قضايا وآراء

هل تقبل "النخب العلمانية" برفع وصاية الدولة على الدين؟

1300x600
تصدير: بالتزامهم الصمت تجاه وصاية الدولة الوطنية على الشأن الديني أحيانا، وبتنظيرهم لتلك الوصاية وشرعنتها أحيانا أخرى ، فإن العلمانيين هم أول من حال ومازال يحول دون فصل الدين عن السياسة وذلك على عكس الفكرة السائدة. 


كان المؤتمر العاشر لحركة النهضة الذي انعقد مؤخرا في تونس سببا في تكثيف السجال العمومي حول العديد من القضايا المرتبطة أساسا بحركات الإسلام السياسي، وما تثيره من أسئلة وتحديات على العقل السياسي "الحديث". ولو شئنا اختزال تلك الأسئلة والتحديات وردها إلى رهان رئيس، لقلنا إن ذلك الرهان هو كيفية تدبر العلاقة بين الديني والسياسي في ظل وجود حركة النهضة، فهذه الحركة تنتمي-من جهة أولى-  إلى الحقل السياسي"القانوني" و"المعلمن" واقعيا، ولكنها-من جهة أخرى- تعلن صراحة أنها تعتمد مرجعية الإسلام إلى جانب مرجعية الدستور، دون أن ترى في هذا "التلازم" ما يحتاج إلى تأصيل يتجاوز الإنشائيات والعموميات ويتموضع في دائرة  التعليل العقلاني البعيد عن الاعتباطية. 

سبق هذا المؤتمر لغط كبير داخل الأوساط النهضوية وخارجها حول ضرورة القيام بمراجعات كبرى و"تونستها"، حتى تتأقلم أو تطبّع مع الحقل السياسي التونسي الذي مازال يتوجس خيفة من كل حركات الإسلام السياسي، بل مازال الكثير من رموزه في اليسار الثقافوي يؤمنون بإمكانية "تونسة" السيناريو الانقلابي المصري، أكثر مما يؤمنون بإمكانية التعايش مع الحركات الإسلامية ضمن مشروع مجتمعي واحد، فالمشروع "المجتمعي التونسي" مازال عند هذه النخب مشروعا نابذا بالضرورة للنهضة ولغيرها من حركات"الإسلام السياسي". 

لمّا كانت النخب العلمانية -أو المنتمية إلى "العائلة الديمقراطية" والمتعاطفة مع أطروحاتها البورقيبية أو القومية أو اليسارية - تهيمن على إنتاج المعنى السياسي، "الصحيح" و"القانوني" منذ بناء الدولة الوطنية على يدي "الزعيم" الراحل الحبيب بورقيبة، ولمّا كانت حركة النهضة هي "الطارئ" أو "الغريب" على الحقل السياسي "القانوني"، فقد كان من الطبيعي أن نشهد صراعا غير متكافئ من الناحية الرمزية أو النفسية بين النخب العلمانية والقيادات النهضوية. فرغم أن الثورة قد قامت على نظام "حداثي" و"معلمن"، ورغم أن العلمانية التي تبنتها تونس منذ الاستقلال هي اللائكية الفرنسية التي هي من أكثر صيغ العلمانية صدامية و"شمولية"، رغم ذلك كله، فإنّ النخب العلمانية لم تر داعيا إلى القيام بأية مراجعات في مسألة علاقة الدولة بالدين أو دور الدين في المشهد المجتمعي العام. 

