في فيلم (دمشق مع حبي- 2009) للمخرج محمد عبد العزيز، وفي صالة المغادرين بمطار دمشق، يجلس الأب المقعد ألبير مزراحي، يهودي الديانة، بجانب ابنته هالة، في انتظار المغادرة النهائية إلى إيطاليا حيث استقرت العائلة الكبيرة منذ سنوات.
ألبير: تعرفي، هاي أول مرة أترك الشام.
هالة: ما حد جبرك..
في الأخير، سافر الوالد وحيدا بينما عادت البنت أدراجها للبحث عن حبيب ظنت أنه مات قبل عشرين سنة، بينما كان الأب على علم بحقيقة مصيره وأخفى الخبر عنها حتى لحظة الجلوس بصالة المغادرين بالمطار.
وهو في سيارة عشيقة أخيه الإيطالية التي تكفلت بتوصيله من مطار روما إلى حيث داود العشيق/الأخ، بدأ الحنين يدب في نفس ألبير مزراحي، فانطلق لسانه العربي يتحدث عن الشام وهو يعلم أن الفتاة بجنبه لا تفقه في كلامه حرفا.
ألبير: أنا جايب معايا تراب من الشام.. (يفتح الإناء حيث التراب) تحبي تشمي.. المكان هو الذاكرة.. بس الإنسان يترك مكانه بيترك ذاكرته.. مشان هيك قلت لهالة على قصة الشاب هذا مشان تبقى في الشام.. هذا مشان تبقى في الشام.. مشان تبقى بذاكرتها.. الذاكرة هي الشوارع والحارات.. هي البيوت هي المحلات.. هي الشجر هي الجيران والناس.. هاي الذاكرة.. المكان.
قبل أيام هلل العالم ومعه النظام السوري لـ"استعادة" جيشه السيطرة على مدينة
تدمر التاريخية. تحدث الجميع عن آثار تدمر المصنفة تراثا إنسانيا ونسوا أو تغافلوا عن سجن المدينة الرهيب الذي كان النظام الأسدي يحط فيه من إنسانية معارضيه. إنسانية الحجر عند العالم أهم وأبقى من إنسانية البشر.
وبالرغم من كل ما قيل فقد تبين في الأخير أن المسألة لم تكن غير عملية تسليم واستلام ليس إلا. فكما تمكن
تنظيم الدولة من إدخال معداته الحربية إلى المدينة بعد أن تحرك بها لمئات الكيلومترات، تمكن ذات التنظيم من إخراجها ومعها مقاتليه دون أن تمسهم نيران "الجيوش المحررة". والأدهى أن "التراث الإنساني" لم يتضرر كثيرا من فترة تواجد "الدولة" والسبب "اتفاق" بينها وبين النظام السوري على عدم الإضرار بالأثار حسب بعض التصريحات.
بالمقابل، لا تكف معالم
سوريا الجغرافية والديمغرافية عن التغير يوما عن يوم والسبب تهجير أو فرز سكاني يتبعه تطهير إثني أو إحلال بشر على هامش هدن يخرج بموجبها الثوار وعوائلهم ويمنعون من العودة، أو استملاك للمحلات والبيوت على هامش نزوح داخلي وخارجي لا يزال جرحا مفتوحا على مزيد من النزيف. والهدف تأكيد لانقلاب ديمغرافي وإعادة تركيب للبلاد في أفق إقرار تقسيما أو اعتماد نظام فيدرالي على أساس ديمغرافي بدأت نذره بتسريبات لتوافقات مفترضة بين الروس والأمريكان، وتأكد فعليا على الأرض بإعلان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي قيام "الاتحاد الفيدرالي" بين "أقاليم غرب كردستان" و"أقاليم شمال سوريا" معتمدا على "وحدات حماية الشعب" لإحكام سيطرته على مناطق وموارد اقتصادية مهمة تضمن لكيانه الوليد سبل الحياة.
وعلى الوتيرة نفسها تواصل إيران العمل الحثيث على تغيير ديمغرافية مناطق عدة منها العاصمة دمشق وفق ما نص عليه مرسوم تشريعي صدر نهاية العام 2012 حاملا الرقم 66، ومبشرا بمشروع باسم "مدينة الأقحوان" أساسه هدم آلاف المنازل وتهجير سكانها على وقع تسهيلات تمويلية كبرى تمنع للراغبين في التملك من الإيرانيين.
ولأن التغيير الديمغرافي لا يكتفي بإحلال سكاني فإنه يمس أيضا أنماط العيش وأشكال العمران وعراقة التقاليد. ولم يكن غريبا أن تتوارد الأخبار عن سيطرة اللغة الفارسية في مناطق كاملة كمنطقة السيدة زينب. كما شهدت بعض الأحياء تغييرا في أسمائها مضافا لانتشار المسميات الروسية على واجهات المحلات والمرافق التجارية وغيرها.
دانيال، شاب من عائلة يهودية سورية هاجرت إلى إيطاليا، وفي حديقة بيت العائلة، في فيلم (دمشق مع حبي- 2009)، يستعرض ذكرياته بدمشق.
