من أبرز النقاط:
ـ مبدأ "جريمة سياسي" (political offence exception) كان حجر الزاوية في معاهدات التسليم: أي يُفترض ألا يُسلَّم الشخص
إذا كانت التّهمة مرتبطة بنشاط سياسي بحت.
ـ لكن هذا الاستثناء بدأ يُضعف: بعض المعاهدات تضيق تفسيره أو تلغيه،
خصوصاً مع ظهور ما يُسمّى “الإرهاب”، بحيث الدولة تطلب استخدام المعاهدات لتعقّب
معارضيها السياسيّين.
ـ في مجال قوانين مكافحة الإرهاب، وثَّقت تقارير أن بعض الدول تستخدم
هذه القوانين لتقييد حرّية التعبير أو لتعقّب
المعارضين المطالبين بالإصلاح أو
التغييرات السياسية.
ـ وصحيح أنّ معاهدات التسليم والقوانين الجنائية العابرة للحدود تبدو
ـ نظريّاً ـ أدوات تعاون قانوني، لكن في الواقع كثيراً ما يتم تفعيلها أو عدم
تفعيلها بناءً على ما يخدم المصلحة السياسية للدولة المعنيّة: "التسليم أقلّ
احتمالاً عندما يكون المطلوب فاعلاً سياسياً ـ إذا رأت الدولة المستضيفة ميزة
سياسية من رفضه.
تمهيد
تُعدّ الآليات القانونية والقضائية في الأصل ضمانات لتحقيق العدالة
وحماية الحقوق، لكن في العديد من دول العالم العربي أضحت هذه الآليات أدوات قمع في
يد الأنظمة السلطوية. فبدلًا من أن تكون القوانين سدًا منيعًا في وجه التعسف، يجري
تطويعها لاستخدامها ضد المعارضين السياسيين تحت غطاء قانوني زائف. هكذا تتحول
التهم والمحاكمات والقوائم إلى أسلحة لتصفية الحسابات السياسية، فينتفي مبدأ سيادة
القانون لتحل محله سيادة السلطة وأجهزتها الأمنية.
تسخير القانون في خدمة القمع:
تعمد بعض الأنظمة العربية إلى استغلال قوانين فضفاضة ومصممة لمكافحة
الإرهاب أو حماية أمن الدولة من أجل تجريم أصوات المعارضة السلمية. وفي هذا
السياق، أدرجت
الإمارات العربية المتحدة 11 معارضًا سياسيًا وعددًا من أقاربهم على
“قوائم الإرهاب” لديها دون أي إجراءات قانونية سليمة. هذا الإجراء التعسفي يعكس
استخدامًا عشوائيًا للقوانين وإهدارًا للضمانات القانونية، حيث يسمح قانون الإرهاب
الإماراتي بإضافة الأفراد والكيانات لتلك القوائم دون الحاجة لأدلة ملموسة أو
رقابة قضائية. وقد وصفت منظمة هيومن رايتس ووتش هذه الخطوة بأنها ازدراء للإجراءات
القانونية الواجبة وطالبت بإزالة تلك التصنيفات فورًا. فضلاً عن ذلك، يُجرَّم أي
تواصل مع من تشملهم القائمة ويُعاقَب بالسجن مدى الحياة، مما يجعل حتى أقارب
المعارضين في الداخل عرضة للبطش.
تعمد بعض الأنظمة العربية إلى استغلال قوانين فضفاضة ومصممة لمكافحة الإرهاب أو حماية أمن الدولة من أجل تجريم أصوات المعارضة السلمية. وفي هذا السياق، أدرجت الإمارات العربية المتحدة 11 معارضًا سياسيًا وعددًا من أقاربهم على “قوائم الإرهاب” لديها دون أي إجراءات قانونية سليمة.
المشكلة لا تقتصر على بلدٍ بعينه؛ فالنمط يتكرر في دول عربية أخرى.
