مدونات

سوريا والعبور نحو المستقبل

"سوريا تعبر نحو المستقبل"- الأناضول
سيبقى يوم الثامن من شهر كانون الأول/ ديسمبر يوما عظيما في حياة السوريين، وشاهدا يؤرخ سقوط أسوأ الديكتاتوريات ومنظومات الحكم الاستبدادي على الإطلاق. أربعة وخمسون عاما رزح الشعب السوري خلالها تحت إجرام طغمة حاكمة تعاقب على قيادتها الأب والابن؛ من عائلة لم تحمل يوما من الأيام إلا الحقد والكراهية لشعب طيب مكافح معروف بتفوّقه وجدارته أينما حل وارتحل في أصقاع المعمورة، وتعاقبا على تحويل الوطن بترابه وسمائه إلى سجن ومعتقل قيدا فيه أحلام السوريين بمجتمع الحرية والكرامة والعدالة.

بدأت القصة مع الأب الذي باع جزءا من تراب الوطن في صفقة سهلت له الوصول إلى كرسي الحكم، وانكب على اكتساب مشروعيته في السلطة من خلال النضال المزعوم لدعم القضية الفلسطينية وتحرير الأرض التي باعها وقبض ثمنها. فلسطين التي عرفها السوريون من خلال فرع الاستخبارات الشهير الذي جثم لعقود على صدر الأحرار والأبرياء، وفلسطين التي اخترع جيشا لتحريرها أسماه جيش التحرير الفلسطيني من دون أن يطلق طلقة واحدة لتحريرها، ثم فلسطين التي استنسخ من كل تنظيماتها نسخة تعمل على هواه وتشق الصف الفلسطيني، وأخيرا فلسطين التي عمل مع حلفائه على حصار أبنائها وتصفيتهم في مخيمات الذل والعار والهوان في لبنان.

ومن مشروعيته القومية في الخارج إلى مشروعه الطائفي في الداخل، انتقل حافظ الأسد بخطوات حثيثة إلى السيطرة على الحياة السياسية في البلد، من تصفية حلفاء الأمس وخصوم المرحلة، إلى السيطرة على النقابات والمنظمات، وتجفيف المجتمع المدني، وصولا إلى إنهاء وجود السلطة الرابعة وتركيز كل السلطات السياسية والتشريعية والقضائية في قبضة واحدة كان لها القوة والقدرة على تدمير مدينة حماة فوق رؤوس أهلها، في مشهد مأساوي لإنهاء آخر مظاهر المعارضة في سوريا وتدجين الشعب في مملكة الصمت والبؤس.

يشاء القدر أن يقول كلمته في سوريا ويخرج مشروع التوريث الذي أعد له الأب بعناية فائقة عما تم رسمه له بعد مقتل ابنه البكر في حادث غامض أوائل العام 1994، ليترك الأب في حالة ذهول ويترك الشعب بانتظار ما سيحمله له الوريث الجديد من تغييرات قد تمحو آثار الماضي وتفتح صفحة جديدة؛ مع شعب متسامح لم يحمل يوما حقدا أو ضغينة على أي من شعوب المنطقة بكل مشاربها وأعراقها.

بعد 11 عاما من حكم الوريث القاصر انضمت سوريا إلى قطار الشعوب المنهكة الراغبة في الولوج إلى ربيع عربي يزهر عدلا وحرية ورخاء، لكن هذا القطار تعرض إلى الكثير من الصدمات ومضت كلٌ من عرباته خارج سكتها لتبقى سوريا وشعبها الثائر على الطريق الوعر والشائك، طريق شهد كل أنواع الإثم والعدوان؛ من قصف بري وجوي، إلى هجمات كيماوية وبراميل متفجرة مملوءة بأحقاد طائفية، إلى الموت في مخيمات اللجوء بردا وجوعا وحرقا، مرورا بالموت غرقا في بحار ابتلعت أهلنا المهجرين الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت.

استمرّ قطار الثورة السورية في رحلته نحو الربيع المنشود، وسط خذلان دولي وتواطئ على قتل هذا الشعب الذي ترك وحيدا أعزل في مواجهة مليشيات طائفية ومرتزقة مأجورين تم استجلابهم هذه المرة بموافقة الوريث القاصر الذي كرر ما قام به الأب قبل أكثر من أربعة عقود ليقوم بالبيع، لكن هذه المرة بيع الوطن كاملا لمشروع فارسي مدمِّر هجّر أكثر من خمسة عشر مليونا وقتل أكثر من مليون شخص ودمر مدنا بأكملها؛ من الموصل إلى أغلبية التراب السوري.

لم تنته قصتنا ولم يدخل اليأس قلب من ركبوا قطار هذه الثورة وخاضوا غمارها وجمحوا في مغامرتها حتى الجنون، ولم يكن ذلك الجنون إلا العمل والتحضير لتحرير سوريا كلها وإنهاء حكم العائلة التي حولت سوريا من بلد كنا نتغنى بالحديث عنه كمهد الحضارات إلى أرض المخدرات.

لم تذهب قوافل الشهداء وتضحيات المعتقلين والمغيبين قسرا سدى، بل كتبت بمداد من دم سفرا خالدا يروي قصة تضحيات شعب عظيم لم يقبل أن تختزل بلاده وتاريخها العريق بعائلة احترفت الإجرام والخيانة وحكمت بمنظومة الظلم والاستبداد

لم تذهب قوافل الشهداء وتضحيات المعتقلين والمغيبين قسرا سدى، بل كتبت بمداد من دم سفرا خالدا يروي قصة تضحيات شعب عظيم لم يقبل أن تختزل بلاده وتاريخها العريق بعائلة احترفت الإجرام والخيانة وحكمت بمنظومة الظلم والاستبداد. وشهد السوريون والعالم أجمع أن قوات الثورة لم تدخل إلى دمشق الفيحاء وحلب الشهباء وحماة أبي الفداء وحمص ابن الوليد على أصوات ونيران المدافع، بل على صوت عبد الباسط الساروت وابتسامة حمزة الخطيب ومشهد انشقاق الشهيد حسين الهرموش، وغيرها من مشاهد الأبطال العظام من بنات وأبناء هذه الثورة التي كان النصر خيارها الوحيد وجزاءها الأكيد.

سوريا تعبر نحو المستقبل وكلنا تفاؤل وأمل بالشعب السوري أن ينهض من جديد وينفض عنه غبار الحرب التي دمرت حجره لكنها لم تدمر إرادته، كلنا أمل أن الشباب الذين خرجوا يوما بالباصات الخضراء وعادوا اليوم محررين لبلدهم سينتقلون مع كل أبناء شعبنا من مرحلة الثورة إلى بناء دولة المؤسسات، فهم أهلنا ونحن أهلهم، وهؤلاء الشباب أشرف من رأس المنظومة ومن معه ممن فروا وتركوا البلاد وكأنهم لم يشربوا يوما من مائها.

سوريا إلى خير بهمة أبطال التحرير وسواعد بنات وأبناء البلد جميعا، فكلنا شركاء في رحلة تأخذنا جميعا إلى ربيع مستدام يزهر فيه الياسمين والجوري من جديد، ويبقى فيه سيف بني أمية ممشوقا ومجردا من غمده يحرس أبناء الوطن جميعا يقظا متوثبا للذود عنهم وحماية ترابهم الذي عشقوه وضحوا من أجله.