مدونات

من هو الرئيس القادم لمصر

صهيب عبد الرحمن
تعيش مصر منذ انقلاب "30 يونيو" الذي أطاح فيه العسكر بالرئيس المنتخب محمد مرسي عن سدة الحكم مرحلة سياسية انتقامية إقصائية ستستمر إلى الانتخابات المزعومة القادمة. وإلى أن يخرج الرئيس المؤقت (المفروض على الشعب) عدلي منصور من قصر الاتحادية ويحل مكانه رئيس مدني منتخب ديمقراطيا، ستتمحور ديناميكيات السياسة في القاهرة حول سؤال مركزي: من سيكون الرئيس المقبل؟ من الواضح أن توازنات المرحلة الجديدة تعطي نخبة مصر العسكرية الدور الراجح في ترسيم معالم السياسة المصرية، بما فيها الانتخابات الرئاسية. في حدها الأقصى، تهدف استراتيجية جنرالات مصر إلى إعادة وصل ما قطعته ثورة "25 يناير" وتداعياتها، أي عودة الرئاسة المصرية إلى عهدة المؤسسة العسكرية، ليكون وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة، المشير عبد الفتاح السيسي، خامس رئيس عسكري لمصر منذ سقوط الملكية عام 1952، بعد محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك. وفي الحد الأدنى، سيسعى قادة الجيش المصري إلى انتخاب رئيس مدني يفهم قواعد اللعبة وحدودها كما تراها المؤسسة العسكرية، لاسيما احترام مصالح النخبة العسكرية الاقتصادية، ودورها في السياستين الخارجية والداخلية لمصر. وفي هذه الحالة كما في تلك سيبقى التوتر قائمًا، وحتميًا، بين طموحات العسكر وتصورهم لدورهم في الداخل المصري، والاحتمالات النظرية والفعلية للتحول الديمقراطي في مصر..وفي هذه الأيام نشاهد كثرة الحملات المؤيدة إلى ترشح الفريق عبد الفتاح السيسي مما يؤكد الاحتمال الأول.

إن عبد الناصر والسادات ومبارك اتبعوا استراتيجيات مختلفة لضمان ولاء المؤسسة العسكرية. اتكل ناصر على صورته الوطنية كرمز تحرير مصر من الاستعمار البريطاني، والقومية كزعيم عربي، لربط الجيش المصري بنظامه عبر وشائج عقائدية. كما عوّل أيضًا على الصداقة المتينة التي جمعته برفيق دربه المشير عبد الحكيم عامر، وهو تكتيك تبدت خطورته لاحقًا عندما انقلب عامر من صديق إلى منافس على السلطة، قبل نهايته الدرامية عام 1967. من جهة أخرى، اتبع السادات تكتيك الاستبدال السريع لكل ضابط عيّنه قائدًا للجيش المصري بقائد آخر. وبذلك، تعاقب على قيادة الجيش المصري، بين عامي 1970 و1981، كل من محمد فوزي، ومحمد صادق، وأحمد إسماعيل، وعبد الغني الجمسي، وكمال حسن علي، وأحمد بدوي، وعبد الحليم أبو غزالة. هذا التناوب السريع على رأس الهرم العسكري المصري أبقى التنافس بين مختلف الضباط الطامحين لقيادة الجيش محتدمًا؛ مما سهّل على السادات الإمساك بخيوط المؤسسة العسكرية. أضف إلى ذلك، أن المدة القصيرة التي أمضاها هؤلاء الضباط في قيادة الجيش حالت بينهم وبين القدرة على بناء قاعدة من الضباط المرتبطين بهم شخصيًا -أي أن السادات منع أيًا منهم من التحول إلى عبد الحكيم عامر آخر. بالمقابل، عوّل مبارك على تسليم الجيش إلى ضباط معروفين بولائهم التام له، وبانعدام الطموح السياسي، كيوسف صبري أبو طالب ومحمد طنطاوي، وذلك بعد أن أحال عبد الحليم أبو غزالة -الذي ورثه مبارك عن السادات- إلى التقاعد المبكر.

