كتاب عربي 21

هيغل لم يمرَّ بتونس

1300x600
هذا ليس درسا في الفلسفة. ولكن يبدو أن المرء يحتاج إلى التذكير ببعض البديهيات في سياق لم يعد يفكر لنفسه وإنما يفكر له فينقاد كما السائر في نومه أو الضرير يحتاج يدا ثالثة لتوصله إلى غاية عجز دونها لتوهُّمِه الحواجز في الطريق. يصل السؤال بنا أحيانا إلى من يحكم تونس الآن؟ وهذا السؤال يعيدنا إلى سؤال أبعد غورا هل تونس دولة فعلا ولها نظام سياسي وأبعد من هذا التشكيك العاطفي الغيور على المكسب الموهوم، أين ميراث الزعيم الذي بنى الدولة وقال قائله لولاه ما كنا سوى غبار من بشر؟

مثير هذه الأسئلة الحزينة في النفس هو مشاهد تتسارع في تونس وتكشف أن إيمان التونسيين بدولتهم هش أو غائب تماما حتى ليظن المرء أن بقاءهم معا على رقعة واحدة من الأرض هو من عجزهم عن الهروب منها أو تربصهم ببعضهم كضباع محترفة. 

من أين نبدأ في عرض ما نراه فشل بناء الدولة في النفوس؟ أي فشل الدرس الهيجلي.
الرئيس الذي يطلق النار في كل اتجاه

في نظام برلماني يوكل مهمة إدارة الحكم التنفيذي لرئيس الحكومة وفريقه يفترض أن مهمة رئيس الدولة تتجه إلى بناء صورة البلد الديبلوماسية وبناء شبكة علاقات تخدم البلد سياسيا وتشهره. فضلا على أن الرئيس يصير حكما رمزيا بين فرقاء الداخل إذا احتد بينهم الخلاف حول السلم الداخلي أو استجد من أمرهم نازع غير حميد. 

لكن الرئيس سافر في جولة خليجية ظاهرها وباطنها تدبر أموال لرفد ميزانية عاجزة وتوشك على الإفلاس. في سفرته صغَّر رئيس حكومته فوضعه في صورة مدبرة البيت التي لا تخاطب جيرانها. وزاد فانهمر لسانه في توصيف التجربة الديمقراطية بأنها ليست للتصدير فهي عار أو هي مخيفة. كما أنها معركة بين متطرفين فهو في الكويت يحارب التطرف الإسلامي وفي البحرين يطق على التطرف اليساري فلم يبق في البلد غيره وغيره حزبه الذي يعرف مستمعيه مآلاته المخزية. صورة البلد هناك بعد مرور الرئيس وريث الزعيم وتلميذه دولة مفلسة وشعب يتناحر. كيف يمكن للرئيس أن يستعيد دور الحكم الأخلاقي بين أنصاره ومعارضيه وقد (مرمطهم) على حافة بئر نفط. هل يؤمن الرئيس بالدولة ويتمثلها تمثلا كاملا أم يديرها بذهنية مكتب محاماة تعقد صفقات لتخليص أمور طارئة؟ 

معارضة قانونية برلمانية تنظم ثورة لقلب النظام

الأسابيع الأولى من السنة شهدت ثورة صغيرة على خلفية مطالب اجتماعية وصلت إلى حد طرد ممثل الدولة وإحلال شخص محله (معتمدية جبنيانة/ محافظة صفاقس/ وسط البلد). ورفعت شعارات إسقاط النظام داخل مبنى محافظة تونس. وما كان هذا منكرا في عرف الثورات ولكن أن تقوم بذلك وتقوده أحزاب قانونية وبرلمانية فإن الأمر يصير كاريكاتوريا فعلا ويكشف أن تمثل الأحزاب للدولة وللعمل الحزبي القانوني ضمن شروط التعايش الديمقراطي غائبة في وعي هذا الأحزاب وممارساتها. هناك اختيارات وهناك مسؤوليات فأن يكون الحزب في المعارضة فهو ليس خارج الدولة بل أن وضع المعارضة في الدستور ليس فقط مسموحا به هو هل شرط وجود العمل السياسي الديمقراطي وشرط وجود الدولة الجديدة. والقبول بهذا يعني التزام شروط الوجود القانوني وهو الحفاظ على الدولة. ليتم الحفاظ على دور المعارضة. في خلاف ذلك يصبح الأمر فوضى تكشف فقر الثوار في مجال الفكر السياسي وعجزهم عن التعايش بشروط الدولة. وجنوحهم إلى الغزو والسلب.

