كتاب عربي 21

لماذا فعلا ينهار عراق ما بعد الغزو والاحتلال؟

1300x600
أفاق العراقيون والعالم صباح يوم العاشر من حزيران/يونيو على انهيار شبه شامل للجيش العراقي (الجديد) في المحافظات الشمالية. فرق عسكرية بأكملها فرت من معسكراتها ومواقعها، وتركت خلفها أسلحة ومعدات بكميات هائلة، في مشهد هزيمة أقرب لمشاهد الحرب العالمية الثانية منه إلى مواجهات مع قوى غير تقليدية.

كانت عواقب هذه الهزيمة على الدولة العراقية، دولة ما بعد الغزو والاحتلال، فادحة بكل المقاييس. سيطرت جماعات مسلحة من الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وجنود الطريقة النقشبندية، الموالون لنائب الرئيس العراقي الأسبق، عزة الدوري، وثوار عشائريون سنة، وضباط من الجيش العراقي السابق، وعناصر ممن تبقى من تنظيمات المقاومة العراقية ضد الاحتلال، على مدينة الموصل.

 وفي الأيام القليلة التالية، بسط الثوار العراقيون سيطرتهم على مدينة تكريت، وبلدات أخرى في محافظتي صلاح الدين والتأميم (كركوك)، وبدأت محاولة السيطرة على القطاع الشمالي من محافظة ديالى والمدخل الشمالي للعاصمة بغداد. في الوقت نفسه، أدى الانسحاب الملموس للقوات الحكومية من محافظة الأنبار إلى اتساع سيطرة الثوار العراقيين من أبناء المحافظة على المزيد من البلدات والمواقع. وقد أدى الفراغ العسكري والأمني إلى انتشار متزايد لقوات البشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان، سواء في مدينة كركوك المتنازع عليها، أو في مناطق واسعة من محافظتي نينوى وديالى.

التوقعات المبكرة لاقتحام الثوار المسلحين مدينة بغداد لم تكن في محلها؛ تماماً مثل التقديرات التي قالت بأن هؤلاء الثوار المسلحين ينتمون جميعاً لداعش. سقوط بغداد ليس شأناً سهلاً، ليس فقط لحجم القوات التي يفترض أن تتدافع عنها، ولكن أيضاً لعمق الانقسام الطائفي في العراق، والأرجح أنها في طريقها للتحول إلى ساحة حرب أهلية متفاقمة. وبالرغم من أن داعش تمثل المجموعة الأكثر تنظيماً وتماسكاً أيديولوجياً، فما شهده العراق في هذه الأيام الحاسمة من حزيران/يونيو لابد أن يرى في سياق الانتفاضة العربية السنية ضد حكم طائفي، المستمرة منذ أكثر من 18 شهراً.

 مهما كان الأمر، فلابد أن عراق ما بعد الغزو والاحتلال، الذي يقوده المالكي منذ أكثر من ثماني سنوات، يواجه أكبر تحد لنظامه السياسي، وربما لوجوده كما عرفناه. عندما تنهار قطاعات من الجيش بهذا الحجم، أي جيش، فلابد أن تثار أسئلة حول بقاء الدولة نفسها.

ثمة عدد من التفسيرات التي طرحت لهذا الانهيار، يعكس أغلبها الموقف السياسي أو الخلفية الدينية – الطائفية والأيديولوجية لأصحابها، ووظفت بالتالي للترويج لمواقف أصحابها السياسية.

القول، مثلاً، بأن عشرات الآلاف من القوات الحكومية، جنوداً وضباطاً، التي فرت من ساحة المواجهة في المحافظات الشمالية والغربية كانت من السنة، وأن انتماءها الطائفي منعها من مواجهة الثوار السنة، هو بالتأكيد نوع من الوهم. الحقيقة، أن ليس هناك وحدات عسكرية عراقية شيعية أو سنية خالصة، اللهم إلا قوات البيشمركة التي لا تخضع لحكومة بغداد. أغلب الجيش العراقي من الشيعة، وأغلب ضباطه من الشيعة، ولا يوجد قائد فرقة واحد من السنة العرب. كما أن الأغلبية العظمى لقوات الشرطة الاتحادية، التي فرت هي الأخرى من الموصل، هي من الشيعة؛ بل وعرفت بممارساتها الطائفية في المدينة. أما القول بأن سيطرة الثوار المسلحين تمت بتواطؤ من حكومة إقليم كردستان، فلا يقل وهماً. ينظر الأكراد إلى داعش، التي تمثل عماد القوة التي سيطرت على الموصل، نظرة عداء وتوجس لا تقل عن نظرة بغداد لها؛ ولكن ذلك لا يمنع انتهاز حكومة إقليم كردستان الفراغ الأمني والعسكري لتعزيز نفوذها في نينوى وكركوك وديالى. 

