قضايا وآراء

في العلاقة اللاواعية بين "رُهاب الإسلام " و"رُهاب الديمقراطية"

1300x600
عرفت تونس بعد 14 جانفي 2011 العديد من الهزات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية والتحديات الأمنية التي كان لها تأثير كبير في تحديد مسارات الانتقال الديمقراطي وفي ضبط سقفه النظري ومحصوله الواقعي. ورغم أن هذه الاختلالات هي أحداث  "متوقّعة" من منظور الصراع "الحتمي" بين القوى الثورية والقوى الثورية المضادة، فإنّ ما ميّز الحدث التونسي هو أن التعامل مع الوضع الانتقالي الهش  قد  انحكم الى منطق الصراع الهووي الثقافوي، ذلك المنطق الذي وضع أغلب القوى الحداثية والعلمانية في مواجهة مفتوحة مع الإسلاميين بصفة عامة ومع حركة النهضة بصفة خاصة. فشاهدنا تكثيفا  للخطابات التي تحمّل حركة النهضة بصورة أصلية -وحكومة الترويكا بصورة مشتقة- المسؤولية الرئيسية في كل ما حصل بعد انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر من سنة 2011. وبصرف النظر عن القيمة العلمية المحدودة للتفسير بالعامل الواحد-وهو أمر لا يجادل اليوم فيه أحد من المختصين في العلوم الانسانية-، فإنّ الاستراتيجية الصدامية التي اعتمدتها أغلب القوى الحداثية في التعامل مع حركة النهضة من منطلق التنافي والصراع الوجودي لا الخلاف السياسي كانت بلا شك-ومازال- من أهم العوامل المتحكمة في المشهد السياسي العام بتونس. 

لعل من أهم الحجج المعتمدة من لدن القوى الحداثية في موقفها الصدامي مع حركة النهضة هو ما تُمثله هذه الأخيرة من خطر على الديمقراطية وعلى "النمط المجتمعي التونسي" المرتبط بها. ولمّا لم نكن هنا في وارد بيان العلاقة "التنابذية" أو "العكسية"  بين أي مشروع ديمقراطي حقيقي وبين الأساطير المؤسسة  "للنمط المجتمعي التونسي"، فإننا سنكتفي بطرح بعض الأسئلة على الذين يمكن تعريفهم  بالتضادّ المطلق والنهائي مع حركة النهضة أكثر مما يمكن تعليل أي صفة من صفاتهم الديمقراطية "الحسنى" بعيدا عن التضخم المرضي للأنا وعن الادعاءات الذاتية: هل يمكننا حقا أن نجاري "القوى الديمقراطية" في مصادرتها على أن الخطر الأكبر على الانتظام السياسي التونسي وعلى "النمط المجتمعي" يأتي من التطبيع مع الإسلاميين –خاصة مع حركة النهضة- والقبول بهم  فاعلا جماعيا "قانونيا"، وهل يستطيع  إقصاء الإسلاميين من الحقل السياسي أن يضمن لنا "ديمقراطية" حقيقية أم إنه سيكون مدخلا للعودة إلى مربع 13 جانفي 2011 ؟  أي هل إن ما تسعي إليه القوى "الديمقراطية" العلمانية من احتكار لمجالات الفعل السياسي والجمعياتي والنقابي  ومن رغبة في منع إعادة توزيع الثروات المادية والرمزية على أساس الشراكة مع الإسلاميين هو خيار استراتيجي"عقلاني"  بحيث يمكننا تعليله والدفاع عنه  أخلاقيا وسياسيا  أم إنه مجرّد سلوك ارتكاسي وخيار "رجعي" انتهازي -رغم ظاهره التقدمي-،  رغم إصرار العديد من الأطراف"التقدمية" على "تسويقه" باعتباره "ضرورة"سياسية وأخلاقية؟

