قضايا وآراء

حركة النهضة: من الاستعلاء الإيماني إلى الاستضعاف الحداثي

1300x600
لفهم العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين، قد يكون من المغري توظيف جدلية السيد والعبد، باعتبارها مدخلا نظريا جيدا لفهم الواقع السياسي؛ فمنذ ظهور حركات"الإسلام السياسي" شهدنا صراعات خطابية وميدانية تعكس تصورات حدّية للآخر. إنها تصورات لا تقوم على أساس"التناظر" والندية" ، بل تشتغل وفق ثنائيات عنيفة، ثنائيات تفترض تراتبية معرفية وأخلاقية خطيرة، تجد جذرها "ظاهريا" في جدلية السيد والعبد. لكن هذه الجدلية رغم خصوبتها النظرية لا تساعد كثيرا في فهم واقع أكثر تعقيدا من النموذج الهيغلي المجرد. فنحن في واقع الدولة-الأمة أمام تنافس "أهلي"، لا يمكن أن يرتفع فيه أي طرف إلى مستوى "السيد" بالمفهوم الهيغلي.

إنّ حقيقة التبعية وغياب مفهوم السيادة يجعلان من كل المتنافسين المحليين خارج الأفق الهيجلي للسيد، أي يمنعان انبثاق أي وعي "لذاته" بما هو ميزة السيد. كما أنه لا تتوفر في هذا الواقع"التابع" صفة"الحرية" في أي فاعل محلي، مهما كانت ادعاءاته الذاتية وأساطيره التأسيسية، ولكن تشابه الفاعلين المحليين من جهة فقدانهم جميعا لمقوّمات"السيادة"، لا يجعلهم يتمثلون بعضهم البعض باعتبارهم "متساوين" أو حتى"متشابهين"، كما إنّ "تابعية" الفاعلين المحليين تجاه السيد لا تجعلهم يؤدون الدور نفسه في استراتيجيات الهيمنة الغربية. 

وبناء على ما تقدم، فإنني أقترح توسيع النموذج  الهيغلي بإضافة طرف ثالث إن نحن رمنا تجاوز الطابع المجرد للجدل الهيغلي، وتنزيله في سياق تاريخي مخصوص، ولا شك أنّ دخول طرف ثالث سيغير من هوية الطرفين الأصليين، بل سيجعل من الحديث عن "عبد" بالمفهوم الهيغلي أمرا متجاوزا. لذلك أقترح الخُطة التفسيرية التالية التي تجمع بين الجدل الهيغلي ومفهوم"المنبوذ" في التراث الهندوسي، باعتبار المنبوذ غيرية مطلقة وهوية جماعية مقموعة، وباعتباره أيضا موضوعا للتمييز السلبي النسقي، التي تجعله لا ينتمي إلى المجتمع إلا كموضوع قمع أو "كأضحية تأسيسية"، لما يُسمّى بـ"النمط المجتمعي التونسي" : السيد(أو الغرب باعتباره المتحكم الفعلي في الشأن الداخلي للكيانات التابعة)، والوكيل(أو النخب التحديثية باعتبارها معبرا لتبيئة قيم الغرب ومصالحه "وتونستها")، "المنبوذ" (أو الإسلاميون باعتبارهم المقابل الموضوعي والمفهومي للغرب وباعتبارهم "الخارج المطلق"، الذي تحتاجه النخب التحديثية لبناء صورتها الذاتية وشرعنة دور الوكيل). 


-السيد: ثوروا كما شئتم... و لكن حافظوا على "النمط المجتمعي" 

مهما اختلفنا في تحديد دور الغرب في الثورة التونسية وما تلاها، فإننا لا نستطيع أن نختلف في قدرة هذا الغرب على توجيه تلك الثورات بطريقة تخدم مصالحه ومصالح "وكلائه" المحليين. ولا شك في أنّ "السيد" الغربي لم يقبل أن تمضي الثورة التونسية نحو أفق مؤذن بظهور مشروع وطني، مهدد للعلاقة اللامتكافئة بين المركز الغربي وأحد"هوامشه". ولذلك عمل"السيد" على إعادة التوازن لمنظومة الوكالة ولكن بمراعاة "الحدث الثوري" والإكراهات الجغرا-سياسية المرتبطة بالوضع التونسي. فعوضا عن الانقلاب على الإرادة الشعبية بصورة عنيفة-مثلما حصل بالانقلاب العسكري في مصر-، حاول أن يطوّع تلك الإرادة بطريقة لا تمس مصالحه الاستراتيجية، بدءا من النصاب الثقافي وانتهاء بالنصاب الاقتصادي. فعمد "السيد" إلى توجيه الصراعات نحو أفق ثقافوي هووي جعل سقف  النضال"الديمقراطي" هو حماية المنجز التشريعي والمؤسسي للدولة الوطنية، وجعل سقف النضال"النهضوي" هو التمايز عن حركات الإسلام السياسي، والحصول على اعتراف "العائلة الديمقراطية" ومن ورائها الغرب بأهليته للمشاركة في منظومة"الوكالة".

