خلال شهور قليلة، عصف وباء كورونا 19 بالعالم، شرقه وغربه، شماله وجنوبه. وقد كشف الوباء، في واحدة من أبرز عواقبه غير المنصوص عليها علمياً، عن طبيعة العلاقة بين الدولة وشعبها، بعد مرور ما يقارب القرون الأربعة على ولادة مؤسسة الدولة الحديثة.
لأغلب هؤلاء الذين فاجأهم الوباء وهم في زيارة لدولة أخرى، لم يعد بالإمكان العودة للأوطان بدون تدخل رسمي بين سلطات الدولتين، الدولة الأم وتلك المضيفة. لا تتعلق مشكلة هؤلاء العالقين بين حدود الدول ومجال سيادتها بارتكاب مخالفة للقوانين، أو فقدان الأوراق الرسمية، بل لأن معظم دول العالم قررت إيقاف حركة المواصلات، البرية أو البحرية أو الجوية، وباتت عودتهم إلى أوطانهم مسألة قرار رسمي سيادي، لا بد من اتخاذه على مستوى وزيري خارجية دولتين على الأقل.
وما إن تبدأ حالات الإصابة بالفيروس في الظهور في بلد ما، حتى يوجه الجميع، أغنياء وفقراء، نخبة وعامة، أنظارهم إلى مؤسسة الدولة والحكم انتظاراً لتوجيهاتها. ينتظر من الدولة أن تقرر كيفية مواجهة الأبعاد الصحية والطبية، والاقتصادية والاجتماعية للوباء.
الدولة وحدها من يقرر ما تعنيه أعراض الإصابة بالفيروس، ما يقوم به المصاب وما يقوم به من صادفوه أو يعيشون معه، من إجراءات. والدولة وحدها من يقرر ما إن كان على المصاب أن يعزل نفسه في منزله أو يذهب إلى أقرب مشفى، وما إن كان المصاب سيفحص للتأكد من وجود العدوى، ومن ثم يضاف إلى إحصائيات الوباء المتزايدة، أو لم تكن ثمة ضرورة لفحصه. في النهاية، المنظومة الصحية – الطبية الواقعة تحت سيطرة الدولة هي وحدها من يملك أجهزة الفحص وسلطة الإحصاء.
ينتظر من الدولة، والدولة وحدها، أن تقرر مستوى الخدمة الصحية – الطبية لمواجهة الوباء، عدد الأسرة، عدد غرف العناية الفائقة، عدد أجهزة التنفس الإضافي ولمن توفر، وعدد الأطباء والممرضات المكرسين للتعامل مع مرضى الوباء. والدولة وحدها من يملك قرار تكريس ميزانية إضافية لرفع مستوى هذه الخدمات، أو استدعاء مزيد من العاملين عليها، بما في ذلك المتقاعدين.
في أغلب دول الحزب الواحد، تهيمن الدولة بصورة كاملة على مراكز الأبحاث وشركات الأدوية والمؤسسات المتخصصة في مكافحة الأمراض الجرثومية. ولكن، حتى في الدول الليبرالية، لا يمكن لهذه المراكز والشركات والمؤسسات تحمل أعباء البحث عن اللقاح الناجع، أو التوصية بدواء ما للتعامل مع فيروس كورونا 19 بدون قرار من مؤسسة الدولة. بالحصول على الدعم المالي من الدولة، يمكن بدء البحث المضني عن اللقاح، ومن ثم تجربته، وصولاً إلى الموافقة على استخدامه؛ وبقرار من الدولة فقط، يمكن المغامرة بتجربة دواء ما، يؤمل أن يساعد على تخفيف وقع المرض ومحاصرة أعراض الإصابة بالعدوى.
تقرر الدولة، سيما في البلدان التي ذهبت للإغلاق الكلي أو شبه الكلي، ما إن كان للابن زيارة والديه، وما إن كان لمن خططوا الزواج في أشهر ربيع هذا العام أن يتزوجوا، بل ولمن اتفقوا مسبقاً على الطلاق أن يعلنوا طلاقهم. لم يعد ممكناً لصديقين اللقاء بدون قرار من الدولة؛ ولا الذهاب للتنزه في أقرب حديقة عامة بدون سماح من أجهزة الدولة المحلية؛ وعلى طلاب الجامعات وتلاميذ المدارس، وأساتذتهم ومدرسيهم، انتظار الإعلان الرسمي حول ما إن كانوا سيستمرون في دراستهم أو الذهاب لمنازلهم في عطلة طويلة أو قصيرة.