تنطلق هذه الأفكار الأوّلية التي تبحث في العلاقة بين "رُهاب الإسلام" –أي النزعة العدائية تجاه حركات الإسلام السياسي، بل النزعة العدائية تجاه الإسلام في ذاته بعقائده وقيمه وتشريعاته ورموزه وتاريخه-  وبين سلوك النخب الحداثية-العلمانية ومواقفها من التحوّلات الديمقراطية من الفرضية التالية: ليس "رُهاب الإسلام" ولا العلاقة العدائية بحركات الإسلام السياسي إلا عرضا من أعراض أزمة بنيوية  تجد جذرها ومبدأها التفسيري في تمثل النخب الحداثية لمعنى الديمقراطية وفي فهمها لطبيعة دورها في الانتقال الديمقراطية بعد الثورة التونسية. ولو شئنا صياغة هذه الفرضية بصورة أخرى لقلنا: إنّ الخوف  من الإسلاميين الذين جاءت بهم الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع لا يعبّر "فقط"  عن مخاوف"مشروعة"  على "النمط المجتمعي التونسي" وعلى الانتقال الديمقراطي بقدر ما يعبّر في بنيته العميقة عن  رفض للاعتراف بالانكسار البنيوي العميق الذي جسدته الثورة التونسية في مستوى الحقل السياسي وآليات اشتغاله، أي إنّ المخاوف من "الإسلام السياسي" هي تعبير عن محدودية في الخيال السياسي "الحداثي"  الذي يصر على الاشتغال بمنطق "لاوظيفي" بحيث يبقى عاجزا عن اجتراح الحلول لواقع لا يقبل المقايسة رغم إغراءات "المجهود الذهني الأدنى". وتأتي السمة "اللاوظيفية" لهذا المنطق من رفض أصحابه الاشتغال النقدي على ذواتهم وعلى أساطيرها التأسيسية، وبكرههم المغامرة النظرية والانفتاح على المختلف الجذري والضديد  وذلك لما قد يكون لهذا الانفتاح  من كلفة كبيرة على امتيازاتهم المادية والرمزية المنحدرة إليهم من عهد المخلوع. وهو ما يعني في التحليل الأخير أنّ "رُهاب الإسلام" هو عند الكثير من رموز النخبة الحداثية مجرد  عنصر أوّل في  بنية ثنائية يدخل طرفاها  في علاقة استبدالية "غير واعية" في أغلب الأحيان، ونحن نفترض أنّ العنصر الثاني منهما لا يمكن أن يكون بالضرورة إلا "رُهاب الديمقراطية". 

ماذا يعني هذا المبدأ التفسيري بالضبط؟ إنه يعني ببساطة أنّ النخبة "الحداثية" التي عجزت بعد 14 جانفي2011 عن القيام بأي نقد ذاتي أو مراجعة لمجموع اختياراتها في علاقتها بالسلطات المتعاقبة على حكم تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، قد وجدت نفسها مضطرة إلى إعادة إنتاج مواقعها التقليدية زمن المخلوع وذلك باستعمال أنظمة التسمية المولّدة للاستقطابات "المؤدلجة" الموروثة من العهود الاستبدادية. إننا في الحقيقة  أمام "مجموعات وظيفية" رجعية ومحافظة لا يمكنها –رغم كل ادعاءات التقدمية والثورية- إلا أن تعرقل أي قطيعة جذرية مع المنظومة الدستورية-التجمعية، كما لا يمكنها إلا أن تدافع عن المصالح المادية والرمزية المرتبطة  بالنظام السابق - بمفهومه العام الذي يتجاوز مظهره"السلطوي"المؤسّسي-. ولعلّ من أكبر المفارقات التي أظهرتها الثورة التونسية هو أنّ أغلب نخبتنا الحداثية التي تعاني"ظاهريا" أو في مستوى خطاباتها"الواعية" من "رُهاب الإسلام"- باعتبار الإسلام  السياسي خطرا جوهريا على الحياة الديمقراطية- ، هي في الحقيقة –أي في مواقفها الواقعية وخياراتها الاستراتيجية المرتبطة بلاشعورها المعرفي-  مسكونة  ب "رُهاب الديمقراطية" وذلك لأن مفاعيل الديمقراطية  قد تدفع بهم بعيدا عن مراكز القرار وتحرمهم من امتيازاتهم التي ارتبطت أساسا بالمنطق الزبوني للدولة "الوطنية". 