ورغم أن هذه التكتيكات اختلفت باختلاف طباع الرؤساء المصريين وظروفهم؛ فالثابت الذي مثّل صلة الوصل الأساس بين الرؤساء الثلاثة هو الحرص على تعزيز المكتسبات المادية لكبار ضباط الجيش المصري. هذا التقليد بدأه ناصر الذي فتح باب البيروقراطية المصرية على مصراعيها لتعيين الضباط في أرقى المناصب الوزارية والدبلوماسية والإدارية. في ظل السادات ومبارك، حافظ الضباط المصريون على تعييناتهم في الإدارات العامة والمحلية - 40 % من المحافظين في ظل مبارك جاؤوا من خلفية عسكرية -  وإن كانت أعدداهم في الحكومات المتعاقبة والسلك الدبلوماسي تراجعت نسبيًا. ولكن المكتسب الأهم الذي غنمه الضباط المصريون اعتبارًا من النصف الثاني من السبعينيات هو فتح باب الاقتصاد الوطني أمام تدخلهم فيه، بحيث باتت حصة المؤسسات الاقتصادية التابعة للمؤسسة العسكرية تشكّل اليوم 5 إلى 10 % من مجمل الاقتصاد المصري.

احتوى العسكر لثورة 25 يانير بغير أن يحميها

تصادف اليوم الأول للثورة المصرية مع وجود الرئيس السابق لأركان الجيش المصري سامي عنان في واشنطن. وقد نقل صحافيون وأكاديميون عن عنان قوله: إن الجيش في مصر لن يسمح بأن يكون مصير حسني مبارك كمصير نظيره التونسي زين العابدين بن علي. وهذ يعني أن النخبة العسكرية لم تكن متحمسة لسقوط النظام المصري السابق وانتصار الثورة، بخلاف ما حاولت إظهاره لاحقًا. والحقيقة أن من يدقق في يوميات تعاطي قيادة الجيش المصري مع الأحداث التي بدأت في 25 كانون الثاني / يناير 2011، يلتقط إشارات متناقضة صدرت عن المؤسسة العسكرية؛ فالقوات المسلحة أعلنت، بعد أيام على اندلاع الثورة، أنها تتفهم مطالب الشعب، وأنها لن تطلق النار على المدنيين المصريين. في الوقت عينه، أرسلت القوات الجوية طائرات حلّقت فوق فضاء ساحة التحرير يوم 30 كانون الثاني / يناير 2011، في خطوة فسرها الكثيرون على أنها محاولة لترهيب المدنيين المتجمهرين فيها. والأهم، ربما، أن الجنود المصريين لم يحركوا ساكنًا للدفاع عن ثوار التحرير يوم موقعة الجمل الشهيرة في 2 شباط / فبراير. لقد صرّح ضباط في المجلس الأعلى للقوات المسلحة لصحيفة الواشنطن بوست الأميركية في أيار / مايو 2011 بأنهم أعطوا حسني مبارك فرصة معالجة الوضع بعد اندلاع الثورة، وأنهم كانوا مستعدين لسحب جنودهم من الساحات العامة والعودة إلى ثكناتهم لو تمكن الرئيس السابق من الإمساك بزمام الأمور.

هذه النقطة أساسية لفهم موقف قادة الجيش المصري من الثورة ومن سلسلة الأحداث التي تلتها. ذاك أنه ينبغي التمييز بين الرغبة في الحفاظ على النظام، من جهة، وبين القدرة على قمع الثورة، من جهة أخرى. قيادات الجيش المصري التي استفادت من نظام مبارك لم تكن ترغب بالتغيير الراديكالي عبر الشارع المصري. ولكن فقدان القدرة على قمع الحراك الشعبي نتيجة انحياز الضباط متوسطي الرتب والصغار -ومن خلالهم، مجمل القوات المسلحة- إلى الثورة، ألزم قيادات الجيش، على مضض، بقبول التغيير الحتمي الذي فرضه الحراك الشعبي. وبعد أن بات واضحًا أن مواقف مبارك المتهالكة في أيام حكمه الأخيرة لم تعد قادرة على التأثير في مجريات الأمور على الأرض، وأن الاحتجاج الشعبي إلى توسع مستمر، أرغم كبار الضباط مبارك على الاستقالة، واستلموا الحكم مباشرة. بهذا المعنى يمكن القول: إن فرض رحيل مبارك لم يكن تعبيرًا عن انتصار النخبة العسكرية للثورة، بل الخطوة الأولى على طريق احتوائها.

