كتاب عربي 21

عقلانية حجة الإسلام

1300x600
عندما يقال: "حجة الإسلام"، ينصرف الذهن إلى أبي حامد الغزالي (450 – 505 هـ ، 1508 – 1111م) الذي مثل "ظاهرة فكرية" تألقت في تراثنا الحضاري، منذ عصره وحتى هذه اللحظات - وإلى أن يشاء الله - ظاهرة فكرية في الفقه والأصول والمنطق والفلسفة وعلم الكلام وأيضا التصوف - علم القلوب وتزكية النفوس وفقه السلوك - ولقد كان التصوف - عند الغزالي - كما هو في الحقيقة، تجربة روحية ورياضة عقلية ومكابدة وجهادا في عوالم الفكر وميادين العلوم، ولقد قادته هذه المعاناة الفكرية إلى مقامات الصوفية وأحوالهم، فتحدث - ضمن ما تحدث - عن مقام العقل - الذي خصص له كتابا في موسوعته الكبرى (إحياء علوم الدين) - الذي يحسبه الجهلة كتاب دروشة لا علاقة له بالعقلانية-! 

تحدث حجة الإسلام الغزالي - في هذا الكتاب - عن مقام العقل، فقال: "إن برهان من العقل هو الذي عرف به صدق الرسول - صلي الله عليه وسلم - فيما أخبر.. وإنه لابد من تآلف الشرع والعقل، لأن مثال العقل كالبصر السليم عند الآفات، ومثال القرآن: كالشمس المنتشرة الضياء - فالمعرض عن العقل، مكتفيا بنور القرآن، كالمعترض لنور الشمس مغمضا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان! فالعقل مع الشرع نور على نور.

إن العقل نور، بل هو أولى باسم النور من النور المعروف المحسوس، وعند إشراق نور الحكمة يصير الإنسان مبصرا بالفعل بعد أن كان مبصرا بالقوة.

ثم إن وراء العقل طورا آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل، كما أن العقل يمثل طورا وراء التمييز والإحساس، ينكشف فيه غرائب وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز، ولقد ورد الشرع بأمور لا يعلم حقائقها - (أي كنهها) - إلا الله تعالى والأنبياء الذين هم وسائط بين الله تعالى وعباده.

فنور النبوة قوة وراء قوة العقل، يدرك بها من  أمر الغيب أمور لا تعرف بالأسباب العقلية، والوحي الإلهي والشرع الحق لا يرد بهما ما ينبو عنه العقل، وإن في قلب الإنسان عينا هي صفة كمالها، هي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنسانية.

والعقل أولى بأن يسمي نورا من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص، ولقد كان العقل من أعظم ما شرف الله به الإنسان وكرمه ("ولقد كرمنا بني آدم" الإسراء – 70) فبه تنبه على البهيمة، وألحق بسببه بعالم الملائكة، حتى تأهل به لمعرفة باريه ومبدعه بالنظر في مخلوقاته، والاستدلال به على صفاته بما أودعه في نفسه من الحكمة.

والأصول الأربعة هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل، والعقل نور يقذف في القلب، به يستعد لإدراك الأشياء، وهو غريزة يتهيأ بها لإدراك العلوم النظرية، وهو منبع العلم وأساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة، والنور من الشمس، والرؤية من العين، وشرف العقل مدرك بالضرورة، وكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة؟".

ولقد تعرض حجة الإسلام الغزالي لموقف بعض الصوفية الذين يذمون العقل، ويدعون أن الشرع يدرك بعين اليقين ونور الإيمان - لا بالعقل - فقال "إن السبب في هذا الخطأ هو أن الناس نقلوا اسم العقل والمعقول إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والإلزامات، أما نور البصيرة الباطنة، التي بها يعرف الله تعالى ويعرف صدق رسله، فكيف يتصور ذمه، وقد أثنى الله عليه؟! وإن ذُم فما الذي بعده يحمد؟! فإن كان المحمود هو الشرع فبما علم صحة الشرع؟ لقد عُلم بالعقل، ولا يلتفت إلى من يقول: إن الشرع يدرك بعين اليقين ونور الإيمان، لا بالعقل، فإنما نريد بالعقل ما يريده هؤلاء بعين اليقين ونور الإيمان، وهي الصفة الباطنة التي يتميز بها الآدمي عن البهائم حتى أدرك بها حقائق الأمور.

وأكثر هذه التخبطات إنا ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ، فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ".

هكذا تحدث فيلسوف التصوف، وقطب الصوفية حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، فهلا قرأ هذه الحكم وهذه الدرر أدعياء التصوف الذين يفتعلون خصومة بين التصوف وبين العقل والعقلانية، وتناقضا بين العقل والقلب، وفصما ما بين نور العقل ونور الإيمان؟.

وهلا قرأ هذه النصوص الفلسفية النفسية أولئك المتغربون الذين زعموا أن الغزالي قد مثل جناية على العقلانية والفلسفة في تراث الإسلام؟!

إننا بحاجة إلى وعي جديد بنفائس هذا التراث العظيم، لنؤسس عليه فلسفتنا الإسلامية المعاصرة.