في مصر مثلًا، نددت منظمات حقوقية مرارًا باستخدام قوانين مكافحة الإرهاب الفضفاضة
لسلب حقوق آلاف المواطنين وتقييد حرياتهم الأساسية. أُدرِج عشرات السجناء
السياسيين على قوائم إرهابية لا لشيء إلا لإسكات أصواتهم المعارضة وتجريدهم من
حقوقهم في السفر والتملك، ووصمهم مجتمعيًا. وتؤكد تقارير حقوقية أن النيابة العامة
المصرية توظّف هذه القوانين لقمع المعارضين السلميين مع تعطيل ضمانات المحاكمة
العادلة في الوقت نفسه. والنتيجة هي مشهد قضائي مشوّه: محاكمات جماعية تفتقر لأبسط
مقومات العدالة، واعترافات تُنتزع تحت التعذيب لتُقدَّم كأدلة إدانة، بينما يظل
مرتكبو التعذيب والإخفاء القسري بمنأى عن المحاسبة.
جاسم الشامسي.. نموذج صارخ لتسييس العدالة:
تُمثّل قضية المعارض الإماراتي جاسم راشد الشامسي مثالًا حيًا على
تسييس الأدوات القانونية وانتهاك الضمانات. كان الشامسي مسؤولًا حكوميًا سابقًا
(مساعد وكيل وزارة المالية) قبل أن يتحوّل إلى منتقد بارز لسياسات حكومة أبو ظبي
وداعية إلى الإصلاح الديمقراطي. هذا النشاط السلمي قوبل برد سلطوي شرس: حُكم عليه
غيابيًا بالسجن 15 عامًا عام 2013 في محاكمة جماعية عُرفت باسم قضية "الإمارات
94"، إثر توقيعه مع عشرات الأكاديميين والحقوقيين على عريضة تطالب بإصلاحات
ديمقراطية. لم تُوفّر تلك المحاكمة الجائرة أي ضمانات حقيقية للدفاع، حتى أن خبراء
الأمم المتحدة أعربوا عن قلقهم البالغ من انتهاك حقوق المتهمين فيها.
لم يكتفِ النظام الإماراتي بذلك. فبعد سنوات من عيش الشامسي في
المنفى ومواصلته نشاطه من الخارج، فوجئ باتهامات جديدة ملفقة نهاية 2023 ضمن قضية
أخرى سُمّيت "الإمارات 84". وقد حُكم عليه بالسجن مدى الحياة في يوليو
2024 بموجب تلك التهم التي زُعِم أنها تتعلق بالإرهاب. ومما يؤكد طابعها الانتقامي
أنها وُجّهت لمعتقلين سابقين ونشطاء كانوا قد حاولوا تشكيل جمعية مستقلة للمطالبة
بالإصلاح. وإمعانًا في التضييق، أعلنت السلطات الإماراتية في يناير 2025 إدراج اسم
جاسم الشامسي رسميًا على قائمة الإرهابيين المحليين، ضمن خطوة جماعية شملت 11
شخصية معارضة في المنفى. هذه الوصمة التعسفية لم تستند إلى أي حكم قضائي حقيقي أو
أدلة ملموسة، وإنما جاءت كتصعيد للقمع عبر الحدود. وقد وثّقت هيومن رايتس ووتش كيف
يتم استغلال تصنيف “الإرهاب” لتشويه سمعة المعارضين وتجريم حتى مجرد التواصل
العائلي معهم.
في أعقاب إدراجه كـ"إرهابي"، بات الشامسي مهددًا حتى خارج
حدود بلاده. فقد استغلّت أبو ظبي نفوذها الدولي لملاحقته، ويُرجَّح أنها أدرجت
اسمه في قائمة الإنتربول الحمراء. وبالفعل، تعرض الشامسي في 2 مارس 2024 للاحتجاز
من قبل السلطات التركية في مطار دالامان أثناء سفره، قبل أن يُطلق سراحه لاحقًا
بعد حملة تضامن حقوقية. أدرك الشامسي أن بقاءه في تركيا أضحى محفوفًا بالمخاطر،
فانتقل برفقة زوجته (وهي سورية الجنسية) وأطفاله إلى
سوريا في ديسمبر 2024 بحثًا
عن ملاذ آمن أو بديل مؤقت. لكنه وقع في مصيدة تسييس القانون مجددًا وهذه المرة على
يد سلطات دمشق.
