في 14 مارس الحالي، صرح الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين إثر اجتماعه بوزير دفاعه ووزير خارجيته بأنه أعطى الأوامر لبدء سحب القوات الروسية ابتداء من 15 مارس، وقد احتار كثيرون في تفسير هذا الموقف، لكن التحليلات صبت في غالبيتها باتجاه ثلاث نظريات.
تقول النظرية الأولى إن بوتين سحب قواته باتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية على اعتبار أنه دخل إلى
سوريا بضوء أخضر أمريكي ولا بد أن يكون خروجه كذلك بضوء أخضر أمريكي أيضا.
أما النظرية الثانية فتقول إن بوتين أعطى الأمر للقوات الروسية ببدء
الانسحاب لممارسة الضغوط على وفد الأسد في جنيف ودفعه للانخراط بشكل جاد في المحادثات. وبخصوص النظرية الثالثة، فقد تحدثت عن خلاف الروس مع الأسد بعد أن كانوا قد اقترحوا عليه البقاء في السلطة لمدة معيّنة على أن يذهب بعدها، لكنه رفض هذا الأمر، مما دفع
روسيا إلى إعلان الانسحاب ومنحه مزيدا من الوقت لقرار نهائي قبل الذهاب إلى
مجلس الأمن لاستصدار قرار بشأنه.
وبمتابعة للتطورات التي جرت منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، سنلاحظ أن ما جرى هو انسحاب جزئي وليس كلّيا، وقد سجّلت بعض التقارير أيضاً قيام موسكو باستقدام مروحيات متطورة إلى سوريا من طراز (MI-28) خلال هذه الفترة بدلا عن الطائرات التي عادت إلى قواعدها، واستمرت أيضا في القيام بضربات جوية كالمعتاد ولكن في مناطق مختلفة عن السابق.
في 21 مارس، أعلن الجانب الروسي أن واشنطن غير مستعدة لبحث صياغة مشتركة لمراقبة الهدنة في سوريا، وأن موسكو ستتصرف بشكل منفرد ما لم يصل رد أمريكي. وقد أكّد هذا التصريح بطبيعة الحال عدم وجود تفاهم بين الجانب الروسي والجانب الأمريكي على الانسحاب، ما يعني نسف النظرية الأولى، خاصّة أنّ اجتماع كيري- لافروف يوم الخميس الماضي في موسكو لم يصل إلى نتيجة في هذا الشأن أيضا، لا بل إن الجانب الروسي سرب خبرا مفاده أن الإدارة الأمريكية أصبحت تتفهم ضرورة عدم بحث مصيرالأسد في هذه المرحلة.
أما بالنسبة للنظرية الثانية، فيدحضها الواقع تماما حتى الآن. إذ إن موقف وفد النظام في جنيف لم يتغير بعد الانحساب الروسي ولم يطرأ عليه أي تعديل أو ليونة، وبقي الوفد متصلبا، مراوغا، متهربا ورافضا حتى مناقشة الأمور الأساسية التي يفترض أن المباحثات أقيمت من أجلها، لا بل أن الوفد كان قد أصدر تصريحاً علنياً يقول فيه إنه "من المبكر الخوض في مسألة الانتقال السياسي"، كما أنه تابع متطلبات تنفيذ ما قال إنها انتخابات تشريعية سيجريها في أبريل القادم دون أن يأخذ بعين الاعتبار أنها تتعارض مع القرارات الدولية ومع ما اتفق عليه في فيينا وميونخ.
أمّا بخصوص النظرية الثالثة، فهذه تتعلق أساسا بالنظرة الروسية لطبيعة الحل السياسي في سوريا، وقد ثبت حتى الآن من خلال معرفتي بما دار من نقاشات متكررة داخل الغرف المغلقة في اجتماعات فيينا وما تلاها حتى اليوم أن الجانب الروسي لا يزال متمسكاً بموقفه الأساسي فيما يتعلق بالأسد، وهو أنّ "الشعب السوري هو من يقرر بشأن الأسد" وليس أي طرف آخر.
