كتبت سمية الغنوشي مقالاً في "ذي هافينغتون بوست"، الجمعة 24 تشرين أول/ أوكتوبر ترجمه "عربي21":
كثيرون هم الذين تقاسموا غنائم سقوط
الربيع العربي. إذا كان أكثر المستفيدين وضوحاً هم الحرس القديم، أي المستبدون العرب وحلفاؤهم الأجانب، الذين تتساوى مصالحهم في إبقاء المنطقة تحت السيطرة، فإنهم ليسوا المستفيدين الوحيدين. بل كان نصيب القاعدة وداعش من الغنائم كبيراً جداً. في البداية لم تملك القاعدة سوى أن تراقب عاجزة عن بعد عامة العرب رجالاً ونساءً وهم يثورون لإسقاط المستبدين الفاسدين الذين قهروهم لعقود. فبينما تصدرت الحركات الاحتجاجية الشعبية لتحتل المشهد وتكتب التاريخ، بدا منهج القاعدة الاستعراضي العنيف والمدمر سخيفاً وعبثياً. وبات ادعاؤها باستحالة إحداث التغيير سوى عن طريق القنابل والرصاص وسفك الدماء فارغاً لا يعبأ له. لقد بدت القاعدة في أوج الربيع العربي معزولة وهامشية جداً.
فنظراً لأنها وليدة الأزمات والصراعات، ما كانت القاعدة لتزدهر إلا في أجواء من اليأس والإحباط. ولذلك، وما أن تحول الربيع العربي إلى شتاء قارس من الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية والصراعات الطائفية حتى تنفست القاعدة الصعداء، إذ سرعان ما استعادت صدقيتها وأثبتت صوابيتها، فعادت تخاطب الجماهير العربية قائلة: “ألم أقل لكم؟ الاحتجاجات السلمية وصناديق الاقتراع لم تصمم لكم. فلا فائدة ترجى منها. لا قبل لكم بمقارعة العنف إلا بعنف مثله. هذا هو السبيل الوحيد.”
لا يصدر التحدي الأقوى لهذا المنطق عن البنتاغون ولا عن الأساطيل الحربية، وإنما عن بلد صغير في أقصى غرب العالم العربي، عن
تونس الذي قاد العرب باتجاه التحرر من سجن الدكتاتورية عبر الاحتجاج السلمي، والذي يثبت اليوم أن بالإمكان بناء الديمقراطية على أنقاض النظام الاستبدادي البائد. بينما انزلقت باقي بلدان الربيع العربي نحو الحروب الأهلية والصراعات العرقية والطائفية، أو عادت لترتمي في أحضان الأنظمة العسكرية الانقلابية، يبدو أن تونس تمكنت من الصمود في وجه الرياح العاتية التي عصفت بالمكان من كل صوب. تستعد البلاد الآن لانتخاب برلمان جديد في السادس والعشرين من أكتوبر ولانتخاب رئيس جديد بعد ذلك بشهر.
لم يكن الطريق نحو هذه الانتخابات ميسراً، بل شهدت المسيرة محاولات إعاقة تمثلت بالعديد من الهجمات الإرهابية بهدف نشر الفوضى والقلاقل. إلا أنه بفضل المشاركة في السلطة والتنازل للآخر، أمكن الإبقاء على تجربة تونس الديمقراطية على السكة في الاتجاه الصحيح. فحينما فازت حركة النهضة التونسية في انتخابات أكتوبر لعام 2011 دعت إلى حكومة وحدة وطنية وتحركت مباشرة نحو الاشتراك في السلطة مع الأحزاب العلمانية المعتدلة ضمن ما أصبح معروفاً بالترويكا.
وعندما أغرقت البلاد في أزمة إثر اغتيال أحد رموز المعارضة، وتصادف ذلك مع الانقلاب العسكري في مصر، غلبت حركة النهضة أولوية حماية الانتقال الديمقراطي في البلاد على مصالحها الحزبية، وفي خطوة وصفت بأنها غاية في البراغماتية تنازلت الحركة عن السلطة لصالح حكومة انتقالية تدير البلاد في مرحلة الاستعداد للانتخابات القادمة، رغم ما لقيه هذا الإجراء من معارضة شديدة في صفوف منتسبيها.
مثل هذه الواقعية والإدراك التام بتعقيدات المراحل الانتقالية وبالمخاطر الناجمة عن سياق معاد يسود المنطقة بأسرها، هو الذي أنقذ البلاد من مزيد من سفك الدماء والفوضى وحافظ على استمرار عملية التحول الديمقراطي فيها.