في يوم الخميس 6 نوفمبر 2025، اعتقلت قوات الأمن السورية جاسم
الشامسي في دمشق دون أي أمر قضائي أو تهمة واضحة. تم توقيفه عند إحدى نقاط التفتيش
الأمنية واقتياده إلى مكان مجهول، لتنقطع أخباره تمامًا منذ لحظة
اعتقاله. لم
تُخطر السلطات السورية عائلته بأية معلومات، ولم تُتح له فرصة التواصل بمحاميه أو
ذويه، ما يجعل احتجازه يدخل في نطاق الاختفاء القسري المحظور دوليًا. وأكد مركز
مناصرة معتقلي الإمارات أن الغموض حول مصير الشامسي يثير أشد المخاوف على سلامته،
خاصة مع احتمال تعرضه للضغوط أو التعذيب أثناء احتجازه. يعكس هذا السلوك انتهاكًا
صارخًا لضمانات المحاكمة العادلة وحتى لأبسط حقوق المحتجزين، إذ حُرم الشامسي من
حقه في معرفة سبب اعتقاله أو الدفاع عن نفسه.
الأخطر من ذلك أن اعتقال الشامسي في سوريا لم يكن إجراءً منعزلًا، بل
يبدو خطوة ذات دوافع سياسية ربما تمهد لتسليمه إلى أبو ظبي. قبل أسابيع من توقيفه،
مُنع من السفر في مطار دمشق وأُبلغ بوجود حظر عليه داخل سوريا، مما يلمح إلى تنسيق
أمني خفي بين دمشق وأبو ظبي لاستهداف الرجل. وإذا صحّت هذه الشكوك وقامت السلطات
السورية بتسليمه سرًا إلى الإمارات استجابة لطلب أبو ظبي، فسيكون ذلك انتهاكًا
فادحًا للقانون الدولي ومبدأ عدم الإعادة القسرية. اتفاقية مناهضة التعذيب التي
صادقت عليها سوريا تنص بوضوح في مادتها الثالثة على حظر ترحيل أي شخص إلى بلد
تتوافر أسباب حقيقية للاعتقاد بأنه سيتعرض للتعذيب فيه. وليس خافيًا أن سجل
الإمارات حافل بممارسة التعذيب وسوء المعاملة بحق معتقلي
الرأي، سواء داخل سجونها
أو حتى عبر إدارتها مراكز احتجاز سرية في دول أخرى. وبالتالي، أي تواطؤ سوري في
ترحيل الشامسي سيُعد وصمة عار قانونية وأخلاقية، فضلًا عن كونه خيبة أمل كبيرة لمن
اعتقدوا أن دمشق الجديدة قد تخلّت عن ممارسات النظام السابق.
تحركت جهات حقوقية عدة في مواجهة هذا السيناريو القاتم: ناشدت منظمات
الأمم المتحدة والهيئات الدولية السلطاتِ السوريةَ وقف أي تسليم وشيك، وقدّم مركز
منّا لحقوق الإنسان ومركز المعتقلين الإماراتيين بلاغًا عاجلًا إلى الفريق الأممي
المعني بحالات الاختفاء القسري مطالبين بكشف مصير الشامسي فورًا. كما دعت منظمة
الكرامة الحقوقية السلطات في دمشق إلى احترام التزاماتها الدولية وعدم تسليم
الشامسي، محذرة من أن ذلك سيقوّض مزاعم الحكومة السورية عن سعيها لبناء دولة قانون
ويبعث برسائل سلبية حول احترامها لحقوق الإنسان. حتى المعارضة السورية وشخصيات
بارزة في الثورة التي كان الشامسي من مناصريها عبّروا عن صدمتهم وخيبة أملهم
لاعتقاله، معتبرين التعاون في قمع معارض عربي انتكاسة خطيرة وتناقضًا مع قيم
الحرية التي نادت بها ثورة الشعب السوري.
