كتاب عربي 21

"قضية الجزر".. محاولة للفهم!

1300x600
من لسعته "الشوربة" لا يلام إلا إذا نفخ في "الزبادي"، ولأن "الزبادي" ليس متفقاً على اسمه عربياً، فيمكن استبدال "الأيس كريم" به؛ ليقال من لسعته "الشوربة" ينفخ في "الآيس كريم"!

ولهذا، فقد كان الشك هو ما استقبل به كثيرون حكم محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار يحيى الدكروري، بإلغاء قرار ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية، والذي بمقتضاه تنازل نظام عبد الفتاح السيسي عن جزيرتي "تيران" و"صنافير"!

البعض رأى أن الحكم صدر بتوجيه، معتقداً أن السيسي أراد الرجوع في كلامه، بعد أن تسبب القرار في فقدانه للثقة والاعتبار حتى في دائرة مؤيديه، والبعض ذهب إلى أبعد من هذا، فربما لم تقم المملكة العربية السعودية بالوفاء بما وعدت به، فلم يحصل على عمولته كاملة من جراء عملية التنازل، أو البيع، وهو أمر كاشف عن النظرة المغرقة في السلبية لرجل حصل على أعلى الرتب العسكرية، وتولى منصب وزير الدفاع في مصر!

هذا الاعتقاد لم يستمر طويلاً، فقد بدت سلطة الانقلاب غاضبة بسبب صدور هذا الحكم، وعبرت عن غضبها من خلال من دفعت بهم لإهانة الحكم، والتأكيد على عدم اختصاص المحكمة بالنظر إلى عمل من أعمال السيادة، وهناك من اتهموا القاضي بأنه من الإخوان!

عندئذ توقف الحديث عن "التوجيه"، لكن ظلت الدوافع غير بريئة، ومما قيل أن هذا القاضي بطبيعته دائم البحث عن بطولات سياسية، والحكم جاء مدفوعاً بحرصه على المجد الشخصي، لاسيما وأنه أوشك على أن يحال للمعاش، ولاسيما وقد نشرت له صورة في ميدان التحرير في مظاهرات 30 يونيو، مما يعني أنه ليس بعيداً عن دوائر السلطة، فضلا عن أنه عضو في مجلس إدارة البنك المركزي، مما يفقده شرطي الاستقلال والنزاهة، اللازمين لإصدار حكم وطني كالذي صدر!

هناك من بين القوى الرافضة للانقلاب، من استقر في وجدانها، أن القضاء كله فاسد، وأن مجمل القضاة الشرفاء، هم الذين ظهروا على "منصة رابعة"، أو الذين شكلوا "قضاة من أجل مصر"، الذين قطعوا الطريق على تزوير إرادة الشعب بإعلان فوز الدكتور محمد مرسي بمنصب رئيس الجمهورية، قبل أن تعلن اللجنة القضائية المختصة هذه النتيجة!

وما دام قد صدر قرار بعزل هؤلاء، فالمعنى أنه لم يعد في مصر قاض واحد عنده مثقال ذرة من ضمير، فكل قضاة مصر هم أحمد الزند، وشعبان الشامي، ومحمد شيرين فهمي، وناجي شحاتة!

وهناك من قال إن الحكم متفق عليه، لأن قبوله يعني قبولاً بالمسار القضائي، وعندما يصدر الحكم كما هو متوقع من المحكمة الإدارية العليا بإلغاء حكم محكمة أول درجة يصبح ليس من حق من هلل للحكم الأول أن يعترض على الحكم الثاني!

حالة من الكآبة تعمد البعض بثها في ربوع الكون، ليكون ما قالوه رمية بغير رام للسيسي وحكمه، لأن الكآبة تغطي على الأثر القانوني والسياسي للحكم، الذي ضبط السيسي متلبساً بالعار الوطني، وأمسك به متورطا بجريمة التنازل عن السيادة المصرية على الجزر، وبيعها للمملكة العربية السعودية، وفي قضية مثلت إساءة بالغة لنظام السيسي وهذا هو بيت القصيد!

القضاء المصري، ليس هو الثمانية عشر دائرة التي حاكمت وتحاكم الرئيس محمد مرسي وإخوانه، ولا يمكني أن أنسى أن الجمعية العمومية الأولى للقضاة ضد مبارك، تشكلت من تسعة آلاف قاض، وأنا أعلم أن القضاة في مجملهم لم ينحازوا لدولة الرئيس محمد مرسي، وأعلم أن انحيازهم الآن بدرجة أو بأخرى للانقلاب، وفق حسابات المصالح التي لا يمكن إسقاطها!

