قضايا وآراء

"الـرِّيـل".. معضلة الصّورة وتحوّلات الوعي في زمن الانخطاف البصري

"من هذا التقطّع المعرفيّ تولد ذاتٌ منقسمة تلهث وراء الجديد، ولا تطيق المقام عند فكرة، ولا تثبت في حضرة سؤالٍ واحد"- CC0
لم يكن الإنسانُ يوما عاجزا عن التعبير؛ لكنه اليوم غارقٌ في فائضٍ من التعبير لا يبوح بشيء. هذا عصرٌ لم تُقيد فيه الحناجر لكنّها انفجرت، ولم تُصادَر فيه الأسئلة غير أنّها ابتُذِلت، ولعلّ من أكثر مظاهره انكشافا، وأعمقها تأثيرا على الفكر والوعي والسلوك؛ معضلة "الريل" (مقاطع الفيديو القصيرة- Reels)، بوصفه الشكل الأحدث لصناعة الخواء.

إننا لا نواجه مجرد مقاطع قصيرة تُستهلَك في ثوانٍ، بل نواجه نمطا سرديا يُعيد تعريف الزمان، ويُعيد تشكيل علاقة الإنسان بنفسه وبالكون، ويُعيد بناء الذوق، ويُهندِس الانتباه، ويُغلق نوافذ التأمل.

لم يعد "الريل" تقنية عرض لكنّه غدا فلسفة وجود، وأسلوب تَلقٍّ، وصناعة إدراك، تسلّلت إلى وجدان الشباب، فأعادت صياغة معنى الانشغال، ومعايير النجاح، ومراتب الجمال، وسُبل التعبير.

لم يعد "الريل" تقنية عرض لكنّه غدا فلسفة وجود، وأسلوب تَلقٍّ، وصناعة إدراك، تسلّلت إلى وجدان الشباب، فأعادت صياغة معنى الانشغال، ومعايير النجاح، ومراتب الجمال، وسُبل التعبير

من عمق السؤال إلى سطح الانفعال

الريل لا يسمح بسؤالٍ يطول، ولا بتفكيرٍ يتأنّى، ولا بمسافةٍ بين الانفعال والانحياز؛ إنّه يُشظّي المعنى إلى لقطات، ويُحوّل الرؤية إلى "إحساس لحظيّ"، ويُحاصر الفكر بموسيقى المؤثرات البصرية، فلا يعود العقل يفكّر لكنّه يتعب بالملاحقة.

كلّ مقطع هو نهاية، لا ينتظر جوابا، ولا يفتح أبوابا، لكنّه يختم على البصر والبصيرة معا، بمطرقة الإبهار السطحيّ.

فكأنّ كلّ "ريل" هو حدٌّ فاصل بين الإنسان وبين ذاته؛ يُقصيه عن داخله، ويدفعه نحو سطوح الأشياء، حيث تتكسّر الأسئلة على عتبات الضحك، وتتلاشى المعاني أمام زخم الصورة، ويتحوّل الزمان من "سيرورة فهم" إلى "خطفة نظر".

وما دامت كلّ لحظة تُختصر إلى ثلاثين ثانية، فإنّ السؤال لا يجد زمنا كي يُقال، ولا صمتا كي يُنصت له، ولا مسافة كي يتجوّل في دهاليز الذات باحثا عن حقيقة أو معنى.

إنّ الريل لا يسرق وقتا فحسب لكنّه يُسطّح كينونة؛ إنّه لا يُضعف التركيز وكفى، غير أنّه يُضعف الارتباط بالوجود بوصفه رحلة تحتاج إلى تأمّل، ويقنعنا أنّ المعنى يُنتَج بسرعة، ويُفهَم دون تعب، ويُستهلك دون أثر.

