاء الراشدين على مذهب أهل السنّة والجماعة. وكانت لذلك القميص رمزية مزدوجة: هو من جهة أولى ما تبقّى من "المقتول ظلما" وكان امتلاكه تعبيرا عن احتكار الحق في الأخذ بثأره في إطار عصبية قبلية تمّت أسلمتها في مفهوم "التعصيب" أو في مفهوم ولاية القتيل التي وظفها معاوية للطعن في خلافة علي انطلاقا منها. أّمّا الرمزية الثانية للقميص فهي أنّه قد "انتزع" انتزاعا من عثمان الذي رفض ترك الخلافة لأنها عنده -على حدّ العبارة الشهيرة التي أُثرت عنه- "قميص سربلنيه الله". إنّ القميص هنا هو رمز لسلطة أرادت أن تتماهى مع المشيئة الإلهية أو مع القدر كما سيُروّج لمفهومه الجبري حكّام بني أميّة وولاّتهم. وقد كان المسجد في العمران الإسلامي التقليدي هو "ساحة الحرب" الأخرى التي لا تقلّ أهمية عن ساحات الحرب الحقيقية. بل إننا نستطيع أن نقول -اتّباعا وتوسيعا لمنطق ميشيل فوكو- بأنّ التاريخ الإسلامي يشهد لحقيقة أنّ الحرب المادية هي امتداد طبيعي لفشل الحرب الرمزية أو تتمّة لها.

لم تكن المساجد في المجتمعات التقليدية مجرّد بيوت للعبادة ولتعليم الناس أمور دينهم، بل كانت مكانا تمارس السلطة فيه حضورها وتعمل على "شرعنة" وجودها انطلاقا من السيطرة عليه، وعلى الخطاب المنبري وسائر المعارف أو العلوم "المأذونة" على حد عبارة المرحوم محمد أركون. وكان المسجد في الاجتماع الإسلامي التقليدي -حتى بعد ظهور المدارس أو الزوايا الصوفية التي هي امتداد وظيفي وبنيوي للمساجد- هو المرادف الموضوعي "للساحات العامّة" (الأغورا  l’Agora ) أو الفضاءات السياسية الجماعية التي عرفها الجزء الشمالي من المتوسّط منذ اليونان والرومان. فلم يكن من "المفكّر فيه" بل كان مّما يستحيل التفكير فيه داخل ديار الإسلام- في مرحلتها التقليدية ما قبل الحداثية- العمل على تحييد المساجد أو حصر وظيفتها في البعد الديني وذلك لعدم وجود فضاءات أخرى تحلّ محلّها من جهة أولى، ومن جهة ثانية لعدم توفّر المسلمين على فهم مختلف للشأن الديني يجعل منه مسألة تعاقدية، أو قضية قابلة للتفاوض والحوار -أي مسألة "جماعية" ولكن ليس بالمعنى الذي تؤديه هذه الكلمة داخل "الجماعة الإيمانية" المتجانسة تجانسا يكاد يكون تاما على الأقل في مستوى تمثلها لذاتها داخل نصوص الثقافة العالمة، تلك الثقافة "المخزنية" المسيطرة على الفضاء "المدني" بصفة كبيرة، ولكنها تترك مكانها "لمظاهر التدين الشعبي ورمزياته الولائية في الأرياف والأطراف البعيدة عن سطوة الحاضرة-. 

لو أردنا اختزال الاحترازات-او الاعتراضات- التي تؤسس موقف القوى العلمانية التونسية من الإسلام السياسي لقلنا إنها ترتد إلى اعتراضين أصليّين: أولا الخوف على "النمط المجتمعي" وأساسا الحريات الأساسية في بعديها الفردي والجماعي، وثانيا رفض احتكار الإسلاميين للفضاء المسجدي وتجييره لخدمة استراتيجياتهم السياسية. إننا أمام مخاوف مشروعة أحيانا ومبالغ فيها أحيانا أخرى، ولكنها في كل الأحوال تظل ثابت بنيويا في تعامل "العائلة الديمقراطية" مع الإسلاميين رغم تعدد أشكال الحكومات بعد الثورة، ورغم دخول النهضويين إلى الحقل السياسي باعتبارهم قوة أساسية فيه. وهو ما يدعونا إلى تدبّر هذه القضية الجوهرية المرتبطة بالواقع التونسي وبما نعمل جميعا على نحته في إطار المشروع المجتمعي القادم لبلادنا. ذلك المشروع الذي لا نريده أن يكون مدخلا ليعقوبية جديدة تدعي امتلاك الحقيقة الدينية وتحتكر إدارتها وتسويقها، كما لا نريده أن يكون منبرا لوهابية خفيّة تدعي التوقيع عن رب العالمين وتمارس سياسة الحاضر بمفاهيم الماضي ورهاناته. 

