تعرف الأيديولوجيا في واحدة من أدق التعريفات كما أراها بأنها "النظام الفكري والعاطفي الشامل الذي يعبر عن مواقف الأفراد من العالم والمجتمع والإنسان"؛ وربما لا نستطيع أن نجد فردا في أي مجتمع مهما كان بسيطا خاليا من توجه أيديولوجي حتى لو كانت أفكارا غير مترابطة.
فكلنا نحمل صورة ذهنية للعالم ولعلاقاتنا بالمجتمع وبرؤيتنا لأنفسنا أو من حولنا؛ وتختلف من فرد لفرد ومن مجتمع لمجتمع طبقا لمقدمات تاريخية واجتماعية معقدة، ويحقق التطور البشري وتراكم الخبرات بناء منظومات فكرية تقترب من التجانس ويجتمع عليها الكثير من البشر، والأديان أحد مصادر تكوين
الأيديولوجيات، فكل دين يحمل رؤيته الخاصة عن المجتمع والعالم والإنسان، والإسلام يعطي مجموعة من المقدمات التي تؤهل مفكريه والمنتمين إليه من تكوين صورة واضحة عن تلك الركائز الثلاث، ويبدو أن الصراع الأيديولوجي العنيف الذي يملأ العالم الآن ينحاز بشدة ضد الأيديولوجيات والأفكار الإسلامية، نظرا لاحتوائها على مجموعة من الأفكار المتجاوزة التي تفتقدها الأيديولوجيات الأخرى؛ فهناك مجموعة من القواعد الفكرية الغير قابلة للنقاش في المرجعة النهائية الإسلامية.
وأي مجتمع لا يمكنه التحرك إلى الأمام أو حتى للخلف دون الإجابة على تلك الأسئلة الكلية ويحدد ما هي أيديولوجيته التي سيبني عليها أهدافه وإجراءاته، ليستطيع تطبيق تلك الأفكار المجردة على الأرض، والعمل
السياسي بل حتى الأفكار السياسية هي مجموعة من الأفكار والإجراءات لا يمكنها تجاوز الأيديولوجية.
وعندما تعرف
السياسة بأنها فن الممكن، فعلينا أولا تأكيد أنه الممكن تحت عباءة الأفكار الكلية وليس الممكن على إطلاقه لأنها في حالة التعميم ستصبح أحد أهم أدوات الفساد والإذعان.
والسياسة تأتي في مرحلة لاحقة بعد تحديد ما هي الأفكار الكلية التي يجب الإيمان بها وفي غيابها تصبح السياسة حالة سائلة بدون محددات، وتتحول إلى مجموعة من الإجراءات والأفكار الخالية المضمون.
ولا تظهر أزمات في حالة اقتران العمل السياسي بكل أشكاله تحت أيديولوجية واضحة مهما كانت الضغوط والتضحيات، ولكن تظهر الأزمة عندما ينبغي عليك المفاضلة بينهم؛ وفي التاريخ القريب نرى أحد رموز الليبرالية في مصر ضرب بالسياسة عرض الحائط وقرر الارتماء في أحضان العسكر، لا لشيء إلا دفاعا عن أفكاره الكلية التي تتناقض تماما "كما يرى" مع الأيديولوجية الحاكمة والتي أيقن صعوبة إزاحتها بأدوات العمل السياسي؛ وأيضا التيارات اليسارية في مصر قامت بنفس الفعل وفضلت أيديولوجيتها التي تدافع عنها وكسرت قواعد العمل السياسي وارتمت في أحضان عدوها الأعظم ألا وهي الدولة العسكرية عندما وجدت أنها ستختفي وسط الزخم الهائل لتيار "الإسلام السياسي".
قررت أن تبدأ المعركة من جديد للدفاع عن أيديولوجياتها، حتى في ظل ظروف القهر المتوقعة من النظام العسكري.