التفسير العملي لهذه الجملة يعني أن روسيا لا تمانع في أن يبقى الأسد حتى الانتخابات المقبلة وأن يشارك فيها ليقرر الشعب بشأنه ذهابا أو بقاء، ولا يمكن لنا أن نجد تفسيرا آخر أكثر دقّة لهذا الموقف إلا إذا قررت موسكو لاحقا أن تغيّر رأيها، ولكن حتى حينه فإن موقفها لا يزال كما هو، ويتعارض بالضرورة مع النظرية الثالثة بل وينسفها، فضلا عن حقيقة أنّه من غير المنطقي القول إن روسيا طلبت من الأسد وأنّه رفض فاكتفت هي بسحب جزئي لقواتها من سوريا.
الروس لا يطلبون من الأسد أو يقترحون عليه، باستطاعتهم أن يقولوا له "فرضا": "عليك أن تخرج بعد عدة أشهر أو بعد 18 شهرا أو الآن"، والأسد لا يستطيع أن يناقش لأن مصيره بيد روسيا سياسيا وعسكريا وحتى عبر مجلس الأمن، وكما قال وزير الخارجيّة البريطاني فيليب هاموند، فإن "بوتين باستطاعته إنهاء الموضوع باتصال هاتفي واحد"، وبالتالي القول إن روسيا طلبت منه وهو رفض غير منطقي بتاتا.
التفسير الأكثر واقعية حتى الآن كما عبّرنا عنه سابقا هو أنّ روسيا قامت بسحب فائض القوّة التي أحضرتها والتي لم يكن لها عملياً أي داعٍ، وكان الهدف منها فقط استعراض العضلات الروسية وتجربة بعض الأسلحة والتقنيات الحديثة. أما وقد تم هذا الأمر بالفعل، فقد كان هناك ضرورة لسحب الفائض الذي قامت موسكو باستعراضه خاصة أن له تكاليف مالية باهظة هي غير قادرة على تحمّلها لفترة طويلة.
ما يدعم هذا الطرح هو أنّ موسكو قامت مؤخرا وفق بعض التقارير الإخبارية أيضا وبعيدا عن الضوضاء بالتراجع جزئيا عن بعض العقوبات التي كانت قد فرضتها على تركيا، وهو دليل على أنّ الوقع الاقتصادي كان له الحصة الأكبر أيضا في الحسابات الروسية.
أضف إلى ذلك أن ما يعزز هذا التفسير أيضا هو أن الانسحاب تم بشكل جزئي وليس كلّيا رغم الإعلان عن أن روسيا حققت مهمتها التي جاءت من أجلها، وهو أمر طبيعي في ظل حقيقة أن الانسحاب الكلّي يتعارض مع تصريحات روسية لوزير الخارجية قال فيها إنه مستعد للتعاون مع الأمريكيين في محاربة داعش في الرقة، كما يتعارض أصلا مع دور روسي أكبر في العملية السياسية، إذ كيف من الممكن لروسيا أن تضغط على الأسد في المرحلة المقبلة إذا لم يكن لديها أدوات داخل سوريا لتفعل ذلك؟
الإعلان الروسي عن الانسحاب حمل طابعا نفسيا فقط، فقد استغلت موسكو التوقيت لتخلق انطباعا بأنها تقوم بخطوة إيجابية، وقد نجحت بالفعل في التشويش على الهدف الحقيقي دون أن تكون قد تخلّت عن تواجدها الميداني في سوريا، ودفعت المحللين إلى الوقوع في حيرة من أمرهم والبحث في افتراضات غير حقيقية لتفسير هذه الخطوة كالقول بأنّها تأتي للضغط على الأسد وأنها تأتي للمساعدة على دفع الحل السياسي، وهو ما خدم موسكو إعلاميا وخفف أيضا من الاحتقان المتراكم لدى الدول الإقليمية لاسيما السعودية وتركيا تجاهها.
عمليا لقد كانت المناورة الروسية خطوة ناجحة بكل المقاييس لم تكلفها شيئا ولم يظهر أثرها على الأسد حتى الآن، بانتظار الجولة القادمة من جنيف وما تحمله معها من مناورات هي الأخرى.