توجد الكثير من الأسئلة التي ينبغي التفكير "معًا" فيها  والبحث عن أجوبة توافقية لها، وقد اخترنا أن نطرح بعضا من الأسئلة التي قد توفّر الإجابة الجدية عنها بعض العناصر الصالحة لتجاوز الأومة المجتمعية التي تعيشها تونس:

- أي دور للمساجد في مجتمع من المفترض أن تنفتح منابره ومؤسساته لكل الأطروحات الفكرية اليسارية واليمينية والقومية واليبيرالية وغيرها، وهل فعلا يمكننا أن نتحدث عن "حيادية" المنابر المدنية العمومية -بثقافيها وإعلاميها ونقابيها-  أم إننا أمام انحيازات واصطفافات مؤدلجة ومتحزبة، بحيث قد يكون ثمن المحافظة على انحيازها هو تكثيف الخطاب حول حيادية المنابر الدينية؟

- هل يقبل الفاعلون السياسيون من الإسلاميين "بتحييد" المساجد وقدرتها التعبوية الكبيرة ويكتفون بالمنابر المدنية وغيرها، لكن ما معنى التحييد في مجتمع مازالت نخبه العلمانية تعتبر المجتمع المدني شأنا حداثيا خاصا بحيث ترى كل حضور إسلامي ضربا من الاختراق ومن التهديد لمصالحها المادية والرمزية؟

-متى يقبل العلمانيون بالتفكير من خارج النموذج اللائكي الفرنسي فيتدبرون المسألة الدينية بعيدا عن المقاربة الأمنية في حالات الصدام والتوتر الاجتماعي، وبعيدا عن اعتبار المساجد خزانا انتخابيا للإسلاميين في حالات السلم الأهلية والاشتغال الطبيعي للحقل السياسي؟ 

-كيف يستطيع "الديمقراطيون" تجاوز نظرتهم "الاستعلائية" والاختزالية للدين، تلك النظرة القائمة على خلفية يعقوبية وضعية متطرفة ترى الدين مجرّد شأن "خاص" لا علاقة له في المجال العام ولا تأثير له في الاختيارات الجماعية الأساسية -أي متى يتخلون عما تسميه إحدى الباحثات بـ"تأنيث الدين" أي حصره في نطاق المنزل والفضاء المغلق البعيد عن أعين السلطة "الذكورية"-؟ 

-هل من مصلحة التونسيين أن يحصر الإسلاميون الروحانية الدينية في البعد التشريعي أم إن من مصلحة الجميع -بمن فيهم الإسلاميون أنفسهم- الانفتاح على أشكال من التدين كانت هدفا للهجمات الفقهية وبالأخص من قبل الحنابلة وورثتهم من الوهابية ومجمل الحركات السلفية.

-متى يتجاوز الإسلاميون النظرة التراثية التي تجعل الفقهيات جزءا ماهويا من الدين، فيبنون موقفا من "الدولة المدنية" انطلاقا من قبول التمايز -لا التعارض أو التنافي- بين التدين والمواطنة، وبين السلوك إلى الله والعيش"معًا" في المدينة؟ 

-هل يجب أن نصادر منذ البدء على استحالة علمنة الإسلام -بمعنى قريب من العلمانية الجزئية التي فصّل القول فيها المرحوم عبد الوهاب المسيري- والبناء على فرضية التعارض الماهوي الجذري بين الأشكال الممكنة للتدين والأشكال المهمّشة أو غير المفكّر فيها جيدا من العلمانية -الانغلوسكسونية أو الألمانية أو حتى نحت نموذج "وطني" يساهم فيه كل الفاعلين الجماعيين بحثا عن توازنات تشريعية ورمزية وروحانية أكثر تعبيرا عن مجمل الإرادات الفردية-؟

إنها بعض الأسئلة التي أسوقها دون أن أزعم القدرة على الإجابة عنها. ولكنني أزعم أنني –معرفيا وسياسيا- في موضع تضادّ كلّي مع أي خطاب يزعم إمكان وجود"فصل المقال" فيها. ولكنّ استحالة الإجابة الفردية لا تعني بالضرورة استحالة الوصول إلى توافقات جماعية بشأنها. وهي توافقات لا ترتقي إلى مستوى الإجماع ولا ينبغي لها التفكير في بلوغه. فالإجماع سواء بمعناه الأصولي-الفقهي أو السياسي الحداثي هو ضرب من المغالطة والتعمية التي لا يراد منها إلا التدليس على الناس في معاشهم ومعادهم.

يُعلّمنا التاريخ أنّ المجتمعات لا يمكن أن تنفصل عن مبدأ القداسة حتى وإن اتخذ التقديس صيغة معلمنة وبعيدة –في ظاهرها- عن أية إحالة دينية. ولكنّ القداسة قد تتحوّل إلى مبدأ للإرهاب وأداة لتفتيت النسيج المجتمعي وذلك حين ترتبط بمصالح وتضامنات جهوية وفئؤية وإيديولوجية لا تعلّق لها بالدين وبالروح أصلا. كما ينبئنا التاريخ أنّ كلّ خطاب دوغمائي لن يكون في نهاية أمره إلا بوّابة مفتوحة على الإلغاء والتهميش لكل مختلف أو معارض، سواء كانت الدوغمائية تنطق باسم حقوق الإنسان أو باسم حقوق الله. وهي ملاحظة تدعونا إلى تكثيف المجهودات النظرية -من مواقع إسلامية وعلمانية مختلفة – قصد بناء رؤية حداثية لدَور المساجد في الجمهورية الثانية، رؤية لا تلغي المسجد ولا تستلحقه بالضرورة بوزارة الداخلية وباستراتيجيات الهيمنة البرجوازية المتخفية وراء أسطورة النمط المجتمعي، ولكنها -في الوقت نفسه- لا تجعل المسجد نهبا لأعداء الدولة وللمسكونين بكل ما يعارض ثقافة المواطنة وقيم العيش المشترك.