قضايا وآراء

الأساطير المصرية

1300x600
تعرف الأسطورة في المعجم الوسيط على أنها خُرافة، حديث ملفَّق لا أصل له؛ وتحاول الأساطير رسم صورة للواقع مُنتَجة من العقل الجمعي للمجتمع لتحاول وصف الواقع لا بناء على أحداث موثقة وحقائق مثبته ولكن تعتمد على أحداث خارقة للعادة تُبنى وتُنظم وكأنها حقيقية؛ وهي مجموعة من انطباعات شعبية وموروثات نشأت كمحاولة لصناعة صورة ذهنية يسعى بها المجتمع لترسيخ أفكاره أو بطولاته.

وفي الماضي البعيد كانت الأساطير مقدسة تحمل في داخلها أفكارا عن الدين والله والبشر؛ ومع تقدم العقل البشري وإدراكه الأعمق لنفسه وللكون عن طريق الأديان السماوية والتقدم العلمي؛ انزوت الأسطورة وأصبحت أقرب إلى الأدب الشعبي الذي يساعدنا في إدراك شكل وطبيعة المجتمعات القديمة وكيفية رؤيتها للعالم. 

ولم يسلم المجتمع المصري من الأساطير المؤسسة عبر العصور الموغلة في القدم كغيره من الشعوب؛ ومصر القديمة كغيرها من الحضارات في الأزمان البعيدة امتلأت بالأساطير ولكن ربما كانت مصر مختلفة عن غيرها حيث ما زالت روح الأساطير القديمة تعيش في وجدان المصريين.

عندما تتابع الإلياذة الإغريقية والمهابهارتا الهندية والشاهنامة الفارسية وغيرها تجدها تتحدث عن صراعات القوة والسلطة وملاحم من البطولة الفائقة في كل مراحلها؛ ولكن عندما تتابع الأساطير المصرية فلا تجد لها هذا المنحى وتجدها تتحدث في إطار أخلاقي بعيدا عن الشكل العام للأساطير الملحمية؛ وتحاول الابتعاد عن مساحة السلطة والقوة وعن صدام وصراع السلطة. وتتحرك إلى علاقات الآلهة في إطار قيمي.

فلا تجد في أسطورة إيزيس الرائعة إلا صراعا بين الخير والشر؛ ربما كان هذا احتكاكا غير مباشر بالسلطة؛ كما تجد خطا غير مرئي بين معظم الأساطير المصرية "القديمة" يحمل معاناة وألما فقط دون انتصارات كبيرة أو ملاحم ضخمة كغيرها من الأساطير الكبرى للحضارات الأخرى في نفس الزمان.

إن هذه الفكرة تحتاج إلى الوقوف أمامها؛ فلماذا لم ينتج المصريين أدبا أسطوريا ملحميا؟ أهي حكمة اقتضت الابتعاد عن الواقع والاكتفاء بالحديث عن القيم؟ أم أن المجتمع المصري لم يكن معنيا بما يحدث حوله من انتصارات وبطولات لم يشارك فيها؟ أم أن الحقيقة أنه لم يجد ما يتحدث عنه؟.

لقد كانت الأساطير الشعبية أحد أهم عمليات إنتاج الشعوب الأدبي قديما وكانت تعبر عن تركيبة المجتمع الفكرية واهتماماته؛ وعندما ينأى الحديث عن حالة معينة كانت هي السائدة فعلينا التوقف والسؤال.

الخطورة أن الإجابة لا تتعلق بالماضي فقط فهي وثيقة الصلة بالحاضر؛ حيث لا زالت الأساطير المصرية المعاصرة تتجنب الحديث عن استبداد السلطة ولكن ليس كما فعلت منذ آلاف السنين بتجاهلها ولكن بحمايتها.

تعود الأساطير الآن بنفس روح الماضي؛ ليس بالضرورة كأسطورة إيزيس ولكنها تدور في فلكها، فأساطير اليوم تتحدث عن أمنيات ليس فيها من الحق شيئا؛ تحاول صناعة حالة غير حقيقية وتصر على أنها الحق المبين؛ وأصبحت تلك الأساطير مؤسسة للعقل الجمعي المصري وكل من يحاول التحرك خارجها يقصف بكل منصات المدافع التي يمتلكها صناع الأساطير الحديثة.

وعندما تخرج ما يوثق ما تقول وتكشف الأسانيد والحقائق التي تهدم الأسطورة وتتحرك ناحية الحق ويشعر المؤسسون الأوائل باقتراب انهيارها؛ يبدأ الهجوم الناري الكاسح من رجال المعبد. 

جرت في الأرض المصرية مياه كثيرة ودماء أكثر في الأعوام السابقة وتهدمت أعمدة تابوهات كانت تحتل العقل المصري في قطاع ليس بالقليل في المجتمع؛ وبدأت الأساطير المؤسسة للدولة المصرية في الانهيار وخرج رجال المعبد من كل حدب وصوب ليدافعوا عنها صوب سهام الحق النافذ التي تخترق الحجب وتظهر حقيقة الصورة التي غابت وسط ضباب الأساطير المؤسسة.

إن هدم تلك الأساطير أصبح الأمل الوحيد في صناعة عقل جمعي مدرك لحقيقة الصراع وأبعاده وجذوره ومحاولة ترميم ما انهار من أعمدة الأساطير المؤسسة لن يصيبها النجاح؛ فالسوس الذي ينخر بها منذ مئات السنين كفيل بهدمها؛ إلا أن ضربة فأس واجبة لا لهدمها فهي منهدمة لا محالة؛ ولكن ليدرك الجميع أن هناك من أدرك وهناك من فعل.