قضايا وآراء

المبدئي والسياسي في محليات فلسطين

1300x600
تلقى الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ صدى كبيراً يتجاوز مجرد كونها تتعلق بانتخاب هيئات محلية وظيفتها حل مشكلات النظافة والمياه والطرقات والمرافق العامة.

هذا الجدل الكبير المثار حول انتخابات محلية؛ هو نتيجة طبيعية لحالة غير طبيعية، تتمثل في الاستقطاب السياسي والاجتماعي الحاد للمجتمع الفلسطيني، وتسييس كل مرافق الحياة، وهيمنة الكتل الصماء الكبيرة على المشهد، بديلاً عن المجتمع الطبيعي الذي يبحث الناس فيه عن البرامج الخدمية لا عن الاعتبارات السياسية.

ما هو مفترض هو أن تكون المجالس البلدية مجالس للخدمة؛ يُنتخب أعضاؤها على أساس كفاءتهم المهنية، ويحاسبون أيضاً على أساس تقصيرهم المهني، إذ لا علاقة لمشكلة توصيل المياه أو فتح طريق بالهوية السياسية لأعضاء المجلس البلدي ولا حتى بدينهم. وحين قدم يوسف نفسه لتولي خزائن مصر لم يفعل ذلك بصفته صاحب مشروع أيديولوجي، إنما لأنه رأى في نفسه الكفاءة لتقديم مشروع عملي لحل مشكلة المجاعة، وقد كان هدفه الرئيس من تولي الحكم: كيف يدير مشكلة المجاعة وكيف تتم عدالة التوزيع؟

تسييس انتخابات الخدمة يضر بمصالح الناس؛ لأن الشعارات الكبيرة تحجب التفاصيل الحيوية، ويتخذها المقصرون جُنةً يتقون بها عاقبة تقصيرهم؛ لأنه سيكون بوسعهم حين ينتقدهم الناس على تقاعسهم أن يهربوا من مسؤولياتهم بالقول: "إن هذه الاتهامات مسيسة وهي تستهدف البرنامج السياسي الذي نمثله"، وستؤدي هذه الأجواء الاستقطابية بأعضاء الحزب إلى السكوت عن التقصير المهني أو تبريره؛ لأن الوضع العام صار ملوثاً بالتسييس وتصيد العثرات، ولم نعد في ميدان الكفاءة المهنية المجردة التي تتقدم فيها البرامج الأنفع والأصلح للناس ويحاسب فيها الجمهور المسؤولين على ما قدموه وحسب دون مخافة أن تفسر مواقفهم في اتجاهات أخرى.

تغييب المجتمع لصالح الأحزاب يضعف المجتمع ويميت حيويته؛ لأن المجتمع أقرب إلى التلقائية من أحزابه، والناس يهتمون بمشكلاتهم الحياتية على نحو أكفأ من التنظيمات التي تخلط هذه المشكلات باعتباراتها السياسية، كذلك حين يعلم العضو المنتخب أن الجمهور وحده هو الذي يملك قرار إنجاحه أو إفشاله، دون استقوائه برصيده التنظيمي أو برصيد تنظيمه؛ فإن حرصه على خدمة الناس سيكون أشد وتفانيه في عمله المهني سيكون أكبر، لذلك فإن المصلحة العامة تقتضي ألا يقزّم الشعب في حدود التنظيم واعتباراته الضيقة، وأن تكون هناك مساحات تحيد فيها السياسة ويترك فيها المجتمع الطبيعي للتعبير عن نفسه.

أقول إن هذا هو المفترض، لكن الواقع - مع الأسف- بعيد عن هذه الحالة الطبيعية، بعد أن أفسدت ملوثات السياسة قدرة الناس على العيش الطبيعي، بل أفسدت أيضاً قدرة الكاتب على الكتابة بأريحية؛ لأن الناس لا يفكرون في ظل هيمنة حالة الاستقطاب، فينظرون إلى من يعيد التذكير بالمبادئ بأنه غارق في المثالية أو يحذرونه من أن هناك من سيعيد توجيه كلامه في اتجاه سياسي، وبذلك صار حتى التذكير بالمبادئ عنصراً استقطابياً في ظل حالة مَرَضية لا صوت يعلو فيها على صوت العاطفة والتحشيد.

