كتاب عربي 21

دروس الابتزاز الأمريكي للسعودية

1300x600
أقرّ مجلس الشيوخ الأمريكي تشريعا يسمح بمقاضاة أهالي المتضررين من هجمات الحادي عشر من سبتمبر للمملكة العربية السعودية تحت ما يعرف بـ"قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب".

أثار القانون عاصفة من ردود الأفعال السعودية الرسمية والشعبية على حدّ سواء حيث رأت فيه قانونا يتهمها مباشرة بدعم الإرهاب فضلا عن كونه إنجازا ابتزازيا هدفه استنزاف الأصول السعودية واستثماراتها بالولايات المتحدة.

الموقف الأمريكي كعادته يتحرك بين جناحين أولهما الموقف المعلن بسنّ القانون والمصادقة عليه والثاني هو موقف الرئيس الأمريكي نفسه والرافض للقرار وهما موقفان يحققان ما يمثل دائما مساحة المجال الحيوي للموقف الأمريكي من القضايا الدولية. أي أن الدبلوماسية الخارجية الأمريكية تتحرك دائما بجناحين يسمحان بهامش كبير من المناورة ويساهمان في تسهيل كل مبادرات التراجع أو التعديل في هذا القانون أو ذاك خاصة إذا ما تعلق الأمر بالقضايا الخارجية وبالتحديد العربية منها.

من جانب آخر يمثل المشهد السعودي قلب المشهد العربي بمكوّنه الإقليمي أو المشرقي بشكل عام حيث تعرِف المملكة المحافظة تحوّلا كبيرا على مستوى القيادة صاحبة القرار وذلك منذ وصول الملك سلمان إلى سدّة الحكم. هذا المنعرج السعودي الكبير والأبرز خلال هذا القرن يسعى من ناحية أولى إلى إخراج المملكة من المأزق الذي وجدت نفسها فيه بسبب الأخطاء الكارثية التي ارتكبت في الماضي ومن ضمنها الثقة الكبيرة في الحليف الأمريكي وفي موقفه من الأمن القومي السعودي.

اليوم وبفعل ثورات الربيع العربي وبفعل الانفجار التونسي الكبير يوم 17 ديسمبر 2010 تحديدا ضربَ المنطقة العربية زلزال ضخم بعثر كل المكونات الثابتة ونصف الثابتة في المنطقة وحتّم على الفاعلين الرئيسيين في المشرق والمغرب إعادة التموقع وفقا للمعطيات الجديدة التي فرضها ربيع العرب. بناء عليه فإن التطورات التي تعرفها السياسة الخارجية السعودية بما في ذلك وقوفها في وجه التمدد الفارسي باليمن والعراق وسوريا ولبنان إنما تشكل جزءا من تداعيات الثورات العربية المباركة التي هي بصدد إعادة تشكيل الوعي السياسي العربي بنفسه وبالعالم.

أبرز مضامين الوعي الجديد هو تحديد الطبيعة الخارجية للدور الأمريكي عربيا وإسلاميا، خاصة في منطقة الخليج بقطع النظر عن الدور الاستعماري البشع الذي لعبته الولايات المتحدة في العراق بتدمير البلد وتدمير حضارة شعب عربي مسلم وتركه فريسة للجماعات الإرهابية المتطرفة وعلى رأسها فرق الموت الايرانية.  

لقد كان الموقف السياسي والعسكري الأمريكي من ثورات الشعوب العربية مترجِما صريحا لطبيعة الدور الأمريكي في المنطقة سواء عبر الدعم العلني للانقلابات العسكرية الدامية مثلما حدث في مصر أو عبر الدعم السري لمذابح النظام السوري في بلاد الشام.

هذا الموقف المبني أساسا على شبكة عميقة من المصالح الاقتصادية والمالية والجيوستراتيجية الثابتة هو موقف يتحرك بحسب طبيعة حركة الفواعل المباشرة وغير المباشرة على الأرض، وهي فواعل لا تتحكم الولايات المتحدة في كل حركتها.

أي أن الثورات التي هددت قطعة الشطرنج السورية بالسقوط ودفعت بالقوات الايرانية والروسية دفعا إلى رقعة الشطرنج العربية هي التي دفعت بالملف الإيراني النووي إلى طاولة المفاوضات وعجلت بالاتفاق التاريخي بين "محور الشر" و"الشيطان الأكبر" الذي بان بأنه مجرد واحدة من المناورات الإقليمية بتواطؤ أمريكي صريح.

هذه المناورة تجلت واضحة في حجم التداعيات السريعة التي ترتب عنها الاتفاق الإيراني الأمريكي، بدءا برفع العقوبات عن النظام في طهران وتشجيع الشركات الأمريكية والأوروبية على الاستثمار في إيران وصولا إلى رفع الدولة من قائمة الدول الداعمة للإرهاب.

هذا التداعي الحر للعلاقة بين بلدين كانتا بالأمس القريب تتراشقان الاتهامات الصريحة يفضح بوضوح أن العداء الإيراني الأمريكي لم يكن غير مسرحية إقليمية لابتزاز الدول العربية الغنية واستنزافها ماليا وعسكريا، وعلى رأسها المملكة السعودية.

لكن على الرغم من كل التهديدات الجدية التي تواجه منطقة الخليج العربي ككل، والمملكة خصوصا، بداية بالانهيار الكبير الذي عرفته أسعار النفط باعتباره أهم مصادر الدخل السعودي، وصولا إلى تكالب القوى الاقليمية على مجالها الحيوي، فإن الرياض قادرة اليوم على وضع أسس صلبة لسياسة إقليمية جديدة تعيد لها دورها الحقيقي في المنطقة ككل.

هذه سياسة تقوم من ضمن ما تقوم عليه على فك الارتباط التدريجي بالولايات المتحدة الأمريكية والتحرك في مجال أكثر استقلالية من جهة صنع القرار وتنفيذه بقدر يسمح لها بكنس الصورة المزيفة التي تروج عن المملكة باعتبارها دولة داعمة للإرهاب، في الوقت التي تشهد فيه الدولة نفسها أشرس الهجمات الارهابية على أرضها.

لكن أخطر وأدق المكونات المركزية في مستقبل السياسية الخارجية السعودية هي إعادة بناء البعد العربي في مواجهة الحرب الإعلامية التي تقودها "اللوبيات" الايرانية والشبكات الصهيونية المرتبطة بها من أجل تشويه صورة المملكة، باعتبارها القلب العربي الصلب للمكوّن السني في منطقة المشرق.

إنّ إعادة ترميم البيت الخليجي وعزل القوى الخليجية الداعمة للفوضى والانقلابات العسكرية في مجال الثورات العربية هي في نظرنا أوْلى أولويات السياسة الخارجية السعودية التي يمكن أن تُحدث ثورة حقيقية في دور المملكة وصورتها الرمزية عربيا وإسلاميا.

إن مناصرة المملكة في شكلها السياسي الجديد، لمطالب الحرية والعدالة الاجتماعية، ومطالب المسحوقين والمهمشين في مختلف الدول العربية، هو وحده الكفيل بتحصين السعودية داخل الوعي العربي أمام كل المؤامرات والدسائس التي تحاك لها داخليا وخارجيا.