بحكم العلاقة اللامتكافئة بين النخب العلمانية وحركة النهضة-وهو لاتكافؤ غذّته السمعة السيئة للإسلام السياسي في مراكز القرار الغربي خاضة بعد ظهور داعش، كما غذته المخاوف التي استبطنتها حركة النهضة من إمكانية تونسة السيناريو المصري في ظل سياق إقليمي ودولي، يميل إلى معاداة الحركات الإسلامية بصرف النظر عن اختلافاتها من جهة العلاقة بالدولة الوطنية، أو بالقانون الوضعي أو بمبادئ العقل السياسي الحديث-، بحكم ذلك اللاتكافؤ الواضح، كان من اليسير على النخب العلمانية أن تصوغ إشكالياتها وأن تفرض مفرداتها وجملها، وأن تحدد سقف الخطاب وغاياته النهائية، بل كان في استطاعتها أيضا أن تمعن في أطروحات أحادية الصوت -رغم ادعاءاتها المتكررة لثقافة الحوار وتعددية الأصوات ونسبية الحقيقة-، بحيث تقترح على حركة النهضة نوعية الحلول"المقبولة" وتحذرها من بعض"الممكنات" النظرية الأخرى. وهو ما يعني واقعيا أن تلك النخب تصر على أن تؤدي دورين متناقضين، ولا يمكن الجمع بينهما إلا في حقل سياسي ومسار انتقالي مأزوم، هما دور الخصم والحكم. 

لعل من أهم المواضيع التي تدخل في باب"اللامفكر فيه" أو "المقموع" في الخطابات الحداثوية التونسية هو علاقة الدولة بالدين واقعيا، وليس في مستوى الادعاء الذاتي أو "الوهم المعمم" داخل النخب الحداثية؛ فالدولة الوطنية التي يروّج الحداثيون لنجاحها في الفصل بين الدين والسياسة،  لم تكن في الحقيقة بهذا النجاح أو بهذه الحيادية "المتخيلة" تجاه الشأن الدينية، فقد قامت عملية التحديث وما رافقها من أنظمة رمزية على فرض تمثل معين للدين، كما عملت الدولة عبر أجهزتها الأمنية والإيديولوجية على محاربة كل التمثلات المنافسة، خاصة إذا صدرت  وذلك بوصمها بمحاولة الخلط بين الدين والسياسة. وهو ما يعني أن الدولة-ومن ورائها النخب الحداثية الحاكمة-  لم تكن تسعى إلى الفصل بين الدين والدولة، بل كانت تسعى إلى احتكار المعنى الديني"الصحيح" ومقاومة كل المواقع التي قد تنتج معاني دينية ذات نفس احتجاجي أو معارض لثالوث الزعيم-الحزب-الدولة. 

من باب التدقيق المفهومي، قد يكون علينا أن نتحرر من هيمنة الخطابات الحداثوية ومن المحدودية التي تحكمها بحكم آفتي الأدلجة والتسييس. وهو ما يعني في هذا السياق أن نتخارج مع مسلمات تلك الأطروحات، وأن نضعها موضع التساؤل والنقد. من ذلك أن علينا في هذا السياق الانتقالي الهش أن نتحدث من جهة أولى عن الفصل بين الدولة والدين، أو عن الفصل بين الحزب الحاكم (او الائتلاف الحاكم) والمنابر الدينية، أي إنّ علينا أن نُبعد الخطاب المسجدي عن التجاذبات السياسية وعن التوازنات الهشة، التي يمكن أن تفرزها أي انتخابات قادمة. أما من الجهة الثانية، فإن علينا الفصل بين الحزبي والديني، وهو ما يجب أن نطالب به كل الأحزاب وليس حركة النهضة فقط، فلا يمكن أن ننسى التجاء أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" إلى الزوايا للتعبير عن تمثيلها للإسلام "التونسي"، بل اعتماد هذا النمط الديني أداة للتحشيد الحزبي وللدعاية الانتخابية ولفرض جملة من الاصطفافات الثقافوية التي غيبت جوهر الصراع الاجتماعي والاقتصادي، وأساسا إعادة التوزيع الأكثر عدلا للسلطة وللثروات المادية والرمزية. 