والدولة وحدها من يستطيع اتخاذ قرار إغلاق دور العبادة، أو أي من مراكز الاجتماع الأخرى.
ولأن آثار هذا الوباء الاقتصادية ستكون هائلة، ينتظر الجميع من الدولة، والدولة فقط، قرار التمييز بين مراكز التسوق التي يسمح لها بالعمل وتلك التي يجب أن تغلق أبوابها؛ وقرار الإعلان عن فترة سماح ضريبي، ومستوى الضريبة التي يفترض دفعها خلال أشهر الوباء. الدولة وحدها، التي تسيطر على سلطة النقد وشرعية قرار السياسة المالية، يمكنها أن توفر دعماً مالياً لهذه الفئة أو تلك، وهذه الشركة أو تلك، وهذا القطاع الإنتاجي أو ذاك.
للمؤمنين بإله خالق، مهيمن، متعال، ولغير المؤمنين بالإله، باتت الدولة الأمل الوحيد في مواجهة الوباء وعواقبه.
تاريخ الدولة الحديثة هو في جوهره تاريخ الصراع المستمر مع المجتمع من أجل تعزيز وسائل السلطة والتحكم. وليس مثل فترات الأزمات الكبرى: الحروب والأوبئة والتعرض لمخاطر داهمة، طبيعية أو سياسية، فرصة لإعادة توليد قوة الدولة وسيطرتها. يتحقق هذا الهدف، في دول الحزب الواحد والأنظمة الديكتاتورية، باللجوء إلى القرارات التنفيذية المباشرة؛ وفي الدول الليبرالية والديمقراطية، يتحقق الهدف ذاته بتشريعات برلمانية عاجلة. هذا ما شهده العالم في سنوات الحرب العالمية الأولى، في الحرب الثانية، خلال ذروة الحرب الباردة، الحرب على الإرهاب، وما يشهده اليوم في مواجهة الوباء.
بعض السلطات التي تمنحها الدولة لذاتها في فترات الأزمات الكبرى مؤقت، يتم التخلي عنه بمجرد انقشاع غبار الأزمة، وبعضها الآخر يصبح جزءاً من العادي الجديد في طبيعة علاقة الدولة بشعبها.
ولدت الدولة الحديثة، دولة السيطرة المركزية، السيادة والحدود، دولة الأمة والولاء والطاعة، منذ منتصف القرن السابع عشر، في أعقاب حرب الثلاثين عاماً. خلال القرنين التاليين، تحولت مؤسسة الدولة الحديثة من ضرورة لتأسيس الشرعية السياسية وتعظيم القوة إلى هدف بحد ذاته. خلال القرن العشرين، أصبحت الدولة إلهاً مستقلاً بذاته.
الدولة الحديثة هي المؤسسة الاجتماعية الأكثر تجريداً على الإطلاق في كل التاريخ الإنساني. ليس للدولة لون أو رائحة أو حيز زماني محدد. في بعض الأحيان، يمكن أن يلمس الإنسان مؤسسة الدولة، ويتحسس قوتها الباطشة أو يدها الرحيمة. في أغلب الأحيان، تتغلغل الدولة الزمان والمكان بدون أن نراها أو نشعر بوجودها، أو حتى يمكن الحديث إليها. وليس مثل فترات الأزمات الكبرى أن يعاد التوكيد على هذه الهيمنة وهذا الانتشار التجريدي غير المحدود.
يمكن للمجتمع، في الأزمنة العادية النسبية، أن ينظم قواه لمواجهة سعي الدولة المستمر لتعزيز وسائل القوة والسيطرة والتحكم، سواء بتشكيل جماعات الضغظ، أو الرقابة، أو المعارضة. في فترات الأزمات الكبرى، يسيطر الخوف من المجهول الداهم، تخفت معظم هذه الأصوات وتنزوي جماعاتها، ولا يبقى هناك سوى مؤسسة الدولة، معلنة انتصارها التاريخي على صانعها الأول وضامن وجودها.