تحليل قانوني وسياسي.. تفريغ الآليات من مضمونها:
تهدف معاهدات تسليم المطلوبين والتشريعات الجنائية الدولية في الأصل
إلى تعزيز العدالة ومكافحة الجريمة الخطيرة عبر الحدود. وقد وضعت تقليديًا
استثناءات سياسية لمنع تسليم أشخاص مطلوبين لجرائم ذات طابع سياسي بحت، إدراكًا
لخطر استغلال تلك الأدوات ضد المعارضين. غير أن الواقع المعاصر يكشف عن أساليب
ماكرة للتحايل على هذه الضوابط، مما أفرغ الآليات القانونية من روحها المحايدة:
كان الشامسي مسؤولًا حكوميًا سابقًا (مساعد وكيل وزارة المالية) قبل أن يتحوّل إلى منتقد بارز لسياسات حكومة أبو ظبي وداعية إلى الإصلاح الديمقراطي. هذا النشاط السلمي قوبل برد سلطوي شرس: حُكم عليه غيابيًا بالسجن 15 عامًا عام 2013 في محاكمة جماعية عُرفت باسم قضية "الإمارات 94"، إثر توقيعه مع عشرات الأكاديميين والحقوقيين على عريضة تطالب بإصلاحات ديمقراطية.
ـ تلفيق تهم جنائية وإرهابية: تعمد الأنظمة القمعية إلى تكييف نشاط
المعارضين على أنه جرائم جنائية عامة (كالاتجار المالي أو الفساد أو حتى السرقة
البسيطة) أو تصنيفه كإرهاب، وذلك لإلباس طلبات التسليم ثوبًا قانونيًا مشروعًا.
فمن خلال وصم المعارض بـ "الإرهابي"، يصبح بالإمكان الادعاء أن جريمته
جنائية خطيرة لا مجرد مخالفة سياسية. وقد باتت اتهامات الإرهاب تُستخدم على نحو
متزايد كذريعة لتبرير أعمال القمع العابر للحدود. هذا الوصف يجرّد المعارض من صفته
كصاحب رأي ويصوّره كمجرم خطر، مما ينزع عن قضيته الطابع السياسي في نظر الجهات
الخارجية. هكذا تُلتف على قاعدة عدم التسليم في الجرائم السياسية. وعلى سبيل
المثال، صنّفت طاجيكستان وجيرانها العديد من النشطاء كـ "متطرفين إرهابيين"
لمجرد أنهم ينتقدون النظام، لتبرير ملاحقتهم دوليًا. كثير من هؤلاء لم يمارسوا أي
عنف حقيقي، بل اقتصر نشاطهم على معارضة سلمية أو فضح للفساد، ما يكشف الطبيعة
المفتعلة لهذه التهم.
ـ توسيع الاختصاص القضائي عابر الحدود: تستغل بعض الدول مفهوم
الولاية القضائية العابرة لسنّ قوانين تتيح لها ملاحقة مواطنيها (وأحيانًا أجانب)
خارج حدودها. فمثلاً، قانون الأمن القومي الصيني لهونغ كونغ يمتد ليشمل أفعالًا
تتم في دول أخرى إذا رأت بكين أنها تهدد أمنها. وبالمثل، تصدر بعض الأنظمة أحكامًا
غيابية قاسية على منشقين في الخارج، لتصبح بمثابة أوراق قانونية تستخدمها عبر
الإنتربول أو القنوات الدبلوماسية للمطالبة بتسليمهم. هذا التوظيف العابر للقانون
يقوّض مفهوم سيادة القانون الوطني لكل دولة، ويمثل انتهاكًا لمبدأ اللجوء السياسي
الذي يكفله القانون الدولي كملاذ للمضطهدين.