إنّ الديمقراطية بما هي احتكام للإرادة الشعبية ولصناديق الاقتراع من جهة أولى، وبما هي ضمانة للقبول الطوعي  بقوانين "السوق" في مجال إنتاج المعرفة المشروعة والرموز الجماعية من جهة ثانية، قد "تُرعب" الكثير من الوجوه المهيمنة على المشهد المجتمعي التونسي، تلك الوجوه التي تحتكر حقلي السياسة و"الحقيقة" وترفض انبثاق أي فاعل جماعي قد ينازعها فهمها لآليات أو مرجعيات إدارة العلاقة بين السلطة والحقيقة. فالفهم اليعقوبي الفرنسي لطبيعة العلاقة بين الدين والسياسة قد صار عند النخب الحداثية من البداهات أو من المقدسات غير القابلة للتفاوض أو المراجعة. ولذلك لا يمكن فصل ردود الأفعال المتشنجة التي تصدر من الكثير من النخب الحداثية بمختلف مراكزها وصفاتها الاعتبارية -والتي يبلغ التشنج فيها أحيانا حد الدعوة الصريحة إلى تونسة السيناريو المصري- عن الواقع المجتمعي الجديد الذي كان يؤذن -في حالة اتّباعه مسارا طبيعيا- بانحصار هيمنة تلك النخب على المشهد الثقافي أو الإعلامي أو السياسي أو حتى النقابي بصورة غير مسبوقة. 

بعد 14 جانفي 2011، أحسّت الكثير من نخبنا الحداثية -التي كان أغلبها مرتبطا وظيفيا بنظام المخلوع- أنّ المد الإسلامي من جهة أولى، والمدّ الثوري من جهة ثانية، سيهددان مصالحها وامتيازاتها التي كانت مرتبطة بمواقعها المتقدمة في بنية السلطة النوفمبرية وسيجعلان منها "كائنات لاوظيفية" في سياق الانتقال الديمقراطي. وعِوض أن تنحاز تلك النخبُ لاستحقاقات الثورة وللأفق المواطني التحرري الذي تحمله، وعوض أن تقوم بنقد ذاتي جذري لخياراتها التي جعلتها تعيش بالضرورة هذه "العطالة" وهذا الدور"الارتكاسي" بعد الثورة، فإنّ نخبتنا وجدت مهربا في بعض المقولات"التسكينية"  التي تجنبها الاشتغال النقدي على الذات وتوفّر لها طمأنينة وإشباعا نفسيا وهميين. فكان أن تعاملت مع الإرادة الشعبية التي عبّرت عنها  انتخابات أكتوبر 2011 بجملة من المصطلحات التبخيسية والاختزالية الساعية إلى تتفيه المسار الانتقالي وإلى شده دائما إلى مربع 13 حانفي 2011 ، بل إلى مربع 7 نوفمبر 19878 أحيانا. 