كان هدف "السيد" الأساسي هو التيئيس من شعارات الثورة ومن طاقاتها التحريرية –مثل الكرامة الوطنية-، و لذلك ضرب أي إمكانية لانبثاق مشروع للتحرر الوطني أو لاكتساب مقومات السيادة. ولم يكن يستطيع تحقيق ذلك إلا بمنع تشكل أي كتلة تاريخية ميتا-أيديولوجية تشمل العلمانيين والإسلاميين على حد سواء، فكان أن سعى-عبر وكلائه المحليين- إلى تقوية الاصطفافات الثقافوية وإلى منع تلك اللحظة التي تتوجّه فيها الإرادات المتصارعة نحو "السيد الغربي"، للمطالبة بتغيير منطق العلاقة معه وتجاوز واقع التبعية. وقد نجح"السيد" في هذه الاستراتيجية الالتفافية  إلى حد كبير، فساهم في إعادة إنتاج المنظومة القديمة -منظومة الوكالة-، لكن مع الحرص على إدخال تغيير صوري في نمط شرعيتها-اعتماد الديمقراطية، لكن في ظل هيمنة المال السياسي الفاسد وسيطرته على وسائل الإعلام-  وتوسيع جزئي لقاعدة النظام الزبونية والجهوية، وهي وضعية ستؤثر في طبيعة تمثل الوكيل التقليدي (النخب الحداثية) و"المنبوذ" الطامح إلى مرتبة الوكيل (حركة النهضة) لذاتيتهما، ولكنها ستجعلهما غير قادرين على التحرك إلا ضمن أفق "الوكالة" التي يجعل من السيادة الوطنية مطلبا مستحيلا على الأقل في المدى المنظور.

الوكيل: عودة البورقيبية أو فشل الثورة في إنتاج رمزياتها الجامعة

لا شك في أن الدولة الوطنية قد قامت أساسا على أكتاف نخب تحديثية، ولا شك أيضا في أن الاختلاف الأيديولوجي بين تلك النخب، لا يعني أنها كانت تبحث عن مرجع للمعنى خارج ما يقدمه تراث"السيد" الغربي في تشكيلاته المعرفية المختلفة. ولكنّ الثورة في تونس أشارت بصورة عنيفة وغير منتظرة إلى وصول ذلك النموذج التحديثي إلى مأزق بنيوي ووظيفي، أعطى للإسلام السياسي جاذبية كبيرة انعكست في انتخابات 2011 التأسيسية. كانت الثورة التونسية كما يقول أحد الباحثين الاجتماعيين "حدثا جللا"، حدثا وضع سلطة "الوكيل" (النخب التحديثية) للمرة الأولى في تاريخها موضع تساؤل، بل موضع تشكيك وتهديد جذري لامتيازاتها المادية ومكانتها الاعتبارية؛ إذ كان"العبد" القادم من هامش المجتمع يتحول بعد الثورة من موضوع للقمع أو للتعاطف الحقوقي إلى ذات تطالب بالاعتراف بنديتها وبحقها في السلطة والثروة. وقد ساهم تكثيف الصراع الهووي الثقافوي في تقوية حظوظ "الوكيل التقليدي"، الذي استطاع أن يفرض على "السيد" الاستعانة به مرة أخرى، كما استطاع أن يفرض على "المنبوذ" وعلى "الوكيل المساعد"(أي القوى اليسارية ذات الطرح الثقافوي) الاعتراف به باعتباره صاحب "الخطاب الكبير"، أي صاحب ذلك الخطاب البورقيبي الإصلاحي الذي تكتسب سائر الخطابات شرعيتها من درجة الاقتراب منه، وتفتقدها كلما ابتعدت عنه.

وقد نجح هذا "الخطاب الكبير" في أن يستثمر الخطر الإرهابي ليضغط من أجل إعادة التوازن للنواة الصلبة للمنظومة الحاكمة قبل الثورة، ونجح في استلحاق أغلب القوى الحداثية وجعَلها في خدمة استراتيجياته الخاصة. وقد وظف"الوكيل" الخطر الإرهابي-الحقيقي والمتخيل- لابتزاز الإسلاميين –خاصة حركة النهضة- ونجح إلى حد بعيد في إعادة الإسلام السياسي إلى وضعية"الخارج/الشر المطلق"، بعد أن كان من المفروض بعد 14جانفي 2011 أن تكون المنظومة الاستبدادية التي قامت عليها الثورة، هي ذلك "الخارج/الشر المطلق" الذي تتوحد كل القوى (بإسلامييها وعلمانييها) ضده وضد منطق اشتغاله، خاصة فيما يتصل بآليات توزيعه للسلطة والثروات المادية والرمزية.
 
المنبوذ: من صاحب مشروع مستقل إلى شريك صغير في مشروع غيره.