ثمّة ثقافةٌ تُبنى اليوم على أعمدةٍ من الانفعال اللحظيّ، ولا علاقة لها التجربة المعرفيّة؛ ثقافة لا تنشد الفهم ولا تستدعي الفكر، ولا تؤمن بالمراكمة، لكنها تقوم على بالنسف المستمر لكل ما سبق، ومن هذه الثقافة يولد جيلٌ محروم من بطء الفهم، ومن لذّة التدرّج، ومن طمأنينة السؤال الناضج الذي يطلب الهداية والبناء بعيدا عن الاستعراض.

من هذا التقطّع المعرفيّ تولد ذاتٌ منقسمة تلهث وراء الجديد، ولا تطيق المقام عند فكرة، ولا تثبت في حضرة سؤالٍ واحد.

الذات التي تنمو تحت مظلّة الريل تشبه مرآة مكسورة، لا تعكس شيئا كاملا، بل شظايا مشتتة من ضحكٍ وموسيقى ونصائح ومقاطع، يُحشَر فيها كلّ شيء، دون أن يُنبت منها شيء؛ إنّها ثقافة التجميع التي لا تكوين فيها، والعرض المفتقر إلى العمق، واللهاث الفاقد للتأمل.

وحين يُبتلع الفتى أو الفتاة في هذه الدوّامة فإنّهم يُعاد تشكيلهم بوصفهم كائناتٍ تفاعلية وليست ذواتٍ تأمّلية، تُصفّق سريعا، وتنتقل سريعا، وتنسى سريعا؛ في هذه الدوامة لا يعود الإنسان صانع معنى لكنّه يغدو مستهلك صورة، ولا يحمل همّا معرفيا، لكنّه يخضع لسطوة التوق لأن يُشاهَد هو أيضا، بمعنى أن يصبح "ريلا" بين "الريلز".

الانزلاق من التفكير إلى التلقي

ما من زمنٍ يتّسع في مشهد الريل لتفتّح الفكرة، وليس فيه من مساحةٍ تتهيّأ لتكوين موقف؛ فكلّ شيء فيه موصول بالخطفة وليس بالقراءة؛ وبردّ الفعل دون محاكمة الدلالة؛ لحظات من ضحكٍ مباغت، أو صدمةٍ مقصودة، أو انبهارٍ مفتعل، ثم اندفاعٌ بلا وعيٍ نحو المقطع التالي، كأن العقل أُعيد تشكيله على صورة إصبعٍ ينزلق، وليس على هيئة ذهنٍ يتبصّر.

في هذه البنية يتقهقر التأمل إلى الظلّ، وينزوي الضمير في زحام التأثيرات الصوتية والبصرية، ويخفت الصوت الداخليّ الذي كان يوما يسأل: "أين الحقيقة؟".

ثمّة استبدال منهجيّ قد جرى استُبدل "الترند" بالفكرة ، و"الإيموجي" بالحوار، لحظة انفعالٍ تُقيّم بالأعداد دون بالمضامين باليقين المتدرّج

وحين تتراكم هذه اللحظات كأنقاضٍ رقمية فوق ذاكرة الإنسان، لا يبقى للعقل من وظيفته الأولى شيء، فلا تنتظر منه تحليلا، ولا تترقب نقدا، ولا تتفاءل بمعنى يتجذّر في الوجدان؛ إنها الطفولة المعرفية المزمنة، التي تتستّر خلف مظهر من "الحداثة"، وهي في جوهرها ارتكاسٌ إلى فوضى غير نهائية؛ تُميت التساؤل وتُلهي عن الطريق.

وحين يُختصر الوجود في مقاطع قصيرة؛ يتفتّت الوعي إلى شظايا، وحين تُلخّص الحياة في لقطات ومضيّة؛ تتكسر الكينونة إلى أصواتٍ مبعثرة، لا يجمعها مشروعُ فهم، ولا يحملها همُّ ارتقاء.