أظهرت قوات المالكي في الأنبار، حيث تدور معركة متواصلة منذ أكثر من خمسة شهور، فشلاً ذريعاً في مواجهتها لثوار العشائر وعناصر داعش. في الأسابيع والأيام الأولى من المواجهة، كان فرار الجنود والضباط من ساحة المعركة أمراً معتاداً ومتكرراً، تماماً كما حدث في الموصل وتكريت. وحده قرب الأنبار النسبي من بغداد، ما سمح بإرسال تعزيزات مستمرة، ومنع الانهيار الكامل للجبهة الحكومية. ولكن حتى هنا، ما كان للقوات الحكومية أن تحافظ على مواقعها بدون مساندة مجموعات الصحوات العشائرية الموالية للمالكي، سيما في الرمادي. على مستوى الكفاءة والانضباط، ليس ثمة ما يدعو للاستغراب والدهشة في سلوك جيش الحكومة العراقية، بالرغم من حجم المعدات العسكرية التي يمتلكها. بعد حل الجيش العراقي الوطني في بداية الاحتلال، أسس الجيش الجديد من عاطلين عن العمل وعناصر ميليشيا شيعية سابقة. وباعتباره مهنة من لا مهنة له، لم تنجح الحكومات العراقية المتعاقبة في تسليح هذا الجيش بعقيدة وطنية صلبة. إن نجحت هذه الحكومات في شيء فكان في تعزيز السمة الطائفية للجيش. أسس الأميركيون بلا شك دولة جديدة في العراق، ولكن العلاقة بين هذه الدولة والدولة الوطنية الحديثة هي علاقة واهية.

باعتبارها دولة سيطرة طائفية، لم ينظر العراقيون مطلقاً، ولا حتى أبناء الطائفة الشيعية، لهذه الدولة بأي قدر من الاحترام والولاء. ولأن نظام الحكم الذي يقود هذه الدولة ارتبط منذ البداية بقرار خارجي، أكثر من ارتباطه بالإرادة الوطنية، أحاط الشك والريبة بمصداقية هذه الدولة. وليس ثمة دولة فاشلة يمكنها تأسيس جيش ناجح. بكلمة أخرى، لم يختلف سلوك هذا الجيش في كل مرة وجد نفسه في ساحة قتال. 

لمعالجة انهيار الدولة وجيشها في ثاني أكبر مدنها، وعبر أربع محافظات رئيسية، تشكل أكثر من نصف مساحة البلاد، عادت حكومة المالكي إلى سلوكها المعتاد طوال السنوات منذ توليه الحكم. كان بإمكان رئيس الحكومة العراقية الاعتراف بالفشل وتحمل المسؤولية، مثل أي رجل دولة محترم. ولكنه لم يفعل. وكان بإمكانه الإعلان عن حل حكومته والدعوة إلى تشكيل حكومة توافق ووحدة وطنية، تعيد للعراقيين الثقة بحكومتهم ودولتهم، وتعمل على مواجهة الأزمة، معززة بدعم شعبي وتفويض وطني. ولكنه لم يفعل هذه أيضاً. ما قام به المالكي كان طلب المساعدة الأميركية، من جهة، والاستنجاد بالخبرة الإيرانية في مكافحة الشعوب الثائرة، من جهة أخرى. الأخطر، تمثل في تصعيد الخطاب الطائفي الشيعي، وتصوير الانهيار في الموصل وتكريت وكأنه حرباً على التشيع والمراقد الشيعية. وفي مناخ غير مسبوق من تأجيج المشاعر والعصبيات البدائية، سارعت مراجع دينية إلى إصدار الفتاوى والدعوات للحشد الطائفي والدفاع عن حكومة، أقل ما يقال إن العراقيين منقسمون حولها. وفي مشاهد مثيرة للضحك والخوف في الوقت نفسه، ظهرت قيادات سياسية ودينية وهي ترتدي الملابس العسكرية النظيفة وتحمل البنادق الرشاشة. والمشكلة، أن أياً من هؤلاء لم يحرك إصبعاً للدفاع عن البلاد من الغزو الخارجي.

مستقبل العراق الآن مفتوح على الاحتمالات، تماماً كما هو مستقبله منذ أكثر من عشر سنوات، وكما هو مستقبل سورية، ولبنان، والأردن، والمشرق بأكمله. جادلت في هذا الموقع من قبل بأن حركة الثورة العربية لم تكن حول الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية، وحسب؛ وأن جذور هذه الحركة تعود إلى بداية العقد الأول من هذا القرن، وليس اندلاع الثورة التونسية في كانون أول/ديسمبر 2010. كان فوز العدالة والتنمية في الانتخابات التركية نهاية 2002، وانهيار الدولة العراقية أمام الغزو الأجنبي، وحركة الاحتجاج المصرية في 2005، والانتفاضات العربية القصيرة في مواجهة الحروب الإسرائيلية على لبنان وقطاع غزة، التي لم تخل من توجهات سياسية واجتماعية داخلية كذلك، كلها مؤشرات على أن نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى قد وصل إلى نهاية الطريق. سواء للضغوط الخارجية، أو لفشل النخب المدنية والعسكرية الحاكمة، عجزت دول ما بعد الرابطة العثمانية عن الاستجابة لآمال الشعوب والقيام بواجباتها التي يفترض بنظام الدولة الحديثة القيام بها. وليس ثمة دليل على انهيار نظام المئة سنة الإقليمي من اختفاء خط الحدود الفاصل بين سورية والعراق والتوسع المطرد لإقليم الحكم الذاتي الكردي. ما يقلق، أن هذا الانهيار لن يكون سهلاً ولا منظماً، وأن تكاليفه ستكون باهظة؛ وأن ليس لأي من أطرافه تصور واضح لما يمكن أن يكونه النظام الجديد. ولكن أحداً، مهما بلغ من حسن النية، لن يمكنه إيقاف هذا الانهيار، على أية حال.