كتب بشير نافع: في 17 من هذا الشهر، آذار/مارس، اليوم التالي على
الاستفتاء في شبه جزيرة
القرم حول الانضمام لروسيا، صوت البرلمان الروسي، بعد كلمة تفصيلية للرئيس بوتين، بالموافقة على التحاق شبه الجزيرة بالاتحاد الروسي. يوم الجمعة، 21، اكتملت الإجراءات الروسية القانونية والدستورية لما يصفه الروس بعودة شبه الجزيرة للوطن الأم.
في المقابل، أعلنت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عن حزمتين من العقوبات ضد مؤسسات مالية وشركات وشخصيات، عرفت في مجملها بقربها من الرئيس الروسي أو لعب دور ما في خطوة اقتطاع القرم من الجمهورية الأوكرانية، التي تعتبرها حكومة كييف والكتلة
الغربية غير شرعية ولا يمكن الاعتراف بها. هذه بالطبع خطوة كبيرة في مسلسل الأزمة الأوكرانية، التي اندلعت في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي على خلفية من تراجع الرئيس الأوكراني السابق، بضغط ووعود مساعدة مالية كبيرة من
روسيا، عن التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وكان طبيعياً بالتالي أن تثير جدلاً واسعاً في الأوساط الغربية، وأن ينعكس هذا الجدل على الساحة السياسية العربية، كما في تركيا، الدولة المجاورة لمحيط الأزمة وذات العلاقة التاريخية الخاصة بشيه جزيرة القرم.
تراوحت التقديرات التي أطلقت على قرار روسيا بضم القرم باعتباره قراراً غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبين القول بأنه يمثل نهاية لنظام وستفاليا (المعاهدة التي وضعت نهاية لحرب الثلاثين عاماً في 1648، وأسست لفكرة الحدود وسيادة الدول الأوروبية على أرضها وشعبها). وتوقع عدد من المعلقين بأن أوروبا، والعالم ككل، بصدد حرب باردة جديدة، بدأت ملامحها في البروز من خلال العقوبات الغربية على روسيا، بينما أشار آخرون إلى أن الأزمة تعكس التراجع الملموس في القوة الأمريكية، وتظهر واشنطن بمظهر العاجز عن التعامل مع واحدة من أكبر الأزمات التي تواجه أوروبا منذ نهاية
الحرب الباردة. هذه ملاحظات سريعة حول مجمل أصداء الأزمة الأوكرانية، وأثرها على رؤية العرب للعالم من حولهم.
ليس ثمة شك أن اقتطاع القرم وضمها إلى روسيا كان قراراً جريئاً؛ ولكن الواضح أنه كان القرار الوحيد المتاح أمام موسكو للرد على الكارثة الهائلة التي مثلها سقوط يانكوفيتش في كييف وذهاب أوكرانيا غرباً. المفارقة، أنه في الوقت الذي كان بوتين يوقع أوراق انضمام القرم للاتحاد الروسي، الجمعة 21 آذار/ مارس ، كان رئيس الوزراء الأوكراني الجديد يوقع في بروكسل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، واضعاً بلاده على بداية طريق، لم يعد من الخيال تصور أن ينتهي بأوكرانيا إلى عضوية حلف الناتو خلال عدد قليل من السنوات. إن وصلت أوكرانيا يوماً إلى هذه المحطة، فستصبح حدود حلف الناتو على بعد عدة 300 ميلاً عن موسكو، بعد أن أصبحت سان بيتسبرغ في مرمى قوات الناتو في جمهوريات البلطيق. مثل هذا الوضع لم يكن قابلاً للتصور قبل نهاية الحرب الباردة، عندما كانت أقرب دول الناتو بعيدة أكثر من ألف ميل عن الحدود الروسية. أما في البحر الأسود، منفذ روسيا الوحيد إلى المياه الدافئة والبحر المتوسط، وحتى بعد ضم القرم، فقد أصبحت الدول الأخرى المطلة على البحر، أما أعضاء في حلف الناتو (تركيا ورومانيا وبلغاريا)، أو صديقة للغرب (جورجيا وأوكرانيا)، ولم يعد من المستبعد أن تلتحق بالحلف.