الحالة الفلسطينية مختلة من جذورها، فالانتخابات لا تؤشر على رغبة صادقة في الشراكة واحترام خيارات الناس فيمن يمثلهم، إنما هي أداة للاستعمال السياسي استحضرها محمود عباس عام 2005 لتوريط حركة حماس في مستنقع السياسة، وهو يستحضرها ثانيةً في 2016 لإخراج حماس من الباب الذي دخلت منه، أي أن الوسيلة الانتخابية التي جُعلت لتكون أساساً للشراكة الوطنية تحولت إلى وسيلة للإقصاء السياسي، فأي مهزلة أكبر من هذا؟ وكيف يُراد للشعب الفلسطيني أن يحتفظ بثقته في الانتخابات بعد أن تبين له أنه لا احترام لصوته، وأنه يتم استدعاؤه لا ليكون صاحب القرار إنما لتمرير الأجندة السياسية للطبقة الحاكمة من خلال صوته؟

الانتخابات أكبر من الحاكم، ووظيفتها أن تغير الحاكم، لكن في حالتنا فإن الحاكم أكبر من الانتخابات، فهو الذي يقرر استدعاءها في الوقت الذي يظن أنها ستعزز سلطته وتهمش خصومه!

تؤكد التجربة المريرة للفلسطينيين في العقد الأخير أن الانتخابات ليست هي المدخل الصحيح للخروج من المأزق، وأن هذه الانتخابات ما لم تكن مسبوقةً بضمانات حقيقية للشراكة وصياغة برنامج وطني متفق عليه وهيئات تمثيلية معبرة عن كافة قوى الشعب الفلسطيني، خاصةً القوى الجديدة خارج الفصائل التقليدية، فهي مجرد ديكور هزلي. إن من مقتضيات العقل حين تسير في طريق فتجده مسدوداً أن تخرج منه وتبحث عن طريق آخر، لكن ما نفعله بعد أن وجدنا الطريق مسدوداً هو أننا نرطم رؤوسنا بالجدار، ظناً منا أننا سنفتح الطريق، لكن الخشية هي أن تتحطم الرؤوس ولا يتحطم الجدار!

في مقابل خبث محمود عباس، لا يبدو أن حركة حماس تعلمت كثيراً من أخطاء السنوات العشر الأخيرة، يشهد على ذلك أنها لا تزال تكرر نفس الأداء بنفس المنهج، إذ نرى في معركة التحشيد الانتخابي استحضاراً لذات المفاهيم التي تم استحضارها في الانتخابات السابقة، مثل البيعة والجماعة والولاء والبراء، ومثل رصيد الحركة في المقاومة والتضحية مقابل التنسيق الأمني للفريق الآخر مع العدو، رغم أن تجربة السنوات المنصرمة أثبتت أن مقتضيات الحكم أعقد بكثير من هذا التبسيط المخل لتعقيدات العمل السياسي وشروط النجاح الاجتماعي. إن الناس يريدون من يوفر لهم الحد المقبول من الخدمات ومن يساهم في التخفيف من معاناتهم، ومع التقدير لكل التضحيات، فقد أثبت الميدان العملي أن توفر الصدق لا يكفي للنجاح، بل إن الكفاءة الفردية أيضاً لا تكفي، فكثيراً ما تولى أشخاص أكفياء الشأن العام لكنهم لم ينجحوا لأن المعادلة الاجتماعية أعقد من قدراتهم الفردية، فلا بد للنجاح من جو صحي عام و رؤية تفصيلية لإدارة شئون الناس وإدراك التحديات و الوسائل العملية للتعامل معها، ولا بد من آليات فعالة للتخطيط والتنفيذ والتغذية الراجعة بما يضمن التطور الدائم للأداء.

لا أتمنى أن ينجح مشروع محمود عباس السياسي في إقصاء حركة حماس من المشهد الوطني، وفي إعادة الحالة الفلسطينية لحكم الفصيل الواحد والفرد الواحد، وفي استغلال أي نتيجة سلبية لتمرير مشروعه السياسي. وأتمنى في الوقت ذاته؛ أن تتعلم حركة حماس من تجربتها وأن تطور أدواتها، لذلك ستحسن الحركة صنعاً لو أنها خففت حدة الاستقطاب السياسي في الساحة الفلسطينية، عبر دعمها قائمةً من ذوي الكفاءة المهنية من غير المحسوبين تنظيمياً عليها بشكل صارخ، مثل هذا الخيار سيكون مفيداً من عدة زوايا، فهو لن يغيب الحركة عن المشهد السياسي، وسيراعي أن المجتمع الطبيعي الذي يستطيع الناس فيه تكوين قوائم مستقلة والمنافسة والفوز على أساس البرنامج وحدها لم يولد بعد، وفي الوقت ذاته سيكسر حدة الاستقطاب وسيعيد الاعتبار لخدمة المواطنين معياراً وحيداً لتقويم العمل ولتقييم المسؤولين.