يشكل التحليل السياسي اوالاستراتيجي احد الادوات المهمة لفهم التطورات السياسية في العالم وذلك مقدمة لتحديد الموقف مما يجري ومن اجل اتخاذ القرارات المناسبة من هذه التطورات، لان اي موقف يؤخذ من حدث سياسي سيكون لها تداعيات عملية وفكرية وميدانية، وكلما كان التحليل دقيقا وصائبا وعلميا كلما كانت القرارات صحيحة وواقعية وتتناسب مع مصالح الناس او البلد او المواطنين او الدول بشكل عام.
لكن للاسف فان غالبية التحليلات السياسية والاستراتيجية في العالم العربي (وليس كلها) تتسم بالبؤس والفقر واللاموضوعية، مما يؤدي الى نتائج سلبية او خاطئة سواء بالنسبة للمحللين او السياسيين او اصحاب القرار.
والدليل الجديد على بؤس التحليل السياسي والاستراتيجي في العالم العربي كيفية التعاطي مع محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا والتي تكشف عن اختلاط الامنيات مع الوقائع والتسرع في تحديد المواقف وعدم معرفة المحللين والباحثين والسياسيين بالمعطيات الدقيقة عن الحدث.
طبعا لا يعني ذلك عدم وجود محللين وباحثين سياسيين واستراتيجيين جيدين ولديهم القدرة والموضوعية لاعطاء المعلومات والمواقف والاراء بدقة، مما يجعلهم مصدرا مهما لفهم ما يجري ويجعل ارائهم ومواقفهم مفيدة للجمهور او للناس او لاصحاب القرار.
وبالعودة الى كيفية تعاطي بعض المحللين السياسيين والباحثين الاستراتيجيين مع الانقلاب الفاشل في تركيا لاكتشاف بؤس هذه التحليلات (وقد يكون لبنان وسوريا ومصر ودول اخرى نموذجا لما حصل) ، نلاحظ ان الكثيرين من المحللين والسياسيين سارعوا للتأكيد ان الانقلاب نجح وان نهاية الرئيس التركي رجب طيب اردوغان اصبحت محسومة وانه لابد من التعاطي مع الاوضاع على هذا الاساس ، وهناك نماذج عديدة برزت في هذا الاطار وليس هناك حاجة لاعادة تكرارها.
وقد أغفل الكثيرون من المحللين دور الشعب التركي في مواجهة الانقلاب، وذلك اما بسبب عدم معرفتهم بالاوضاع الجديدة في تركيا في السنوات الاخيرة او بسبب عدم الاخذ بعين الاعتبار دور الشعب او الناس او المواطنين في العملية السياسية في اي بلد عربي او اسلامي، لان الكثيرين يعتبرون ان الشعب ليس له اي دور في التغيير السياسي، وطبعا يتناسى الكثيرون كل ما جرى في العالم العربي منذ الثورة التونسية عام 2010 وحتى اليوم.
ومن ناحية اخرى وبعد فشل الانقلاب بدأ الكثير من المحللين تقديم المعلومات والاراء حول اسباب فشل الانقلاب ومن يقف وراء الانقلاب او وراء الفشل، وهنا تصبح المصيبة اكبر، ففي حين يقول البعض ان اميركا وراء الانقلاب يقول اخرون ان اميركا هي التي افشلته ولا احد يقدم روايات حقيقية او موضوعية مبنية على معلومات، ومن الامور الملفتة ان حزبا اسلاميا عريقا اصدر تحليلا سياسيا لما جرى في تركيا اعتبر فيه ان دولة اوروبية (بريطانيا) تقف وراء الانقلاب او تدعمه مع انها لم تضع الخطة بل تركت الامر لرجالها وان اميركا تريد التخلص من الوجود الانجليزي في الجيش التركي .(طبعا هذا التحليل يرتكز على المقولة التاريخية لهذا الحزب بان كل ما يجري في العالم هو صراع بريطاني- اميركي.
واما بعد فشل الانقلاب فان المؤيدين لحزب العدالة والتنمية والرئيس التركي رجب طيب اردوغان عمدوا الى تقليل اهمية الاوضاع التركية الداخلية وموقف بعض قادة الجيش وشخصيات تركية اخرى مما يجري وسارع اخرون الى اتهام زعيم جمعية خدمة فتح الله غولان بالوقوف وراء الانقلاب والدعوة الى تطهير المؤسسات التركية من انصاره وانهاء كل المؤسسات التابعة له، ويبرر هؤلاء كل ما يقوم به اردوغان والحكومة التركية من اعتقالات ومحاكمات، وقد سارع الكثير من الاسلاميين لتبني هذا الرأي واعتبار تركيا الدولة الاسلامية التي يجب الدفاع عنها بغض النظر عما يحصل فيها اليوم ، وان كان لا بد من الاشارة الى مقال الكاتب الاسلامي فهمي هويدي عن الاوضاع في تركيا والذي كان متوازنا ودقيقا وحمل اشارات مهمة مما يجري.
وفي الختام وبدون اعطاء دروس في التحليل السياسي او الاستراتيجي لأنني لست المخول لذلك، ما اود الاشارة اليه انه علينا ان نفصل في مواقفنا وارائنا السياسية بين الامنيات والوقائع، وان لا نتسرع في الحكم على التطورات قبل استكمال المعلومات ومعرفة حقيقة ما يجري لانه بدون ذلك نواجه مشاكل كثيرة ولا نستطيع ان نعي ما يجري حولنا او ان نحدد الموقف المطلوب، والله اعلم.