وبعيدا عن المصالح المرسلة في عهد عبد الفتاح السيسي، حيث أصبح القضاة ضلعاً من مثلث حكمه، الذي استغنى به عن الشعب، فلم يكن نظام الرئيس محمد مرسي موفقا في إدارة الصراع مع القضاة، وإصراره على النزول بسن الإحالة للمعاش من سن السبعين إلى الخامسة والستين، كل هذا للتخلص من أحمد الزند وتهاني الجبالي، فحشد الجميع ضده، فلم تكن معركة يراد بها استقلال القضاء، وإلا دار الموضوع حول إلغاء "الندب" للجهات الحكومية، فيقع عليهم ضرر بالغ لا يمكنهم أن يجادلوا فيه باعتبار أن هذا مطلب قضاة الاستقلال.. لاحظ أن معظم القضاة الذين كانوا مقربين من السلطة حينذاك، ومنهم المستشار أحمد مكي وزير العدل كانوا سيضارون بهذا التعديل الذي لم يتم!

لقد كنت في نقابة الصحفيين، عندما صافحني أحد قضاة الاستقلال مسرعا لحضور مؤتمر دعا إليه ناديهم احتجاجاً على مشروع القانون هذا، وهو يقول لي حزينا انظر كيف جمعنا محمد مرسي مع أحمد الزند؟!

ولست هنا أقلب المواجع، وإنما لأصل لتفسير لحضور قاضي "تيران" و"صنافير" لميدان التحرير في يوم 30 يونيو 2011، وبعد أن علمنا الآن سنه فلم يتبق له سوى أيام ليصل إلى السبعين من عمره، تأكدنا أنه كان سيضار من تعديل قانون السلطة القضائية الذي كان مجلس الشورى يناقشه، ولم يتمكن من إقراره!

فمصلحة القاضي الخاصة ليست مع هذا نظام الرئيس محمد مرسي، لكن إلى الآن لا نعرف إذا كانت علاقته بالأمر انتهت عند إسقاط الرئيس المنتخب أم إن وجدانه تورط في تأييد عبد الفتاح السيسي، فيبدو أنه بعد مشاركته في المظاهرات توقف عن الفعل السياسي، ومن هنا لابد أن نفتش في الوجدان، وإذا كان قد تورط في تأييد ترشيحه، فلا نعرف إن كان إلى الآن مؤيدا له أم لا؟!

فهناك من يرون أن من شارك في الانقلاب على الرئيس الشرعي لا ينتظر منه عدلاً، وليس مؤهلاً لحكم هذا، وحتماً سيبعث يوم القيامة وقد كتب على جبينه "آيس من رحمة الله"، مع أني على المستوى الشخصي أعرف قضاة شاركوا في 30 يونيو ثم انقلبوا على السيسي، وأعرف أصدقاء كانوا يدافعون عنه، حتى حدث موضوع "تيران" و"صنافير"، فانقلبوا يتهمونه بما لم أتهمه به أنا إلى الآن وهو "الخيانة الوطنية"، وانقلبوا يسلخونه بألسنة حداد. فما الذي يمنع أن يكون القاضي تغير موقفه بعد بيع الجزر، وهو ابن عائلة إقطاعية، يعرف بالنشأة والتكوين قيمة الأرض، ومعنى التفريط فيها والتنازل عن السيادة الوطنية؟ وما الذي يمنع أن تكون تعليمات جاءته فرفض الانصياع لها، فهو قريب من الدولة، التي عينته عضواً بمجلس إدارة البنك المركزي، لكن لديه حدا أدنى للسقوط!

واذكر في هذا الصدد أنني كنت متوجساً خيفة من المستشار فتحي نجيب عندما وقع الاختيار عليه رئيسا للمحكمة الدستورية العليا، وهو الذي كنا نصفه بأنه "ترزي الهانم" فعندما كان يشغل منصب وزير العدل لشؤون التشريع، كانت كل قوانين "سوزان مبارك" هو من يعدها ويناقشها مع الأطراف المختلفة، ومن قانون "الخلع" إلى قانون الجمعيات، وعندما نقلت هواجسي للحقوقي الراحل "أحمد سيف الإسلام حمد"، بدا مطمئنا، فهذا جيل يعرف قيمة المناصب الكبرى، فلا يكون إلا على مستواها، وأنه لا يمكن أن يقدم على هدم المحكمة الدستورية فيظهر أمام زملائه شخصا فاقدا للقيمة والاعتبار.

لعل المثال الأبرز هنا هو الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، الذي كان قبل أن يتولى منصب شيخ الأزهر كغيره ممن كان يتم وصفهم بمشايخ السلطة، وهو من الذين دافعوا عما سمي بقوانين "جيهان السادات" للأحوال الشخصية، لكنه عندما تولى المنصب الكبير كان مثالاً للاستقلال والاستقامة.