الحقيقة، أن وضع روسيا في البحر الأسود اليوم أسوأ بكثير مما كان عليه أثناء حرب القرم في منتصف القرن التاسع عشر، عندما كانت أوكرانيا وجورجيا جزءاً من الإمبراطورية الروسية، ورومانيا وبلغاريا، بالرغم من كونها إمارات شبه مستقلة آنذاك، تخضع رسمياً للسيطرة العثمانية، تعتبر نفسها حليفة لروسيا. بسيطرته على شبه جزيرة القرم، أنقذ بوتين ماء وجه روسيا بالفعل، ولكن القرم لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تعوض الخسارة الجيوسياسية، الثقافية، والتاريخية، لأوكرانيا، الخسارة التي تعتبر حلقة جديدة في سلسلة تراجعات روسية باهظة منذ انهيار الكتلة الشرقية والاتحاد السوفييتي.
بيد أن اللعبة لم تنته تماماً. استدعاء وستفاليا لوصف ضم القرم ليس أكثر من مبالغة، بالطبع. تاريخ أوروبا، منذ منتصف القرن السابع عشر، هو تاريخ اختراق وستفاليا وتجاهله، بعد أن توالى اختفاء الإمارات أو توحيدها، وتوسع الإمبراطوريات والدول، أو انهيارها. بل حتى نظام ما بعد الحرب الثانية لم ينظر إليه، بالرغم من السلم الطويل الذي حققه للقارة ذات القبائل والشعوب المتصارعة عبر التاريخ، باعتباره مقدساً وقطعياً. وما إن اتيحت الفرصة في نهاية الحرب الباردة، حتى إطيح بحدود الحرب الثانية بصور مختلفة، من انهيار الاتحاد السوفييتي، توحيد المانيا، إلى تشظي يوغسلافيا وانقسام تشيكوسلوفاكيا. الواقع، أن الغرب لا يبدو قلقاً أو منزعجاً بصورة كبيرة لفقدان القرم، ولابد أن القيادات الغربية تدرك الروابط الثقافية والدينية التاريخية بين القرم وروسيا، وحاجة روسيا الملحة لإنقاذ ماء الوجه، بعد خسارة أوكرانيا الباهظة. ولكن الغرب سيبقي سيف عدم الشرعية، والعقوبات المالية والاقتصادية، التي وإن تركت أثراً على روسيا، فلن تشكل عبئاً كبيراً، ليس لاستعادة القرم، بل لتحذير روسيا من التدخل العسكري في شرق أوكرانيا، من جهة، وإرسال رسائل للداخل الروسي، من جهة أخرى.
بوتين، في الحقيقة، وبالرغم من الأساطير التي تروج حول شخصيته، ليس زعيماً مغامراً، ولابد أن خطوته في القرم لم ترتكز إلى موقع القرم في الوعي القومي الروسي، وفي الحسابات الاستراتيجية لروسيا في البحر الأسود، وحسب، بل ولمخاوفه من أن تكون روسيا نفسها هدف الغرب التالي لأوكرانيا. بهذه الحسابات المعقدة للطرفين، يمكن القول أن روسيا تعرضت لخسارة كبرى، لم تستطع سوى تعويضها بصورة جزئية. الخطر ليس في ضم القرم، بل في احتمالات تقدم القوات الروسية إلى شرق أوكرانيا. مثل هكذا خطوة، تعني أن بوتين تخلى عن حساباته الدقيقة، وبات على الغرب أن يدفع بقوات إلى أوكرانيا، أو أن يتعرض لسخرية كبيرة، داخل أوكرانيا وخارجها.
مهما كان الأمر، فإن التوقعات باندلاع حرب باردة جديدة، تبدو متسرعة إلى حد كبير. اعتبرت الولايات المتحدة قوة عالمية متفردة خلال عقد التسعينات؛ ولكن التسعينات وحسب. منذ بداية العقد الأول للقرن الحادي والعشرين، تعرض التفرد والغرور الأمريكي للخدش أكثر من مرة: خاضت الولايات المتحدة حروباً باهظة التكاليف وخاسرة في أفغانستان والعراق، واجهت أزمة مالية اقتصادية طاحنة في 2008، تسببت في تراجع الناتج القومي بنسبة خمسة بالمائة، التراجع الأكبر في أي أزمة سابقة منذ ثلاثينات القرن العشرين، وشهدت صعوداً حثيثاً لعملاق اقتصادي مثل الصين، وإعادة تماسك روسي، وحيوية كبيرة في اقتصادات من الوزن الثاني مثل البرازيل والهند وتركيا. خلال العشر سنوات الماضية، أصبح على الولايات المتحدة أن تكون أكثر عقلانية وتواضعاً في رؤيتها للعالم وتعاملها مع قضاياه، أن تعيد النظر في أولوياتها الاستراتيجية، وأن تعترف بأن الكتلة الأطلسية لم تعد وعاء فائض الثروة الوحيد في العالم. ولكن الولايات المتحدة لم تزل القوة الأولى في عالم اليوم، بتقدم كبير على أية قوة منافسة محتملة أخرى.