العقاب وراء الطفل المحتضر

الصورة المشهورة عالميا للعقاب الذي يدب وراء الطفل الأفريقي الجائع منتظرا موته ليأكله. تذكرني بصنف ثان من المعارضة التونسية. قسم من التونسيين المعارضين لم يقع في ما وقع فيه محرضو الثورة من داخل البرلمان بل وقفوا ضدها تقريبا وأعلنوا الحفاظ على (الشَّقَفْ) وهو لفظ يعني في تونس السفينة. حتى ليخيل للمحلل أنه النضج الديمقراطي. لكن هل هو نضج المحافظين فعلا على السفينة أم انتظار حمولتها إذا غرقت؟ كيف نقرأ فعل حزب أو شخص معارض لا يقترح برامج ولا ينظم لقاءات ولا يستقطب جمهورا إلا من وراء حاسوب؟ أو في نزل خمس نجوم؟ 

هذا ما بدا لي من فعل طيف واسع من الحزبيات التي صنفت نفسها في الحراك الديمقراطي الاجتماعي. لتحل الموقع الثالث الوسطي بين يسار الجبهة ويمين النداء والنهضة. إني أراهم يتربصون على طريقة معارضة بن علي بما قد تفيض به السلطة عليهم كرما ومِنَّة. أو تسقط جثة فيأكلون من سلبها. تبدو المعارضة عندهم تسَقُّط عاهات السلطة حتى تسقط السلطة من تلقاء نفسها. وهذا لعمري أبعد ما يكون عن معارضة تؤمن بالدولة. 

ذهنية الراعي والقطيع 

يوجد خلط عجيب متخلد من زمن كان فيه محمد الشرفي أستاذ القانون يقدم مدخلا لدراسة القانون ويبرر للسلطة أن تغير الواقع بالنص ثم تغييره على الأرض بقوة النص. وللتذكير فان البلد حكمه رجال القانون منذ تأسيسه وهم قوم يعتقدون كما رباهم أساتذتهم انه اذا كان النص الترتيبي سليما فإن الواقع خارج النص سليم أيضا ويمكن تعديل انحرافاته بنصوص ترتيبية أخرى. حتى يدخل في القالب القانوني.

لقد توصلت العلوم السياسية إلى أن التغيير الفوقي غير منتج ولكن قبل تقييم الأداء والنتائج فان الذي يفكر في قياد الناس بموقف فوقي أو بنص مرتب في مكاتب مكيف يكشف ذهنية فوقية ما قبل الدولة. أنه يجعل السلطة أي سلطة مجرد جهاز (ريموت كونترول ) لا تصل إشارتها إلى (الرسيفر). ومن هذا المنظور فإن النخبة السياسية سواء التي تحكم الآن وتطلق النار في كل الاتجاهات أو المعارضة التي تتحرك من داخل البرلمان وتريد ثورة جذرية. أو التي تتظاهر بالمعارضة من راء حواسيب وهي في غالبها خريجة حقوق هي نخبة تؤمن بالحكم ولا تؤمن بالدولة وهما ليسا واحدا ولذلك قلنا على سبيل المدخل أن هيجل لم يمر في تونس رغم أنه درس فلسفي قار في كليات العلوم الإنسانية. 

إرث الزعيم 

قضى بورقيبة ردحا من الزمن يحدث التونسيين عن إنجازه العظيم أي الدولة الحديثة ذات الأفق الإنساني القائمة على المعرفة العلمية لتحقيق رقي الناس وسعادتهم. ولكن مفردات الواقع اليومي كشفت باستمرار أن هذا الإرث مغشوش وأن الدولة لم تدخل عقول الناس ولا قلوبهم. لقد خضعوا للسلطة القائمة وأطاعوها رغبة ورهبة ولكنهم لم يستوعبوا فكرة الدولة ولا ذهنية التعايش ضمن دولة. 

ولقد بينت لهم الوقائع بالأدلة أن الزعيم قد كذب عليهم إذ لا يمكن أن يحل محل الزعيم الباني شرطي انقلابي يفترض أنه الأقرب إلى عقل الدولة لا إلى عقل الانقلاب. لكن الزعيم سقط بانقلاب من جنس تفكيره ومشروعه. وأمامهم الآن عرض كاشف يجري في هواء طلق بأن النخبة التي تهتم للسياسة (في الحكم وفي المعارضة) وكثير من فئات الشعب المنظم في نقابات لا تؤمن بالدولة ( إرث الزعيم الباني) بل تتصرف على أسس الغنيمة القريبة (تفكير الغزو والسلب) وهو تفكير أبعد ما يكون عن فكر الدولة بل هو ذهنية ما قبلها (ذهنية القبيلة الغازية أو في أفضل الحالات ذهنية جامعي الفيء بعد حروب الآخرين).

ثقافة الغزو تسيطر على المشهد الآن لدى كل الأحزاب والفئات. وهي لا تتراجع لصالح الدولة بل تهدد باستمرار بالعودة إلى ما قبل ما قبل الدولة. لم يترك الزعيم دولة ومن سخرية الدولة أن أحد أعضاده ممن يزعم بناءها يخلفه الآن ويتصرف كشيخ قبيلة متسول وهجَّاء. ولذلك فإن التفاؤل ببقاء (الشقف) يتلاشى ونزعات الغزو تكشِّر في وجه سلطة أهشُّ من أن تدافع عن نفسها أمام نقابة الشرطة التي غزت قصر الرئيس واقتحمت عليه غرفة نومه.

بمرارة نقول إن مرتقى الدولة أمام التونسيين لا يزال وعرا وطويلا ولعل أهم خطوة فيه التحرر من أكاذيب الزعيم ومن أكاذيب النخب التي رباها على الغزو. ولا يكفي أن تدرس هيجل لتلاميذ الفلسفة ليصبح الشعب هيجليا في إيمانه بالدولة.