لم يكن انتصار
غزة مجرد فيلم بطولي يدغدغ حاجتنا للنصر ويخدّر مكامن الألم فينا؛ لابد أن ينقلنا إلى رغبة جامحة وتحسس فطري يدفعنا للبحث عن ملامح وآفاق المرحلة القادمة، وواجباتنا نحوها كأبناء الضفة الغربية، لعّلنا نعيد صياغة النصر بنكهةٍ خاصة ترتب المشهد السياسي وَفق جهوزيتنا الفكرية.
وأولى الخطوات لذلك، الوعي بضرورة إجراء المراجعات الذاتية المضبوطة القائمة على الفهم الصحيح للواقع، والتي توصلنا إلى حقول رحبة من البصيرة والحكمة تكون قادرة على اضاءة الطريق للمقاومة؛ فمن أشكال هذه المراجعات القيام بعمليات نفض فكري لبعض الأفكار والرؤى والمسلمات التي يتداولها الشباب ابتداءً من الجامعات وصولاً لقطاعات المختلفة ؛ فلا يحق لشباب الحركة الإسلامية مثلاً لعب دور الإقصاء والتهميش للآخر، خاصة لمن يحملون رؤى وأيدلوجيات مختلفة، لا سيما في المرحلة التي تبحث فيها
المقاومة عن حاضنة شعبية حقيقية يكون لها دور طليعي متفرّد في الشارع
الفلسطيني بهباته السلمية والمسلحة، بعيداً عن فكرة التقوقع التنظيمي والعمل الفصائلي الحزبي، والتي يمكن طرحها كإحدى الحلول في ظل حظر السلطة الفلسطينية لنشاطات حركتي
حماس والجهاد الإسلامي منذ الانقسام الفلسطيني عام 2007 حتى اللحظة، وارتفاع موجة الاعتقالات السياسية في محاولة لإزاحة الأفراد عن الهدف الأكبر، لهذا كلما اتسعت الحاضنة الشعبية لفكرة المقاومة ولأصحابها كلّما نضجت الجهوزيّة واستقرّ العمل المقاوم على تخوم الضفة.
وكجزء من الحفاظ على بنى المقاومة، من الضروري وجود مراكز بحثية خاصة تقوم بدور الرصد والتتبع للمقاومة بأشكالها المسلحة والسلمية في الضفة الغربية، فتقوم بدور شبيه لما يسمى بـ"Think Tank" وهي بيوت الخبرة في الدول المتقدمة والتي يعتمد عليه الساسة والمفكرون في قراراتهم، فنجد مثلاً بيت خبرة في الزراعة وآخر في الصناعة وآخر في التربية والصحة، وإذا ما احتاجت الدولة أية معلومة تلجأ لهذه البيوت لأخذ التقديرات الاستراتيجية حتى قبل السماع من الوزير المختص ومستشاريه؛ لم لا يكون بيوت خبرة خاصة بـ"المقاومة" يمكن من خلالها تتبع سيرها، ومدراج الصعود والهبوط فيها، والوقوف على مكامن الضعف والقوة أينما وجدت، والدفع نحو تطويرها وتحسينها، من خلال دراسات منهجية تقوم على ارقام واحصائيات، تصلنا نتائج تساعد على نضوج فكرة العمل التراكمي المقاوم.
ومما تجدر الإشارة اليه ضرورة تفعيل المشاركة والمساندة الشعبية للقضايا الداخلية التي تواجه أبناء الحركة الإسلامية بوجه خاص لاسيما من السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، وسط استمرار الفصل الوظيفي والاعتقال على خلفية سياسية، والتضييق والملاحقة الأمنية لخنق أي محاولة تدفع نحو المقاومة ، وتعزيز الانكسار في نفوس ابنائها وبث الهزيمة والاستكانة من خلال سياسة تبعث برسالة مفادها" لايمكن للضفة نسخ تجربة غزة دفاعاً وانتصاراً " ، لهذا نقل قضايا التنكيل من الفضاء الخاص للعام هو ما نحتاج إليه، من خلال تظاهرات وحملات وفعاليات وإعلام يكشف عورات كل من له يد في إبادة المقاومة؛ إلى متى سيبقى مناصرو غزة والمقاومة يتكبدون المعاناة في الوقت الذي يسقط فيه بعض الفلسطينيون معركة الوجود من حساباتهم.
وآخر ما يدخل في موضوع المراجعة والنقد الذاتي ضرورة بذل
الإعلام الفلسطيني أقصى ما يملك من الصوت والصورة وغيرهما، لحمل الفلسطينيين على إنضاج ورعاية المقاومة " فكرا وسلوكا" بخطاب إعلامي يعيد ترميم الوعي وفتح الآفاق وشد الأذهان ولفت النفوس لطريق أيقظتنا غزة لها ، فلن نقبل إعلاماً منبطحاً يجرّنا ل48 ولمجازر الصهيونية بحقنا، فنظرة الفلسطيني لنفسه قد تغيرت، وهذا يلقي حملاً مضاعفاً على الإعلام لإعادة النظر في الخطاب ومضمونه بالشكل الذي لايغيّب فيه أية من المواضيع التي تشكل جزء من منظومة التحرر كالاعتقال السياسي والفصل الوظيفي وغيرها، فالازمات الداخلية هي عائق فعلي في طريق التخلص من الاحتلال والقضاء عليه.
ما عرضناه جزء من بعض المراجعات التي لا بد تناولها، وكما قال د. عبد الكريم بكار " النقد هو الرئة التى تتنفس بها الأمة، والمصباح الذي يضيء لها الطريق، وهو لا يؤذي إلا الحالات المريضة، ولا يتضايق منه إلا من لديهم نوع من الإعوجاج أو التفريط".