وقد تمحورت تلك الاستراتيجيات الارتكاسية التي خدمت الثورة المضادة -بوعي أو بدون وعي- على وصم الإرادة العامة ب"الشعبوية" وعلى التشكيك في الناخب(ة) التونسي(ة) وقابليته(ا) "الطفولية"للتلاعب ولتزييف الوعي خاصة من لدن الحركات الإسلامية. كما إنها قد عمات على إشاعة جو من السوداوية والتيئيس والتبئيس بحيث تحمل المواطن البسيط حملا على التحسر على أيام المخلوع.  وبصرف النظر عن النظرة الاستعلائية وعن المغالطات التي تحكم هذا المنطق "المتعالم"، فإن الإشكال ليس في توصيف الواقع التونسي بعد الثورة، بل في البدائل التي كانت النخب الحداثية العلمانية تدعو إليها لمواجهة أزمات ذلك الواقع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا. وهي بدائل يمكننا أن نصفها بأنها بدائل"رجعية" و"ارتكاسية"، بل يمكننا أن ننعتها بأنها بدائل"دموية" لا تختلف في شيء عما أنتجه البوليس السياسي ولجان التفكير التجمعية من مقاربات استئصالية.  فرغم كل التأنقات اللفظية والحجب الاستعارية والادعاءات التقدمية، كانت النخب الحداثية في أغلب مواقفها تعبّر في الحد الأدنى عن حنين مرضي إلى عهد المخلوع وما حكمه من إقصاء للإسلاميين ومن استهداف أمني ممنهج لهم بتواطئ من البوليس العقائدي بصيغته الأمنية والثقافية-الإعلامية، كما كانت تلك المواقف  تعبّر في الحد  الأقصى عن نزعات صدامية مرضية أخرجها الانقلاب المصري من قمقها "الانساني جدا"  ولكن حالت دون تونستها عوامل إقليمية ودولية لا تعلّق لها بإرادة رئيس الدولة ولا بالنوايا الخيرة للنخب الحداثية. 

لا يمكن للمراقب المنصف للشأن التونسي أن يُحمل النخب  الحداثية وحدها المسؤولية عن تغذية الاصطفافات الهووية الثقافوية وعن جرف الأنظار عن القضايا الحقيقية للمواطن التونسي خدمةً للنواة الصلبة للنظام السابق. فلا شك في أن الإسلاميين –بمن فيهم النهضويين- قد كان لهم من الأخطاء الكثير، بل كان لهم من المواقف  ما لا يقل بؤسا عن خيارات اليسار الثقافي وغيره. ولكنّ ما لا يمكن إنكاره هو أن تلك النخب الحداثية قد كانت هي الأقدر "نظريا" على خدمة المشروع المواطني للجمهورية الثانية. فلو أنها اتخذت مسافة نقدية من ذاتها وعملت على أن تفكّر"مع" غيرها لا أن تفكر بالنيابة عنهم لكنا قد تجنبنا الكثير من الأزمات ولكنا في وضع يتسم بثقة متبادلة أكبر بين أهم الفاعلين الجماعيين. ولكنّ رفض تلك النخب للمغامرة النظرية وللمخاطرة السياسية، جعل أغلب تدخلاتها العمومية موسومة بالسلبية والمحافظة بل بالردة الصريحة أحيانا إلى الحاضنة الدستورية-التجمعية. ولذلك لا نستغرب إن ساهمت في إعادة الكثير من رموز النظام النوفمبري  إلى واجهة المشهد السياسي والإعلامي والثقافي وغيرها وفي حمل الوعي الشعبي على "التطبيع" والتصالح معهم بعيدا عن المحاسبة ، كما لا نندهش من دور تلك النخب السلبي في عرقلة مسار الانتقال الديمقراطي وفي تأزيم الوضع العام بالبلاد بمنع تشكّل حقل سياسي "طبيعي" غير نابذ للإسلاميين الذين قبلوا بالعمل السياسي القانوني، ولا خادم بالضرورة لاستراتجيات المنظومة القديمة في إعادة التموضع والانتشار. 

لقد وصلنا بعد عامين من حكم الرباعي لتونس إلى وضعية مجتمعية مفتوحة على الكثير من الممكنات الكارثية، ولكنها تبقى ممكنات لا حتمية تاريخية. ونحن نعتقد أنه يمكن للنخب الحداثية-إن هي تخارجت مع مقدساتها المعلمنة وراجعت بعض أساطيرها التأسيسية- أن تخفف من انحدار هذا الوضع إلى مرحلة الفوضى المعممة أو الاحتراب الأهلي وذلك بالعمل على التخفيف من حدة الاصطفافات الهووية-الثقافوية، وبمقاومة عمليات تزييف الوعي لا بالمسامهة فيها والتنظير لها في ظل أزمة اقتصادية خانقة قد تؤذن بإفلاس الدولة وبتحوّلها-لا قدر الله-  إلى دولة "فاشلة".