كان النهضوي حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي يعيش "مشروعه" باعتباره مشروعا "خلاصيا" يتحرك تكتيكيا ضمن الدولة-الأمة ولكنه يتجاوزها، بل يسعى إلى إلغائها في المستوى الاستراتيجي -سواء في مستوى مفهوم الأمة ذاته أو في ما يؤسسه من فلسفة سياسية وترسانة تشريعية-. كان النهضوي يعيش وعي "السيد" من خلال استعلائه الإيماني ومفاصلته النفسية والمعرفية عن الواقع. ولذلك لم يكن من الممكن اعتباره"منبوذا" إلا من منظور السيد الغربي ووكيله المحلي، وكان الاستعلاء النفسي كفيلا بإعطاء معنى لكل تجارب القمع والاستهداف الممنهج من طرف الأجهزة القمعية البوليسية والأيديولوجية. إذا كان يكفي استحضار مفهوم الابتلاء و"الشهادة" للحق والاستشهاد في سبيله و"غربة الإسلام" و"الفئة الناجية"، ليتأقلم النهضوي مع واقعه وليتحمل العلقم بنفس راضية. لم يكن النهضوي في قرارة نفسه يحتاج إلى شهادة أو العلماني أو اعترافه، وذلك لأنّ مرجع المعنى وسند الوجود لم يكن موجودا في الفلسفة الوضعية ولا في محصولها التشريعي والمؤسسي. 

ولكن، ما إن طرح النهضوي نفسه باعتباره "شريكا" في المنظومة لا بديلا عنها أو ضديدا لها حتى أصبح مسكونا بنوع من الدونية أو الهشاشة"الوجودية"، التي تحتاج  إلى تزكية أو إلى اعتراف "العائلة الديمقراطية أو "الوكيل" التقليدي للسيد الغربي، فاعتراف السيد الغربي يمرّ حتما عبر "الوكيل" المحلي. ولا يمكن فهم مواقف النهضة و"عقلنتها" بعد الثورة إلا إذا ما ربطناها بما تعانيه قياداتها من سيطرة آلية الإنكار، فهؤلاء القادة عاجزون رغم كل ورقات القوة التي بحوزتهم عن مغادرة موقع الدفاع وتبرير الذات، (لسنا إرهابيين..لسنا إسلاما سياسيا...لسنا حركة إخوانية)، كما إنهم مازالوا يعانون من متلازمة ستوكهولم (التماهي مع الجلاد)، ولا شك في أننا أمام وضعية نفسية-معرفية تستضعف النهضة وتجعلها تستبطن نوعا من الدونية في علاقتها بـ"النخب التحديثية"، فرغم أنّ تلك النخب لا تمتلك أي أفضلية نظرية أو عملية على النهضة في مستوى مساهمتها في عملية الانتقال الديمقراطية، أو في مستوى تاريخ علاقتها بالنظام الاستبدادي القائم قبل الثورة، فإنّ "الوعي النهضوي" مازال مسكونا بنوع من عقدة الدونية تجاهها، وهي عقدة استثمرتها تلك النخب ووظفتها في "تدجين" حركة النهضة، وفي "تحجيم" دورها السياسي رغم عمقها الشعبي وتمثيلها النيابية الوازنة. 

التونسة: طريق الخلاص أم طريق التدمير الذاتي؟

ختاما، فإن النهضة ستجد نفسها في مؤتمرها القادم أمام ممكنات تاريخية ثلاثة ليس من السهل التنبؤ بآثارها ولا بتداعياتها في المستويين المحلي والإقليمي، فإذا ما أصرّت النهضة على الحديث  بمفردات دينية، وعلى التلازم في هويتها السياسية بين المرجعية الإسلامية ومرجعية الدستور، فإنها ستُدمغ بتهمة أسلمة المجتمع وضرب أسس التعايش المدني بين التونسيين، وإذا ما رامت الحديث بلغة "الحزب المحافظ"، فإنها ستُتهم بازدواجية الخطاب وبمحاولة أسلمة الدولة عبر  مشروع  سياسي حداثي "مخاتل"، هو في جوهره مجرد امتداد للمشروع الإسلامي ذاته وإن بمفردات مختلفة، أمّا إذا ما أنجزت"قطيعة" جذرية مع مرجعيتها الإسلامية وتحدثت بلغة"النمط المجتمعي" وتماهت معه، فإنها ستفقد هويتها ولن يكون لها أي مستقبل سياسي رغم كل مغريات"التوافق". فالذهاب في التنازلات والتطمينات  إلى درجة الذوبان في الحقل السياسي المطبوع باللائكية الفرنسية، سيُفقد حركة النهضة جزءا كبيرا من خزّانها الانتخابي، ولكنّه لن يضمن لها -في صورة تواصل الإرهاب اللغوي والابتزاز السياسي، والتشكيك النسقي الذي تواجهها به النخب التحديثية- أن تنجح في بناء خزان انتخابي بديل ضمن الـ 75% من التونسيين، الذين يُعرّفون أنفسهم باعتبارهم "محافظين" وإن لم يكونوا بالضرورة"متدينين".