ـ إفراغ الآليات الدولية من مضمونها: عندما تُستخدم معاهدات التسليم
أو التعاون الشرطي الدولي لأغراض سياسية، فإنها تفقد شرعيتها الأصلية. الاتفاقيات
الثنائية التي أُبرمت لتبادل المجرمين والخارجين عن القانون تتحول إلى أدوات
مقايضة سياسية تستهدف المعارضين. وقد حذرت منظمات حقوقية من أن بعض اتفاقيات
التسليم تسهِّل الاستغلال السياسي؛ فالاتفاق الأمني بين كمبوديا وتايلاند في 2018
مثلًا استُخدم لتسهيل تبادل تسليم معارضي الحكومتين تحت غطاء قانوني. كذلك، إساءة
استخدام النشرات الحمراء للإنتربول تُفَرِّغ هذه الأداة من مصداقيتها، خاصة حين
تفتقر للشفافية كما هو الحال في غالبية الإخطارات غير العلنية. إن مبدأ عدم
الإعادة القسرية (عدم تسليم أي مطلوب إذا كان يواجه خطر التعذيب أو الاضطهاد)،
ورغم أنه حجر زاوية في القانون الدولي لحقوق الإنسان، غالبًا ما يتم تجاهله عندما
يتعارض مع مصالح سياسية بين الدول. والنتيجة هي منظومة عدالة دولية مثقوبة،
تستغلها الحكومات المستبدة لقمع المعارضة باسم القانون. هذا الانحراف يقوّض الثقة
بالاتفاقيات الدولية، ويضع الدول الديمقراطية أمام معضلة موازنة التزاماتها
القانونية مع واجبها الأخلاقي في حماية حقوق الإنسان.
رأي الكاتب والحلول المقترحة:
إن تحويل الآليات القانونية الدولية إلى أدوات قمع سياسي يشكّل
تهديدًا خطيرًا لمبادئ العدالة وحقوق الإنسان عالميًا. فهو لا يطعن فقط في حقوق
الأفراد المستهدفين بالحرمان من محاكمة عادلة أو حق اللجوء، بل يهدد بتقويض نظام
التعاون القانوني الدولي برمّته. إذا استمر هذا النهج دون رادع، ستصبح لغة القانون
الدولي مشوبة بالانتقائية، تستخدمها بعض الدول لتصفية حساباتها السياسية، مما يضع
سابقة خطيرة قد ترتد على الجميع في النهاية.
بصفتي كاتب هذا المقال، أرى ضرورة ملحّة لاتخاذ خطوات جماعية من أجل
كبح هذا التوجه الخطير وإعادة الاعتبار لوظيفة القانون الأساسية. فيما يلي بعض
المقترحات العملية:
ـ تعزيز الرقابة الحقوقية على طلبات التسليم والتعاون القضائي: يجب
إخضاع طلبات التسليم الدولية ونشرات الإنتربول لمراجعة دقيقة تراعي معايير حقوق
الإنسان. على الدول المستقبِلة أن تتحقق من دوافع الطلب وطبيعة التهم قبل الموافقة
على أي تسليم، ورفض الطلبات ذات الطابع السياسي الواضح. ويمكن إنشاء هيئات مستقلة
أو تكليف المحاكم العليا بفحص أي قضية تسليم في ضوء مبدأ عدم التسليم لأسباب
سياسية أو عند خطر التعذيب. ويُستحسن أن تعزز المنظمات الدولية (كالإنتربول) فرق
التدقيق لديها لضمان عدم تمرير نشرات حمراء مخالفة لدستورها. وجدير بالذكر أن
الإنتربول بدأ بالفعل خطوات في هذا الاتجاه عبر استحداث سياسة لحماية اللاجئين من
الملاحقات التعسفية، ولكن المطلوب المزيد من الشفافية والمساءلة.