قضاء مجلس الدولة، لا يزال محكوما بكثير من التقاليد، ومن خالفها في تاريخه معروفون بالاسم، وكانت أحكامه في عهد مبارك تمثل في كثير من الأوقات إحراجا لنظامه، ومجدي العجاتي وزير شؤون برلمان الانقلاب، في سوابق أعماله من أحكام تثير الدهشة لمن ينظر إلى نهايته الأليمة كترزي في بلاط عبد الفتاح السيسي، فالثلاثة عشر حكماً الصادرة لصالح جريدة "الشعب" التي أغلقها نظام مبارك، أصدرها هو كرئيس للدائرة أو عضو يمين في دائرة المستشار "رأفت يوسف" والد الإعلامي "باسم يوسف"، وكنت أعلم أن العجاتي هو من يكتب هذه الأحكام بنفسه!

لقد وضع "العجاتي" نظام مبارك في "خانة اليك" عندما حكم بإلغاء تجميد حزب العمل، وعندما لم يتم تنفيذ الحكم أصدرحكماً غريباً بأن رئاسة الحزب مقررة للأستاذ إبراهيم شكري، في حين أن فصل النزاع داخل الأحزاب ليس من اختصاص القضاء الإداري، وإزاء هذا الحكم الواضح، لجأت السلطة إلى اتخاذ الإجراء القانوني السليم بأن جمدت الحزب إلى حين نظر طلب حله، وكان رئيس مجلس الدولة المستشار "أمين المهدي" على وشك الخروج على المعاش، ووصلني أن الرجل ينتظر وصول الطلب إليه ليقوم برفضه بصفته رئيس دائرة الأحزاب السياسية، وكانت السلطة تعرف استقامته، فأجلت الإحالة لبعد خروجه، ولم يكن الذين خلفوه في شجاعته، لكنهم أيضاً لم يقدموا على الاستجابة لطلب الحكومة فتركوا طلب حل الحزب في أروقة المحكمة مع أن المدة المقررة للفصل في طلب الحل محددة قانوناً، قبل إحالة أحد نصوص قانون الأحزاب للمحكمة الدستورية بناء على طلب محامي الحزب لتفادي الفصل تحت سيف الضغوط الحكومية!

وتعجب لتقلب الزمن عندما تشاهد "أمين المهدي" هذا وهو في أرذل العمر يقبل أن يكون وزيرا للعدالة الانتقالية في نظام أبشع من نظام مبارك، ومن سلطة قتلت وحرقت وأبادت البشر. كما تعجب أن يكون الأداء الباهت لوزير العدل في حكم المجلس العسكري، هو لصاحب القرار الجريء قبل ربع قرن الذي ختم به تاريخه القضائي عندما كان نائباً عاماً وهو المستشار محمد عبد العزيز الجندي وتمثل في إحالة (44) ضابطا لمحكمة الجنايات بتهمة التعذيب فقلب نظام مبارك رأسا على عقب!

ويبدو الشخصي حاضراً في بعض الأحكام، فالمستشار محمد الحسيني الذي كان يرأس دائرة الدكروري في مجلس الدولة، وإذ كان يستعد لرئاسة المحكمة الإدارية العليا فتم مد سن الإحالة للمعاش مما عطل هذه الترقية، فلما نظر قضية الإفراج الصحي عن الدكتور أيمن نور، حكم لصالحه، لكن رئيس الإدارية العليا السيد نوفل الذي استفاد من المد، ألغى الحكم سريعا في ظرف (24) ساعة وكان يتندر أمام المقربين منه بأنه لم يترك له الحكم "ليربعن"، أي يمر عليه أربعون يوماً، وهي عبارة تقال عن الموتى! 

وقد منحت "دائرة الأحزاب" في المحكمة الإدارية العليا في مرحلة المستشار محمد حامد الجمل أحزابا لكل عملاء الأمن ممن أفسدوا تجربة التعددية الحزبية، ويبدو أنه انتظر أن يُرد له الجميل بالمد لعامين بعد الستين كما كان يتردد فلما لم يحدث وفي آخر أيامه بمجلس الدولة أصدر حكما بالترخيص للحزب الناصري، بعد أسابيع من تصريح لمبارك بأنه لا يرى ضرورة لحزب للناصريين وأن عليهم أن يتحاوروا مع الحزب الوطني وينضموا إليه!

ومهما كانت دوافع قاضي "تيران" و"صنافير" فنحن أمام حكم كاشف عن الحق وليس منشئاً له، فالحق قائم بالحكم وبدونه، وليس صحيحاً أننا بتأييده قد سلمنا بحكمه بالمنشط وبالمكره، بل هذا الحكم وضع المحكمة الإدارية العليا في حرج بالغ، في حال ممارسة ضغوطا عليها. فحالة التشكيك هذه والخوف من الفرح ساهمت في تبديد جانب من وجاهة الحكم باعتباره كشف السيسي أمام المصريين بأنه تنازل عن الأرض المصرية.

لا بأس فالمصريون شعب عندما يضحك يقول: "اللهم اجعله خيرا".