قررت تلك التيارات التخلي عن سمعتها السياسية في سبيل أفكارها؛ فالأفكار غير قابلة للتفاوض. لذا فمن الصعوبة الشديدة بداية عمل سياسي دون الاتفاق على الحد الأدني من الأفكار الكلية للمجتمع أو الاتفاق على وسائل تداول السلطة بين التيارات المختلفة دون التطرق إلى الخلاف الأيديولوجي، والبديل الثاني هو ما سعى إليه تيار "الإسلام السياسي" قبل انقلاب يوليو 2013.
فشلت المحاولة ورجعنا إلى نقطة الصفر أو ما دونها؛ والتزمت كافة التيارات الأيديولوجية الليبرالية واليسارية الحقيقية بأدبياتها وأفكارها الكلية وضحت بسمعتها السياسية في سبيل ذلك؛ ولابد لنا أن نفرق بين من ضحى بسمعته السياسية وحافظ على أفكاره وبين من ضحى بالاثنين معا؛ فمن أيد الانقلاب العسكري غير من أيد الانقلاب ثم أيد التصفية العرقية التي تحدث كل يوم بعد ذلك منه.
والسؤال الحاكم الموجه للتيار الإسلامي بعد انهيار فكرة تجاوز الأيديولوجية وفشلها الكامل في السنوات الأربع السابقة؛ هل سيستمر في مرحلة تجاوز الأيديولوجية التي أثبتت فشلها؟
وأرى أن الإجابة لها عدة بدائل لن تخرج عنها:
الأولى بنعم، سيستمر في تجاوز الأيديولوجية بل وتغييبها وسيعمل على تجميع كل القوى الفاعلة في المجتمع المصري.
إذا كنت كذلك فعليه الإجابة على عدة أسئلة هامة:
- كيف سيتعامل مع العداء الجيني الموجود للقوى "الليبرالية" واليسارية لتيار "الإسلام السياسي" وبعضها في عداء مع المنهج ذاته وهي تدرك أصل الأزمة أنها ليست سياسية بل أعمق من ذلك بكثير؟
- كيف ستتجاوز الأيديولوجيه وتغيبها ؟، وهل التغييب مرحلي تكتيكي أم استراتيجي؟ وما هي حدود تجاوزك لها؟
- إذا حدث ذلك فمتى ستظهر الجوانب الأيديولوجية في الصراع؟ وكيف ستتعامل معها عندئذ؟ أم أنها ستختفي للأبد؟.
أما
الثانية فنعم، وسيتجاوز الأيديولوجي مرحليا دون تجنيبها تماما في مرحلة التوافق مع القوى الأخرى.
هناك بعض الأسئلة أيضا التي ينبغي الإجابة عليها:
- هل ستقبل القوى الأخرى أن تستخدمها لإحداث التوافق ثم تنتصر عليها في أي عملية ديمقراطية أخرى؟
- ما هي ضمانات عدم تكرار مشهد 3 يوليو؟
- ما هو العائد الذي سيعود على القوى الأخرى المخالفة لك تماما عندما تنضم للدفاع عنك وهي ترى أنها معركتك، ثم ما هو العائد لك أنت في إذابة الأفكار في صالح "السياسات" التي لا تنشئ
مجتمعا ولا نظاما دون أفكار حاكمة.
والإجابة بأن هناك قيما تجاوز الأيديولوجيات أرى أنها إجابة خاطئة بل ومضللة.
ويبقى البديل
الثالث وهو أن يدرك التيار الإسلامي أن أصل الصراع ليس إلا صراعا أيديولوجيا واضحا يمكن فيه استخدام أدوات السياسة ويدرك أن الصراع يرتدي عباءة صراع السلطة، ويدرك أن الآخرين مدركين تماما كيف يفكر؛ وأن بقاء الأفكار الكبرى مقترن دائما بالإيمان المطلق من معتنقيها أن فقدانها ليس فقط تخليا تكتيكيا عنها ولكنه سبب كافٍ للهزائم الكبرى، والتاريخ يحمل الكثير من النماذج التي انهارت واختفت بها حضارات عندما اختفت أفكارها من عقول وألسنة حامليها.