في مصر؛ كما الحال في كثير من بلدان العالم العربي والإسلامي؛ تروج أوهام منذ عقود طويلة؛ وأزعم أن أشدها مدعاة للسخرية هو وهم "
الدولة"، يبدو أن المقال سيحمل أقواسا كثيرة؛ حيث يبتعد ابتعادا فاضحا واقع الحال عن المضمون الحقيقي للمصطلحات.
الدولة تلك الكلمة التي أصبحت صنما من الحجارة يحمل جزيئات فاسدة لا يريد أحد الاقتراب منها؛ كان في الماضي عندما يجوع شخص ما فلا مانع عنده من أن يأكل صنمه؛ أما الآن فباتت الأصنام حجارة متكلسة من جزيئات مسمومة تحميها الأفاعي ولا تسمح لأحد من الاقتراب منها إلا إذا كان مسمما مثلها.
إن الدولة بشكلها المعاصر قد تطورت كأحد نتائج التطور التاريخي الغربي في بيئة فكرية وثقافية وإجرائية تختلف تماما عن الواقع والماضي العربي الإسلامي؛ لذا نجد تكوين الدولة وكل مؤسساتها هو تكوين مشوه غير قادر على الانسجام مع المجتمع بل وغير قادر على تحقيق أي تطور فعلي في بنيته السياسية أو التنظيمية.
فكل
المؤسسات التي تم إنتاجها في الغرب نتيجة لهذا التطور التاريخي الخاص بهم فشلت في الاندماج مع الواقع المحلي لنا لأنها أقحمت إقحاما داخل التطور الطبيعي للمجتمع دون قواعد فكرية حاكمة ناشئة من داخلنا؛ ولغياب الأسس الفكرية التي تستطيع تطويع المؤسسات داخل المجتمع أو تقييمها ابتداءا من حيث موافقتها لبنية المجتمع الاجتماعية والفكرية؛ أصبحت بدون هدف أو دور وتحولت إلى مؤسسات سلطوية طبقية ليس لها علاقة بالمجتمع.
فمثلا الأحزاب داخل المجتمعات الغربية نشأت من داخل البرلمانات أي أنها نشأت نتيجة لقواعد فكرية متشابهة تجمعت سويا؛ أما في المجتمعات العربية فهي قامت على أفراد من أعلى بدون قواعد حقيقية. مؤسسات القضاء مثال آخر استوردت منظومات قانونية وإجرائية ليست نابعة من الأصول الفقهية والاجتماعية للمجتمع فتحولت مع الوقت إلى أدوات قمع.
لا ينبغي تصور رفض مطلق لفكرة الدولة ولكن ما ينبغي إدراكه أن أي إجراء لا يتم إدماجه في المجتمع من خلال منظومة أفكار ينتج تشوها حادا بالمجتمع ويؤدي إلى تدميره؛ وتاريخ نظم السلطة في الإسلام لم يتجاهل نظم الإدارة والإجراءات التي تعلمها من المجتمعات الأخرى؛ بل على العكس استعان بها واستطاع دمجها داخل بنية التنظيمات السلطوية؛ ولكنه كان يمتلك قواعد فكرية تؤهله لإحكام دمج تلك الإجراءات والوسائل داخل المجتمع طبقا لهذه القواعد بدون أن تؤدي إلى الخلل الهيكلي الموجود الآن داخل المجتمعات العربية.
لقد تحولت مؤسسات المجتمعات العربية وربما لا نتجاوز إن قلنا كافة المؤسسات إلى كيانات منفصلة عن مجتمعها ليس فقط على مستوى الأفكار ولكن أيضا على مستوي الأفراد المسئولين عن إدارة تلك المؤسسات؛ وأصبح حجم التشوه الحادث والفارق الكبير بين هدف المؤسسة وما تقوم به فعلا فارقا يصعب إصلاحه؛ وأدى طول الوقت منذ إنشائها دون عمق تاريخي واجتماعي داخل المجتمعات العربية وبدون إدراك من المهتمين بالشأن لحجم المشكلة إلى تحولها الكامل من مؤسسات مستوردة الروح والشكل وإلى مؤسسات مشوهه لا يمكن بقاؤها واستمرارها إلا إذا نجحت في تشويه المجتمع بالكامل وتدمير أي علاقة له بأصوله وأفكاره.