أما الفصل بين الدين والسياسة فهو مجرد مغالطة وسفسطة؛ لأن الفصل بين الديني والسياسي يفترض بيان الحدود التي ينتهي عندها الدين وتبدأ السياسة، كما يفترض نشوء إجماع مبدئي وقابل للمأسسة حول هذا الفصل "الهندسي". وتفترض عملية الفصل كذلك منطقا سياسيا علمانيا صريحا، أي يفترض حيادية الدولة في المسألة الدينية بحيث تترك الحقل الديني يشتغل وفق قانونه الذاتي. وهو ما يعني عودة السلطة إلى جمهور المتدينين وليس إلى النخب المعلمنة المشرفة على إدارة الشأن الديني. كما أنّ على الدولة أن تترك للمتدينين حرية التصرف في فضاءاتهم عبر من يختارونهم هم، وليس عبر من تختارهم أجهزة الدولة ممثلة في البوليس العقائدي، الذي هو أقرب إلى التكنوقراط العلماني منه إلى رجل الدين، وهي الصورة النموذجية لكوادر وزارة الشؤون الدينية التي كانت مجرد ملحق "ديني" بوزارة الداخلية والتجمع في عهد بن علي، وتسعى النخب الحداثية بعد الثورة إلى إعادتها إلى تلك الوظيفة الأصلية بحجة مقاومة الإرهاب وتجفيف منابعه. 

لو طلبنا الوضوح أكثر لقلنا إن الفصل بين السياسي والديني هو مطلب مستحيل في ظل دولة ترفض الاعتراف بأنه لا يحق لها احتكار "سوق النجاة الأخروية"، ولا أن تكون فاعلا دينيا من جملة الفاعلين المتنافسين على إدارة السوق الدينية، كما لا يحق للدولة أن تدعيَ امتلاك المعنى الأوحد للدين "الصحيح" والمعترف بشرعيته وقانونيته، وهو ما يعني أنّ استمرار وصاية الدولة على الحقل الديني سيجعل من كل حديث عن الفصل بين السياسة والدين مجرد "خرافة" أخرى، تنضاف إلى الخرافات المؤسسة "للنمط  المجتمعي التونسي". وهو ما يجعلنا نتساءل عن مدى جدية القوى الحداثية في مطلب فصل الدين عن السياسة حقا، خاصة أن تلك القوى لا تظهر أي نقد حقيقي وجدي لهيمنة الدولة على المنابر الدينية وعدم حياديتها في هذه المسألة، بل إن من تلك النخب من يدعو صراحة إلى مزيد هيمنة الدولة على المساجد. 

ولكنّ الذهاب بالتحليل إلى تحييد الدولة عن الدين باعتباره مدخلا ضروريا لتحييد الفاعلين السياسيين عن المنابر الدينية، والحد من استقوائهم بها في صراعات دنيوية بالأساس، لا يجب أن يجعلنا نغفل عن تحد واقعي قد تواجهه هذه الفرضية، ألا وهو المآلات الواقعية لتحييد الدولة عن المنابر الدينية في ظل واقع يغيب فيه أي "توافق ثقافي عام"، وفي ظل واقع تسيطر فيه الخطابات السلفية الوهابية بصيغتيها العلمية والجهادية على الوعي الديني، أي كيف يمكن الاطمئنان إلى المنطق الذاتي للحقل الديني في ظل هيمنة الخطاب السلفي، وانعدام أي بدائل حقيقية قادرة على مواجهته في قدرته على تفعيل الموروث الديني ضمن استراتيجيات تهدف إلى الإشباع النفسي أكثر مما تطلب الإقناع العقلي. 

ختاما، يبدو من المشروع أن نتساءل إن كان الإسلاميون "فقط" هم من يرفض "علمنة" الدولة واقعيا –باعتبار عملية العلمنة هي واقع ثقافي معيش بصور مختلفة، وليس بالضرورة بصورة واعية أو معترف بها-، وباعتبار العلمنة هي أساسا حيادية الدولة في الشأن الديني لا عداؤها للدين بالضرورة كما هو رائج بين عموم المواطنين، نتيجة للتاريخ/السمعة السيئة للائكية الفرنسية التي تحوّلت إلى أداة للتسلط  ورؤية شمولية للعالم، تنافس الأنساق الدينية التقليدية أكثر مما تسعى إلى الاعتراف بالاختلاف القيمي والمرجعي وإدارته بصورة فعّالة.