مقالات مختارة

أبعد من ازدراء الإنسان

1300x600
يخطئ أي مسؤول في الدولة المصرية إذا ظن أن أزمة علاقة الشرطة بالمجتمع تحلها قبلة يطبعها وزير الداخلية على رأس أب قتلت الشرطة ابنه، أو خطبة عصماء تعلن أنه لن يسمح بإهانة أي مواطن، أو حتى تعديلات تشريعية تشدد معاقبة إهدار كرامة المصريين. والمسؤول في هذه الحالة يخطئ في حق نفسه وفي حقنا أيضا. ذلك أنه يوهم نفسه ويخدعها، لأنه بذلك يتجاهل جوهر المشكلة في حين أنه يتصور أنه يحلها. في الوقت نفسه فإنه يفترض في الناس البلاهة والغباء، بحيث تنطلي عليهم أمثال تلك الحيل بما يرطب جوانحهم ويمتص غضبهم وينسيهم أحزانهم.

في اليوم التالي لنشر صورة وزير الداخلية وهو يقبل رأس والد ضحية الدرب الأحمر الذي قتله أحد أمناء الشرطة، تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صورة زوجة الدكتور عبد الله شحاتة أحد الاقتصاديين العالميين المعتبرين، وهي نائمة طوال الليل في الشارع في عز البرد أمام سجن العقرب أملا في أن تظفر بزيارته لمدة الدقائق الثلاث المسموح بها، ولم تكن وحيدة في ذلك، لأن صورا أخرى أظهرت حشدا للزوجات والأمهات والأطفال تكوَّم أفراده على الرصيف المجاور للسجن الرهيب، عساهم أن يفوزوا بتلك الدقائق الثلاث. وفي الأسبوع ذاته كان مركز النديم لضحايا التعذيب قد أصدر تقريره عن حصاد شهر فبراير الذي وثق فيه 111 حالة قتل، و8 حالات وفاة بأماكن الاحتجاز، و155 حالة اختفاء قسري، و44 حالة إهمال طبي، بينها 9 إصابات بالسرطان بالإضافة إلى 77 حالة تعذيب.

هذه البيانات ليست سوى قطرة في بحر الانتهاكات التي تصر الداخلية على ممارستها والتستر عليها، فتحدثنا تارة عن أنها أخطاء فردية. أو تلصقها بأمناء الشرطة تارة أخرى. في حين تطلق أبواقها كي تمارس دورها في التجميل والتلوين، ولا تكف عن الادعاء بأن التعذيب في أماكن الاحتجاز ليس ممنهجا. ولا يخلو الأمر من الغمز في قناة النشطاء والمنظمات الحقوقية، بدعوى أن فضح الانتهاكات يستهدف الإساءة إلى مصر وتشويه سمعتها. الأسوأ من كل ذلك أن توظف دماء شهداء الشرطة في عملية التستر والتغطية على ما يجرى من خلال المطالبة بإسكات أصوات التنديد بالانتهاكات احتراما لأولئك الشهداء، الذين ضحوا بحياتهم لأجل الدفاع عن الوطن. إذ رغم أن استشهاد أي جندي أو ضابط يدمى قلوبنا، فإن ذلك أمر لا علاقة له باستمرار الانتهاكات، فضلا عن أن استشهادهم لا يبررها ولا يغفرها بأي حال.

إن الذين يدفنون رؤوسهم في الرمال ويتجاهلون البطش الذي تمارسه الداخلية، لا يدركون مدى عمق الفجوة التي تزداد اتساعا في مصر حينا بعد حين بين الشرطة والمجتمع، ولا ينتبهون إلى الآثار الخطيرة المترتبة على مشاعر النقمة والرغبة في الانتقام التي تخلفها الانتهاكات في أوساط الرأي العام. ثم إنهم ينسون أنهم بممارساتهم يسيئون إلى مصر أبلغ إساءة في العالم الخارجي، حتى أصبح سجلها في تقارير المنظمات الحقوقية الدولية بمنزلة لائحة اتهام جرى تعميمها على عواصم العالم. وقد رأينا في حادثة تعذيب وقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني أن أصابع الاتهام أشارت على الفور إلى مسؤولية أجهزة الأمن المصرية، صاحبة السوابق في ذلك المضمار، ولم يصدق أحد خارج مصر البيانات التي صدرت في القاهرة وبرأت الأمن من التهمة. وهو ما حول القضية إلى فضيحة عالمية لها أصداؤها في مجالات السياحة والاستثمار.

إن عمق الأزمة يستدعى تفكيرا في الموضوع أكثر جدية ومسؤولية يضع في الاعتبار الملاحظات التالية:

- إن المشكلة داخل وزارة الداخلية وليس خارجها. وعلى مسؤولي الوزارة إذا ما أرادوا أن يستعيدوا ثقة الناس واحترامهم، أن يراجعوا أساليبهم ويعيدوا هيكلة مؤسستهم قبل أي شيء آخر.
- إن فكرة مراجعة التشريعات حيلة بيروقراطية سقيمة، أقرب إلى إحالة الأمر إلى لجنة تقتل الموضوع وتدفنه في حين تسوق الوهم للناس، ذلك أننا بحاجة إلى سياسات جديدة تحترم الدستور وليس إلى تشريعات جديدة تحتال عليه.

- إن الأمر أكبر من الداخلية في الحقيقة؛ لأن التعذيب جريمة دولة كما قيل بحق. صحيح أن صاحب القرار في الدولة لا يأمر بالتعذيب، لكن المؤكد أنه يستطيع إيقافه. لكنه حين يسكت عليه ويرى الذين يمارسونه يبرأون واحدا تلو الآخر، فلا تفسير لذلك سوى أنه يقبل به ويشجع على استمراره. وحين تسعى الأجهزة لإغلاق مركز "النديم" لعلاج ضحايا التعذيب أو يجرى التحقيق مع رئيس المجموعة المتحدة للمحامين؛ لأنه حاول مع آخرين من الخبراء اقتراح قانون لوقف التعذيب، فذلك معناه أن الدولة تنحاز إلى استمرار التعذيب ولا تستهجنه.

- إن القضية لها أبعاد تتجاوز حدود الازدراء بالإنسان المصري وإهدار كرامته، على أهميتها البالغة، لأن تأثير استمرارها بغير مواجهة جادة يؤثر على الاستقرار الذي ننشده والأمن الذي نفتقده والاستثمار الذي نتطلع إليه. وإذا غيبنا كل تلك العوامل وتجاهلناها، فينبغي ألا نفاجأ بالثمن الباهظ المترتب على ذلك.

عن صحيفة الشروق القطرية