يقدر نصيب الولايات المتحدة من الناتج العالمي في حدود 24 بالمائة، بالقيمة الأسمية، و20 بالمائة، بالقيمة الشرائية؛ في تراجع ضئيل عما كان عليه نصيبها في الستينات من القرن الماضي. تتفوق الولايات المتحدة تفوقاً هائلاً في مجالات التعليم، والبحث العلمي، والتقنية، وتعتبر الدولة صاحبة النفوذ الثقافي والفني والعلمي الأكبر في العالم، مسلحة بالموقع الفريد الذي حققته اللغة الإنكليزية طوال القرنين الماضيين. ومهما بلغ حجم الجيش الصيني، أو مخزون روسيا من السلاح النووي، فالولايات المتحدة هي الدولة الأولى في التاريخ البشري القادرة على نشر القوة على صعيد عالمي، ليس فقط لاحتفاظها باكثر من 100 قاعدة ومركز تسهيلات عسكري في أنحاء المعمورة، ولكن أيضاً لتفوقها البحري والجوي، الذي تصعب منافسته أو اللحاق به في المدى المنظور. بالمقارنة، من العبث وضع روسيا اليوم في ذات الإطار الذي رسم في الماضي للاتحاد السوفياتي. روسيا دولة نووية كبرى بالفعل، تحتل مساحة جغرافية هائلة، وتتمتع بفائض مالي ملموس، وفره لها الارتفاع الكبير في أسعار مصادر الطاقة في السنوات العشر أو الخمس عشرة الماضية. ولكن كل مقدرات روسيا الأخرى، الصناعية التقنية، التعليمية، والثقافية، هي مقدرات دولة من الدرجة الثانية، تعاني من تناقص ملموس في السكان، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسوق العالمية، التي تهيمن عليها القوى الغربية.
روسيا، باختصار، لا تستطيع احتمال أعباء حرب باردة جديدة، بأي صورة من الصور. الطريق الوحيد لتحدي الكتلة الأطلسية، بقيادة الولايات المتحدة، هي نشوء تحالف وثيق بين روسيا والصين، يجذب عدداً من دول الاقتصادات الناشئة، والدول ذات الموقع الاستراتيجي الهام. ولكن مثل هذا التطور لا يبدو محتمل الوقوع في السنوات القليلة المقبلة. لا سيكولوجياً ولا استراتيجياً، تبدو روسيا على استعداد للقبول بالموقع الثاني في تحالف مع الصين، بينما هي تستشعر خطر الاكتساح الصيني البشري للشرق الروسي، والتقدم الصيني الحثيث في وسط أسيا. كما إن الصين، في هذه المرحلة بالغة الحساسية من نموها الاقتصادي، ليست في وارد مغامرة الذهاب إلى مواجهة استراتيجية مع الغرب.
كل مؤرخ جاد يدرك أن الموقع المسيطر الذي يتمتع به الغرب الأطلسي في موازين العالم، على نحو أو آخر، منذ نهاية القرن الثامن عشر، لن يستمر إلى الأبد، وربما لن يستمر طويلاً. ولكن لحظة التغيير الجوهري في خارطة القوة العالمية لا تبدو ماثلة للعيان بعد. تدافع الكبار أفضل بكثير لمن هم أصغر من توافقهم. ولكن فقط إن أدرك من هم أصغر حقائق القوة في العالم، حافظوا على أكبر عدد من الخيارات، ودافعوا عن استقلالهم ومصالحهم الحيوية، وتعاملوا بعقلانية بالغة في النظر إلى علاقاتهم الخارجية.