هندسة الذوق وموت الجمال

الريل لا ينقل الجمال لكنّه يعيد إنتاجه على قواعد جديدة، وهو لا يُصوّر الحقيقة غير أنّه يُعيد تشكيلها بما يتوافق مع "إيقاع الإثارة"، إنّه يختزل الفكرة في نكتة، ويُحوّل الفن إلى "فلتر"، ويُربّي الذوق البصري على التكرار البهرجيّ وليس على التمايز القيميّ، وبهذه المنهجيّة تتآكل القدرة على تذوق المعاني المركبة، وتُمحى الفروق بين الجمال والخديعة، وبين العمق والسطحية، وبين الأصل والزيف.

في زمن الريل لم يعد القبيح قبيحا ما دام مصحوبا بإيقاعٍ جذّاب، ولم يعد العميقُ عميقا ما دام صامتا؛ وأضحى الجميل هو ما يُشاهَد أكثر وليس هو الذي يُعبّر عن أسمى مراتب الوجود.

هُويّة الذات في مرآة الشاشة
الريل لا يبقى على الشاشة، بل يُعيد تشكيل العلاقات والسلوك، حتى غدت الحياة والمواقف مجرد "فرص محتوى"، والعلاقات مساحة للعرض ولو بغير صدق، تتفكك فيها معاني الحياء والوقار، وتُزاحمها ثقافة "الظهور بأيّ ثمن"، ويغيب السكون الروحي لحساب الضجيج البصري

الشباب الذين يقضون أعمارهم في صناعة "ريلات" أو اجترارها، لا يواجهون خطر إضاعة الوقت فقط؛ إنّهم يواجهون خطر ضياع الذّات؛ ولا ينتبهون إلى أنّه تتم إعادة تشكيلهم بحسب الصور، ويُطلب منهم أن يكونوا أكثر حيوية، أكثر ضحكا، أكثر عرضا لذواتهم، حتى تصير الذات محض "محتوى" يُقوَّم بعدد المشاهدات، ويُنسى بعد خمس ثوانٍ من انتهاء المقطع.

هذا النمط من العيش يُحوّل الإنسان إلى مشروع تسويقٍ دائم لصورته، يُربّى فيه الشاب على أن يُدهش وليس أن يُصلِح، أن يكون ملفتا، وأن يُنتِج ردود فعل ولو بلا أفكار؛ عندها يصبح الإنسان صورة بلا جذر، وذاتا مشطورة بين فضاءٍ رقميّ صاخب وداخلٍ يزداد خواء.

من الشاشة إلى السلوك.. أثر الريل على الأخلاق والعلاقات

الريل لا يبقى على الشاشة، بل يُعيد تشكيل العلاقات والسلوك، حتى غدت الحياة والمواقف مجرد "فرص محتوى"، والعلاقات مساحة للعرض ولو بغير صدق، تتفكك فيها معاني الحياء والوقار، وتُزاحمها ثقافة "الظهور بأيّ ثمن"، ويغيب السكون الروحي لحساب الضجيج البصري.

وفي هذا التآكل تفقد القيم بُعدها التربوي، وتُختزل الأخلاق في صورةٍ قابلة للمشاركة، وتتحوّل التجارب الإنسانية الكبرى -كالألم، أو التوبة، أو الحُب- إلى فقراتٍ استعراضية تُؤدَّى وتُنسى.

الريل ليس تقنية تسويق؛ إنّه بوابة إلى إعادة تعريف الإنسان، وهو ليس مجرّد تطوّر في وسائل العرض، بل تحوّلٌ جذريّ في بنية الإدراك، وفلسفة التلقّي، ومقاييس النجاح، وفهم الذات والعالم، وفي ظلّ غياب بدائل معرفية وروحية وتربوية قادرة على ملء الفراغ، يُصبح الريل سيّد المشهد.

فهل نستسلم لمنطق السرعة، ونُعلن موت التأمل؟ أم نعيد تشكيل أدواتنا الفكرية والروحية لنصمد أمام طوفان اللقطات؟ إنّ السؤال لم يعد ترفا لكنّه اليوم يعلو بوصفه شرطا للبقاء.

x.com/muhammadkhm