يبدو أن حركة النهضة قد تعلمت الكثير من تجربة عقدين من الحكم القمعي في البلاد وكذلك من فشل تجربتي التحول الديمقراطي في كل من مصر والجزائر. كما أن السنوات التي قضاها زعماء الحركة في المنافي في العواصم الأوروبية ساعدتهم فيما يبدو على اكتشاف تعقيدات العمل السياسي بما يشتمل عليه من مفاوضات مضنية وتنازلات لا مفر منها وتبدلات تمليها الظروف فيما يبرم من ائتلافات وتحالفات. يبدو أنهم تعلموا فن التنازل والوفاق، والذي قد يكون السمة المميزة للنموذج السياسي التونسي.
لم تصل تونس بر الأمان بعد، وما تزال عمليتها الديمقراطية تتعرض لكم هائل من الضغوط. ليست الجغرافيا السياسية لصالحها: فليبيا المحاذية لحدودها الجنوبية في حالة من التقلب والغليان، بما يغشاها من فوضى وانتشار للسلاح وانهيار لمؤسسات الدولة، وإذا ما اتجهت جنوباً، فهناك مالي في ما دون الصحراء التي وقعت في قبضة الإرهاب، وأما المحيط العربي العام فهو مصاب بداء عضال من عدم الاستقرار. والأخطر من ذلك كله هو وجود كتلة خليجية عقدت العزم على تصفية ما تبقى من الربيع العربي من خلال افتعال الفوضى وانعدام الأمن واستخدام الدعاية الإعلامية المغرضة وممارسة السياسة القذرة بفضل ما أوتيت من ثروات نفطية. ورغم أن تونس محظوظة لأنها بعيدة نوعاً ما جغرافياً عن مركز التآمر المولد للثورات المضادة إلا أنها مع ذلك ليست محصنة تماماً ضد آثاره المدمرة.
إلى جانب التحدي الأمني، تواجه تونس اليوم تحد اقتصادي. ورغم أن التونسيين تمكنوا وبفضل الروح الوفاقية التي سرت بينهم من اتخاذ خطوات هامة لوضع الأسس الإدارية والقانونية لمنظومتهم الديمقراطية، إلا أن التقدم على الجبهة الاقتصادية تمت إعاقته بسبب المشاكل البنيوية المزمنة، وعدم الاستقرار السياسي، والاحتجاجات الاجتماعية المنتشرة. ولكن، وكما تمكنوا من ترجمة شعار الحرية، المطلب الأول لثورة الياسمين، إلى دستور ديمقراطي وانتخابات حرة ونزيهة، عليهم الآن أن يترجموا شعار الكرامة، المطلب الثاني للثورة، إلى التنمية، والمساواة في توزيع الثروة بين الأقاليم المختلفة وإلى توفير الرعاية الاجتماعية لكل المواطنين.
قد تكون الموجة الأولى من الثورات الديمقراطية في كثير من أرجاء العالم العربي قد آلت إلى الفشل، إلا أن العودة إلى الأساليب القديمة في التعامل مع العالم العربي غير واردة. لن تعود الساعة إلى الوراء ولم يعد من الممكن شراء الاستقرار على حساب الحرية. لا يمكن بناء أو شراء الاستقرار السياسي الحقيقي في المنطقة إلا على أساس صلب من الديمقراطية واحترام الإرادة الشعبية. ولن يكون البديل عن ذلك سوى الفوضى غير البناءة، ولن يكون أبداً الحرية ولا الاستقرار.
سوف تنهى انتخابات الأحد في تونس مرحلة الانتقال ما بعد الثورة، حيث تنتقل البلاد بها من المؤقت إلى الدائم. إذا ما جرت هذه الانتخابات بنجاح، وتبعها التوصل إلى التنازلات السياسية الضرورية، فستبرز تونس كأول ديمقراطية كاملة في العالم العربي.
لن يكون لذلك آثاره فقط على سكان البلاد الذين يبلغ تعدادهم 11 مليون نسمة، بل ستنتشر أصداؤه في كافة أرجاء المنطقة، حيث سيجدد ذلك الأمل في أجواء من دعوات اليأس والعدمية التي تتنافس على ولاء العرب، من الأنظمة الدكتاتورية العسكرية والأنظمة الثيوقراطية الفاسدة إلى المتطرفين الفوضويين. سوف تشق تونس تارة أخرى طريقاً ثالثاً يتجاوز الخضوع القدري للاستبداد ويتجاوز الجنون العنفي للتطرف.
رابط المقال الأصلي:
https://www.huffingtonpost.com/soumaya-ghannoushi/tunisia-democracy_b_6040014.html?utm_hp_ref=tw