ولا يمكننا تصور أن تلك المؤسسات قادرة على الوصول بنا إلى ما وصل إليه المجتمع الغربي من تقدم؛ لأن تلك المؤسسات في الغرب هي نتيجة -كما ذكرسابقا- تفاعل وتكون مجموعة من الأفكار والمعايير التي استدعت إنشاء المؤسسات لتنفيذها وليس العكس كما هو الحال عندنا.
وبلا جدال؛ ساهمت حالة الجمود الفكري في فترات ما قبل انهيار المنظومة المجتمعية العربية والإسلامية في سهولة اختراق تلك المؤسسات لنا "التي هي وسيلة تطبيق الأفكار في صورة إجراءات" دون مقاومة كبيرة؛ وأزاحت بسهولة نسبية النظم المجتمعية التي قد أصابها الجمود.
ولعلنا نرى في مساحات واسعة من "مالكي" تلك المؤسسات والكثير من القطاعات الشعبية حالة تأليه كاملة للدولة ومؤسساتها وكأنها كتاب منزل ووحي لا يأتيه الباطل على الرغم من الفشل الكامل لكل منظومة "الدولة الحديثة" بمؤسساتها داخل المجتمعات العربية ولم تنتج إلا دمارا شاملا في كل جوانب حياتنا؛ و تتحمل النخب الحقيقية وزرا ثقيلا لأنهم لم يستطيعوا بناء نموذج فكري وإجرائي "ليس فكريا فقط" يمكنه الاستفادة من الإجراءات والمؤسسات الموجودة ولكن في سياقات مختلفة تنبع من داخل المجتمع.
ويرى البعض أن إنتاج تلك الأفكار والإجراءات لا يمكن إنتاجه داخل المكاتب وفي المحافل الفكرية إنما ينبغي إنتاجه من التفاعل المجتمعي القوي؛ إلا أن أي تفاعل مجتمعي غير مبني على مجموعة من الأفكار والقيم والرغبة الجامحة في التغيير يتحول إلى مجرد فورة قابلة للاحتواء؛ وتجارب المجتمعات العربية في مقدمات الثورات التي حدثت تؤكد ضرورة وجود أفكار وأطر قائدة ابتداءا وملامح مشروع فكري وإجرائي متماسك يمكن البناء عليه.
كما أخطأت النخب الحقيقية عندما حاصرت نفسها داخل النموذج الموجود مع إدراكها صعوبة تركيب الأفكار على بنية مؤسسية موجودة تتعارض مع أفكارها بل وتتصارع معها؛ لذا فشلت كل المحاولات التي حاولت محاصرة تلك المؤسسات داخل أفكار الثورة واستعادة الهوية.
إن الدولة ومؤسساتها هي وسائل إدارة السلطة؛ وهي أدوات إجرائية لابد أن تتكون بناء على مجموعة من الأفكار والقيم والمبادئ؛ وفي غيابها تتحول إلى أدوات للقمع وآليات أكثر لطفا للاحتلال؛ وهي ليست مقدسة وعلى الراغبين في استعادة أمجاد الماضي البعيد التحرر منها والتفكير خارجها ومحاولة استكمال بناء نماذج السلطة مستعينين بتراث الف عام أو يزيد، ثم استخدام أي وسائل وإجراءات يمكنها تحقيق الأهداف الكلية.
إن الدولة ومؤسساتها لا يمكن أن تعبر عن المجتمع إلا إذا بنيت من داخله على أسس تاريخية واجتماعية تنتمي للمجتمع؛ وأرى أن مائتي عام رقم كاف في هذا الكهف الذي سكنَّا فيه طويلا وعلينا الخروج منه مهما كانت التضحيات.