ـ إصلاح منظومة الاتفاقيات القانونية الدولية: يتعين على المجتمع
الدولي تحديث الأطر القانونية للتعاون الجنائي لتتحصن ضد الاستغلال السياسي. يمكن
ذلك عبر إدراج بنود صريحة في معاهدات التسليم واتفاقيات مكافحة الإرهاب تنص على
احترام حقوق الإنسان ورفض التسليم في القضايا ذات البعد السياسي أو تلك التي تفتقر
لضمانات المحاكمة العادلة. كما ينبغي تضييق تعريف الجرائم الإرهابية دوليًا لمنع
شموله أنشطة المعارضة السلمية أو التعبير السياسي. وقد يكون من الضروري تعليق أو
إلغاء اتفاقيات مع دول يثبت تكرار إساءتها لهذه الآليات – كما فعلت بعض الدول حين
أوقفت اتفاقيات التسليم مع هونغ كونغ بعد فرض قانون الأمن الوطني. مثل هذه
الإجراءات تبعث برسالة واضحة بأن المجتمع الدولي لن يتسامح مع تسييس التعاون
القانوني.
إن تحويل الآليات القانونية الدولية إلى أدوات قمع سياسي يشكّل تهديدًا خطيرًا لمبادئ العدالة وحقوق الإنسان عالميًا. فهو لا يطعن فقط في حقوق الأفراد المستهدفين بالحرمان من محاكمة عادلة أو حق اللجوء، بل يهدد بتقويض نظام التعاون القانوني الدولي برمّته.
ـ دعم حق اللجوء والحماية الدولية للمعارضين: على الدول الديمقراطية
أن تلتزم التزامًا أقوى بحماية طالبي اللجوء السياسي وعدم الرضوخ للضغوط غير
المشروعة. إن توفير ملاذ آمن للمعارضين المهددين وإتاحة المنابر لهم لنقل قضيتهم
يساهم في كسر حلقة القمع. إضافة إلى ذلك، يمكن للبرلمانات الوطنية سنّ قوانين تمنح
حصانة مؤقتة من التسليم للمطلوبين سياسيًا ريثما تُدرس ملفاتهم بعمق. وفي السياق
نفسه، يجب دعم دور المنظمات غير الحكومية والمحامين الدوليين في تمثيل ضحايا
الملاحقات التعسفية دوليًا، بما في ذلك أمام هيئات الأمم المتحدة المختصة.
تداعيات خطيرة على حقوق الإنسان والمعارضين:
قضية جاسم الشامسي بكل تفاصيلها ليست إلا مرآة تعكس الخطر المتصاعد
الذي يحدق بحقوق الإنسان والمعارضين السياسيين في العالم العربي جراء تسييس القضاء
والأدوات القانونية. فعندما تتحول المحاكم والقوانين إلى مطية بيد السلطة تُوجَّه
نحو خصومها، تصبح حقوق المواطنين عرضة للانتهاك الممنهج. إن استقلال القضاء ونزاهة
الإجراءات القانونية هما صمام أمان للمجتمع؛ وبغيابهما يحل شبح الاستبداد المقنَّع
بالقانون.
على المستوى الفردي، يعني ذلك أن أي ناشط أو معارض مهدد بأن يُلفَّق
له اتهام ويُقدَّم للمحاكمة بتهم جاهزة، أو يدرج اسمه على قوائم سوداء تجرّده من
حقوقه الأساسية. إنها رسالة تخويف واضحة: لا صوت يعلو فوق صوت السلطان، ومن يجرؤ
على النقد سيواجه السجن أو النفي أو الأسوأ تحت غطاء أحكام قضائية. أما على
المستوى الإقليمي، فقد أدت شراسة التنسيق الأمني بين الأنظمة القمعية إلى ملاحقة
المعارضين حتى في منفاهم. شاهدنا سابقًا حوادث اختطاف وتسليم قسري لمعارضين عبر
الحدود بصورة غير قانونية؛ فمن الأردن إلى الإمارات تمت عملية تسليم المعارض
الإماراتي خلفان الرميثي عام 2023 خارج أي إطار قضائي، ومنذ ذلك الحين وهو في عداد
المختفين قسريًا. هذا النموذج المرعب يجعل أي منشق سياسي مطاردًا أينما ذهب في
المنطقة، فلا ملاذ آمن له حتى في الدول الشقيقة أو الصديقة.
