"القانون لا يحمي المغفلين" أو "لا يُعذر الإنسان بجهله للقانون" وغيرهما كثير من التعبيرات التي تؤثث المشهد التواصلي العربي الكاذب وتطغى في أحيان عديدة على الخطاب التبريري للنظام السائد من أجل التغطية على جرائمه في حق الفرد والمجموعة. هي جزء أصيل من جدران الوهم التي عليها أسّس بناء الظلم العربي قواعده الأكبر.
"القانون" لا يحمي المغفلين لكنه في بلاد العرب يحمي اللصوص ورجال العصابات وشركات النهب العالمية ويحصن الفاسدين بأضخم النصوص القانونية تبريرا وأشدها مرونة وقابلية للتوظيف. قد لا يُعذر الإنسان بجهله للقانون لكن هل تعذر "الدولة" بخرقها للقانون نفسه ؟ القانون في مزارعنا العربية الواسعة لا يحمي غير اللصوص والمجرمين ولا يطال غير الأبرياء والمسحوقين وهو قد جُعل أصلا لذلك مثله مثل القانون الدولي والعدالة الدولية وبقية المساحيق التي تجمّل وجه الاستعمار القبيح.
الشواهد على العدالة العربية العرجاء لا تنتهي وقد لا نجانب الحقيقة إن نحن اعتبرناها حجر الزاوية في البناء الاستبدادي وأنها جوهر السقوط العربي ومحور محاور الصراع الدائر بين إرادة الحياة التي جسدتها حناجر الجماهير العربية في الميادين والساحات وبين إرادة تأبيد الاستبداد التي تمثلها آلة الموت الجبارة وهي تحصد آلاف الأجساد من الأطفال والنساء بالبراميل تارة وبالقناصة أخرى وتجرّف وعيهم وإرادتهم بإعلام العار وبالنخب الرمادية دائما.
لماذا انتفض الإنسان العربي فجأة ؟ ما الذي حرّك في الجسد المخدر ـ لا النائم ـ إرادة الحياة ؟ من أخرج من حناجر المعذبين في الأرض أن " الشعب يريد إسقاط النظام" ؟ بعض نخب العار العربية وأشدها فتكا نظريا أجابت : " إنها المؤامرة " وهي إجابة شاطرهم فيها كبيرهم صاحب العشق الإيراني والهوى الفارسي الذي لا ينتهي و قد تربع زعيما لإعلام الزيف العربي عبر سنوات من القَصّ ومن حصص التنويم التي كان يتقن عبرها سرد لقاءاته البائسة مع قادة العالم و هو يحتسي معهم القهوة النادرة ويدخن السيجار الكوبي الفاخر ويبكي على آلام
المصريين. هي حقا "مؤامرة" عرت زيفه وزيفهم وكشفت أن النخب العربية وخاصة الإعلامية منها جزء أصيل من نسق الاستبداد نفسه وشرط من الشروط التي لا يقوم الصرح الدامي للنظام الرسمي العربي إلا به.
انتفض الإنسان العربي طلبا للعدل أولا وللعدل ثانيا وللعدل ثالثا ووعيا بالظلم والإهانة. العدلُ جوهر الوجود الاجتماعي وهو بمفهومه الوظيفي الدقيق، لا القانوني الضيق فقطـ المحرك الحقيقي لأنساق الحضارات والمحدد المركزي للتطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لأي مجموعة بشرية.
العدل مطلب فطري ـإن لم نقل عضوي بالمفهوم البيولوجي للتسميةـ لأنه شرط من شروط السواء والامتلاء والحركة لأي جسد بشري هندسي. لهذا السبب ربط ابن خلدون بين العمران وبين العدل ربطا لا فكاك له سواء بالإيجاب لأن " العدل أساس العمران " أو سلبا بأن "الظلم مؤذِن بخراب العمران".
اليوم تفرز الأرض العربية ببركات ربيعها الكبير وثوراتها الأكبر ـرغم أنف الانقلابيين وأبواقهمـ مشهدا فريدا يعري زيف العدالة ويكشف حجم الجريمة التي ارتكبت في حق الإنسان والأرض.
مشاهد الظلم ـ المؤذن بخراب نسق الاستبداد ـ لا تنتهي في الراهن العربي بدأ بأحكام الإعدام الصادرة عن النظام العسكري الدموي المصري أو تلك التي تصاحب رقصة الديك المذبوح في سوريا وصولا إلى قانون المصالحة مع رجال "بن علي" الذي يُعرض على البرلمان التونسي.
النظام الاستبدادي العربي يعيد بغبائه المعهود إنتاج الشروط المؤدية إلى نفس الانفجار الذي اندلع في الريف التونسي الفقير يوم 17 ديسمبر 2010 وكان فاتحة الثورة العربية.
أحكام الإعدام العربية عنوان من عناوين بلوغ البناء السياسي والسلطوي السابق لثورة تونس مرحلة حرجة وغير قابلة للتجاوز من داخل النسق نفسه لا من خارجه أي أن النظام يرسل بنفسه مؤشرات بلوغه مرحلة اللاعودة. أما قانون المصالحة التونسية الذي سيبيّض كل عصابات النهب وسيمحو كل الجرائم الاقتصادية في حق تونس وشعبها خلال ما يزيد عن نصف قرن فهو رصاصة الرحمة في جسد الموجة الأولى لثورة أحرار القصرين وسيدي بوزيد وتالة وبوزيان وقوافل شهدائهم.
هو كذلك من ناحية وهو من ناحية أخرى الباعث الضروري لتحرك الموجة الثانية للوعي العربي الجديد الناسل من بين أنقاض ما أنجزت الموجة الأولى بالشكل الذي يسمح للموجة الثانية بتسوية النتوءات التي لم تسويها الموجة الأولى أي أنها ستصلح خلل الموجة الأولي وتحقق ما لم تحققه.
التتابع المنطقي والتاريخي لأحداث ربيع العرب العظيم ـ رغم براميل نظام المقاومة وداعشه ـ يؤكد بأن مقاومة الاستبداد العربي لحركة التاريخ هي كمن يحارب أمواج البحر أو كمن يواجه حتمية البيولوجيا وصرامة تطور الكائن الحي بالخرافات والتعاويذ.
العدل شرط الحرية والحرية شرط وجود الإنسان وهما ـ العدل والحرية ـ ألد أعداء الاستبداد وأشرس نقائض الإرهاب لأنهما لا يتعايشان أبدا في نفس السياق الاجتماعي بل لا يستقيم وجود الأول إلا بنفي الآخر وإلغائه.
حتمية التاريخ والاجتماع هذه ونواميس أنساق الوجود الثابتة تلك هي التي تسفه أحلام سدنة الاستبداد وكتائبه المتحركة على الأرض و مجموعاته المقاتلة على تخوم العالم الافتراضي وعبر الشبكات العنكبوتية وتقوض صرح الأوهام التي ركزها " كلاب الحراسة " العرب حسب تعبير بول نيزان في مؤلفه الأشهر.
لا عودة إلى الوراء مهما قصفت منصاتُ إعلام العار خلايا الوعي العربي ومهما حاولت إيهامه بأن الأرض لا تدور وبأن الاستبداد قدَرنا الذي لا فكاك منه لأنها نسيت أن إرادة الحياة من إرادة الله وأن إرادة الله لا تخيب أبدا.