دانيال: في دمشق كنا نسكن في حارة قديمة في منزل كبير وجميل.. عند خروجنا من المنزل كان هناك زقاق ضيق، من جهة اليمين يفضي لباب توما، ومن الجهة الأخرى كنا نذهب حتى نهاية الشارع باتجاه مقهى اسمه النوفرة.. مقهى جميل جدا.. وبجانبه درج كنا نصعده ونرى جدارا ذا أحجار كبيرة.. هذا كان حائط الجامع الأموي.. مسجد بديع.. ومن هناك كنا نذهب.. يمين.. نسيت.. دمشق الآن بالنسبة لي مجرد ذكرى بعيدة.
تقدر أعداد النزوح السوري الداخلي ستة ملايين والنزوح الخارجي ثلاثة ملايين. وكلها أعداد لا تزال محتفظة بذكرياتها أسماء شوارع ومقاه وأزقة وجوامع. والإصرار على تغيير معالم المكان في جغرافيته ولغته وعاداته محاولة لإعادة التركيب استباقا لأي حل تقسيما كان أو فيدرالية أو حربا متواصلة. واللاجئون في الأول والأخير مجرد وسيلة مقايضة رأسا برأس، أو فرد فرد حسب التعبير الخالد للعقيد القذافي، في اتفاق تركي أوربي بمباركة إقليمية ودولية همها الوحيد دفع الهاربين من الحرب المستعرة بعيدا عن حدودها.
يواصل ألبير مزراحي الحكي وهو داخل سيارة الشابة الإيطالية التي لا تفقه في العربية حرفا.
ألبير مزراحي: الشام! شو بدي أقولك عليها؟ ما في بيت ما كان فيه ياسمين وما كان فيه نرنج وكبادة وليمونة وعرايش عنب.. داود كان يطلع يسرق عنب من على السطح.. البيوت هيك معانقة بعضها، لافّة بعضها.. كانت البيوت من الطين.. الصبح بكير كان يجي الكناس ع الحارة ومعه ايلي بيرش الماي حاطط القربة ورا ظهرو وماسك جلد الخروف من رقبته وعم يرش فيه الأرض والكناس يكنس عشان ما يغبروا ع العالم.
ما الذي بإمكان الكناس أن يفعله أمام حجم الدمار الذي ألمّ بالمنازل والمساجد والمحلات وبكل أوجه الحياة المدنية بأوسع مناطق سوريا؟ صحيح أن المنازل لا تزال معانقة و"لافّة" بعضها لكن على الأرض حجرا فوق حجر بعد أن تمكنت البراميل المتفجرة من تحويلها إلى مجرد ركام.
في فيلم (الليل الطويل- 2009) للمخرج حاتم علي، مات كريم، المعتقل السياسي المفرج عنه، قبل أن يصل إلى أبنائه بعد أن اختار تراب ريف الشام ملاذا له. وفي فيلم (دمشق مع حبي- 2009) مات ألبير مزراحي بعد ساعات من وصوله إلى إيطاليا وهم يشتم حفنة من تراب الشام أحضرها معه قبل أن يصل لبيت العائلة أيضا. فهل يكون قُدر سوريا أن تموت بعيدا عن أعين أبنائها ليتصالحوا بعدها على جثة الوطن أو يقسموها أو يتلقوا فيها العزاء هناك بعيدا في المنافي ومخيمات اللجوء؟
في افتتاحه لفيلم (سلّم إلى دمشق- 2013) للمخرج محمد ملص، يتحدث بطل الفيلم في مواجهة الكاميرا/الجمهور.
سليمان: أنا بعيش في بلد ما بيعطيني شيء وبيطالبني بكل شيء. بيطلب مني أخاف وأني أسكت.. لما بديت الأحداث الحالية بسوريا اندهشت لأنو أبي بعث لي كاميرا وبعث لي معاها رسالة بيقولي فيها اطلع ع الشارع وصور يا ابني.. ما كان ها المسكين يعرف أنو ايلي بيطلع ع الشارع ها الأيام ومعاه كاميرا بيقتل..
وفي الفيلم ذاته، وأياما بعد خروجه من المعتقل بسبب نشاطه السياسي في بدايات الحراك السوري، يتابع حسين نشرة أخبار تنقل خبر مقتل من عُرِف بعراب مصوري الثورة باسل شحادة وأحد تلامذته. يصرخ حسين ويرمي بجهاز التلفزيون من أعلى محدثا صوتا أقرب إلى انفجار. يفتح حسين غرفة أحد زملائه.
حسين: شو؟ نايم يا ابن الجولان؟ اعطيني ها السلم!
يأخذ السلم ويخرج صاعدا إلى الطابق العلوي.
الملاكم الفلسطيني: حسين، لوين؟
حسين: لعند الله.
صعد حسين إلى سطح البيت الشامي الذي يأويه وعدد من زملائه فتبعه هؤلاء. وضع حسين السلم في اتجاه الفضاء وبدأ في الصعود مسنودا بالآخرين.
حسين: (بعد أن وصل لأعلى) رددوا وراي.. حرية (بأعلى صوته)..
انفجار وظلام على الشاشة.
إعادة تركيب البلد تحتاج أن تتم في ظلام، وأية محاولة للثورة على نظام مستبد، أو لتوثيق الحياة بالشام كما هي اليوم خطر على مشاريع التغول الإقليمي ومشاريع الخرائط التي يتم التحضير لإقرارها بالمنطقة بدءا بالعراق ومرورا بسوريا وانتهاء ببقية الدول التي تعتبر نفسها، إلى اليوم، في مأمن من طوفان الفوضى التي سُميت ذات يوم خلاقة وهي منه براء..