إن استخدام القانون كأداة للقمع يقوّض الثقة بمنظومة العدالة برمتها.
فعندما يدرك المواطن أن القضاء ليس ملجأ للإنصاف، بل سيف مسلط لخدمة السلطة، تنتشر
حالة من الخوف والسخط وتنكسر الرابط الاجتماعي بين الشعب ومؤسسات دولته. كما تتضرر
سمعة تلك الدول دوليًا، وتصبح عرضة للإدانة في المحافل الحقوقية، مما يزيد من
عزلتها ويضع تعاونها الدولي على المحك.
في الخلاصة، قضية جاسم الشامسي تدق ناقوس الخطر حيال مستقبل حقوق
الإنسان وكرامة المواطن العربي إذا استمر نهج تسييس القضاء واستغلال القوانين لقمع
الخصوم. إنها تذكير بأن الظلم وإن ارتدى عباءة القانون يظل ظلمًا. حماية الحقوق
والحريات تستوجب صحوة ضمير لدى القضاة والمسؤولين، وإعلاء مبدأ استقلال القضاء فوق
إملاءات السياسة. كما تتطلب موقفًا حازمًا من المجتمع الدولي للضغط على الأنظمة
التي تنتهك التزاماتها، ولجم محاولاتها استغلال الاتفاقيات الأمنية والقضائية في
تسليم اللاجئين والمعارضين. فلا يجوز أن يصبح القانون سيفًا مسلطًا على رقاب
المصلحين فيما يفلت الجلادون من العقاب. إن إنقاذ ما تبقى من هيبة العدالة في
دولنا واجب ملحّ، وهو السبيل لضمان مستقبل تُصان فيه كرامة الإنسان، أيًا كان رأيه
وانتماؤه.
في الختام، سيادة القانون لا تتحقق بإجراءات قانونية صورية تخفي
وراءها نوايا سياسية قمعية، بل بإعلاء مبادئ العدالة والإنصاف. إن مكافحة الإرهاب
والجريمة عبر الحدود تظل أهدافًا مشروعة وضرورية لأمن المجتمعات، لكن تحقيقها لا
يمكن أن يتم عبر هدم قواعد العدالة ذاتها. على الدول والمؤسسات الدولية أن تختار
بوضوح بين أن تكون نصيرة للعدل أو شريكة – بصمتها أو بتواطؤها – في ملاحقة
الأبرياء. إن وقف توظيف الآليات القانونية كأدوات قمع يتطلب إرادة سياسية جماعية
وشجاعة في مواجهة الابتزاز باسم القانون. وإلى أن تتحقق إصلاحات جادة في هذا
الصدد، سيبقى ناقوس الخطر يدق دفاعًا عن كل صاحب رأي حرّ يجد نفسه مطاردًا رغم
حدود الجغرافيا، فقط لأنه تجرأ على قول "لا" في وجه الاستبداد.
المصادر والمراجع:
1 ـ منظمة منّا لحقوق الإنسان ـ اعتقال معارض إماراتي ومتّهم في
قضيتي “الإمارات94” و” الإمارات84” في سوريا (تقرير تفصيلي، 13 نوفمبر 2025).
2 ـ موقع الإمارات71 الإخباري – بعد أيام من اختفائه في سوريا.. مركز
مناصرة معتقلي الإمارات يطالب بكشف مصير الشامسي فوراً (خبر، 14 نوفمبر 2025).
3 ـ منظمة الكرامة – سوريا: اعتقال الناشط الإماراتي جاسم الشامسي
خيبة أمل ومحاولة تسليمه انتهاك لالتزامات البلد بموجب القانون الدولي (بيان، 12
نوفمبر 2025).
4 ـ هيومن رايتس ووتش – الإمارات: إدراج معارضين وأقاربهم على “قوائم
الإرهاب” (بيان صحفي، 22 أبريل 2025).
5 ـ العربي الجديد – مصر تضيف عشرات السجناء السياسيين إلى قوائم
الكيانات الإرهابية (خبر، 23 يناير 2024).
*كاتب وباحث وأكاديمي سوري.