"30 يونيو": ثورة مضادة وانقلاب عسكري

لا تتسع هذه العجالة إلى بحث تفصيلي حول علاقة قادة الجيش المصري بجماعة الإخوان المسلمين خلال فترة حكم المجلس العسكري، ولا في ظل الرئيس محمد مرسي. يكفي القول: إن ترسبات عقود ستة من العداء المستحكم أبقى التواصل بين الطرفين مشوبًا بالحذر المتبادل، رغم ما قيل عن علاقة طيبة نسجها مرسي مع وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة عبد الفتاح السيسي. لقد واجه الإخوان المسلمون منذ وصول مرشحهم إلى قصر الاتحادية منافسين علنيين على السلطة من المعارضتين الليبرالية واليسارية، ومنافسين صامتين ومتوثبين هم القادة العسكريون. والأهم من هؤلاء وأولئك أن الإخوان واجهوا أيضًا التحدي المفروض على أية نخبة سياسية حاكمة تعوّل على التأييد الشعبي للبقاء في السلطة، أي ضرورة تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لعموم المواطنين. كان يمكن للإخوان بعد فوز مرشحهم في الانتخابات الرئاسية تشكيل حكومة وحدة وطنية يتمثل فيها أقطاب من طراز محمد البرادعي وحمدين صباحي. والحال أن رص صفوف القوى المدنية، الإسلامية وغير الإسلامية، التي شاركت في الثورة كان ضرورة مزدوجة؛ فعلى الصعيد الوطني، كانت الأزمة الاقتصادية الخانقة تقتضي توحيد القوى والكفاءات المصرية، والخفض ما أمكن من حدة التجاذب السياسي، لمواجهتها. وعلى الصعيد السياسي، كان الصراع مع كبار الضباط يفترض أن تلتقي القوى المدنية على حد أدنى من التوافق قوامه منع عودة العسكر إلى الساحة السياسية. ولكن الأمور ذهبت في اتجاه مختلف تمامًا، وقد بدا لوهلة أن الإخوان يسعون لمد الجسور مع الجيش، لتقوية وضعهم في مواجهة منافسيهم المدنيين، بدل العكس. كما بدا، أيضًا، أن معظم القوى الليبرالية واليسارية استعانت بالجيش في إطار الإطاحة  بالإخوان المسلمين. هذا الغزل للجيش الصادر عن الليرالين واليساريين  والإخوان جميعا يوحي بضعف القناعات الديمقراطية لدى مجمل القوى المدنية المصرية الأساسية، بشقيها الديني وغير الديني. ورغم الدور المهيمن الذي لعبه ضباط الجيش المصري في سياسة بلادهم منذ العام 1952، تفيد تجارب الدول الأخرى التي انتقلت من الحكم العسكري إلى الحكم المدني بأن بناء جيش ديمقراطي خاضع للسلطة السياسية المنبثقة عن صناديق الاقتراع ليس مستحيلاً، وإن سبقته عقود من العسكرة. الجيش الإندونيسي أيضًا كان مهيمنًا على سياسات بلاده طوال حكم الرئيس سوهارتو (1967- 1998)، ولكن دوره السياسي تقلّص، وهيمنته على الإدارة العامة تراجعت، بعد سقوط سوهارتو، وبداية التحول الديمقراطي إثر ثورة العام 1998 الشعبية. ورغم التشابه بين ثورة 1998 في إندونيسيا، وثورة 2011 في مصر، فإن مجريات الأحداث التي تلت كلاً منها اختلفت، تحديدًا لأن القوى المدنية في جاكرتا نجحت حيث فشلت مثيلاتها في القاهرة، سيما فيما يتعلق بإطلاق مسار فصل الجيش عن السياسة، وهو ما يصب في مصلحة بناء حياة ديمقراطية سليمة، كما يصب أيضًا في مصلحة المؤسسة العسكرية نفسها في نهاية المطاف.