ملفات وتقارير

لماذا لا يوجد دستور في "إسرائيل" وكيف تتعرقل محاولات إسقاط رئيس الحكومة؟

نجح نتنياهو في إسقاط حكومة بينيت ولابيد بدفع مسؤولة بارزة للاستقالة ما أدى إلى خسارة الأغلبية- جيتي
بقي الائتلاف اليميني المتطرف في "إسرائيل" على رأس الحكم بقيادة بنيامين نتنياهو رغم ملفات الفساد الواسعة التي تلاحقه، والاستقالات العديدة من حكومة الحرب، والاتهامات بالفشل في توقع أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وكل هذا وسط الرفض من الشارع الإسرائيلي بسبب تعطيل صفقة التبادل.

وسبق ذلك صعوبة من قبل نتنياهو نفسه عندما كان في المعارضة في إسقاط الحكومة التي كانت برئاسة نفتالي بينيت ويائير لابيد، وتحقيق حجب الثقة عنها، وقد فشل في ذلك ثلاث مرات ضمن ثلاثة مشاريع أحدها من حزب "الليكود"، والثاني من حزب "شاس" لليهود الشرقيين المتدينين، والثالث من الصهيونية الدينية، اقترحت جميعها تشكيل حكومة برئاسة بنيامين نتنياهو. 

ولم ينجح نتنياهو في إسقاط حكومة بينيت ولابيد عام 2022 من خلال الإجراءات القانونية أو تمكنه من حجب الثقة عنها، إنما باستغلال أو دفع رئيسة الائتلاف الحكومي، عيديت سيلمان (من اليمين اليهودي المتطرف) للاستقالة، الأمر الذي أفقد الحكومة الأغلبية المطلوبة (61 مقعدا من أصل 120)، وهي تشغل الآن منصب وزيرة حماية البيئة ضمن ائتلاف نتنياهو.
 
ورغم أن "إسرائيل" تقدم نفسها عالميا كالدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي يحكمها القانون وتكون السلطة دائمًا له، إلا أنها في الواقع واحدة من مجموعة صغيرة للغاية تشترك في عدم وجود دستور، وليس هذا فحسب بل إنها تبرر عدم وجوده أو العمل على صياغته بشكل ضبابي ومنقوص.  

لماذا لا يوجد دستور إسرائيلي؟
أجاب عن هذا السؤال عضو في الكنيست عام 1956، واسمه مناحيم بيغن (أصبح رئيس الوزراء في الفترة ما بين 1977 حتى 1983)، قائلا: "من يريد أن يحاول شرح سبب تفادينا لهذا العمل الدستوري، فليس أمامه خيار سوى محاولة الذهاب إلى مدينة أخرى، إلى بلد آخر، وخاصة إلى فترة أخرى في الماضي البعيد".

وأضاف: "لنتخيّل أننا في أثينا القديمة اليوم، عند تناول مشكلة الدستور سنجد موقفين، إما من موقع رجل الدولة أو الديماغوجي (مصطلح يشير إلى استراتيجية سياسية للحصول على السلطة والكسب للقوة السياسية).. الديماغوجي طالما أنه يتمتع بالأغلبية، يريد أن يضمن لنفسه يدا حرّة في البلاد، ولا يريد أن يتخيّل أنه سيكون يومًا ما أقلية".

وأضاف بيغن في ذلك الوقت أن "رجل الدولة هذا لا يريد عناصر ثابتة، إذ إنّ السلطة بالنسبة إليه كالفريسة ولا يريد أن يتركها، بينما يعرف رجل الدولة أن الأغلبية والأقلية في البلاد تتغير ومتقلّبة، كونه أقلية فإنه يقبل قانون الأغلبية، لكنه يعلم أنه يحق له المطالبة بحقوق معينة لنفسه"، بحسب ورقة صادرة عن "كلية هرتسوغ للدراسات اليهودية".

وأوضح أن "رجل الدولة هذا على استعداد لقبولهم على افتراض أنه عندما يكون في الأغلبية، فإنه سيمنح الحقوق للأقلية، هذا هو الاختلاف في ما يتعلق بالدستور بين هذين النوعين"، مشيرا إلى أن "العُطل الأساسيّ لكتابةِ الدستور، مرتبط في الحزب الحاكم، والعقليّة السياسيّة القانونيّة التي تحكمهم".

وقال: "لأننا لا نملك دستورا، ولأننا مُنعنا من تقديم وثيقة قانونية كاملة من قبل، وبعد سنوات طويلة من المناقشات وإعادة النقاش، للتحفظات والاستنتاجات والقرارات- حصلنا على قانون مجزأ، مقطوع من الكمال القانوني لقوانين الدولة، مليء بالتفاصيل غير المهمة، وفيه تفاصيل تهمها، وعلينا أن نناقش قانونًا أساسيًا يسمى "قانون الكنيست".

وقال: "ليس أمامنا إلا أن نحافظ على إطار النقاش، بعد أن قلت ما قلته، وسأقف أولا على القسم الأول من القانون المقترح. فهو يقول: الكنيست هي الهيئة التشريعية للدولة، وهذا التعريف نموذجي جدًا لمؤيدي القانون وواضعيه، ولا توجد حقيقة قانونية في هذا التعريف.. اذهبوا وانظروا في الولايات المتحدة الأمريكية.. هناك فصل بين السلطات وتم قبول هذا المبدأ، لا يمكن القول إنها مثالية، لكنها بعيدة المدى، ومع ذلك، فإنه في الدستور الأمريكي، عندما يتعلق الأمر بالجزء التشريعي، يقال في القسم الأول من ذلك الجزء: جميع الصلاحيات الدستورية الواردة في هذا الدستور تُمنح لكونغرس الولايات المتحدة".

وأضاف: "يتم التركيز على كلمة "كل"، لأنه من الواضح أن الكونغرس الأمريكي، تحت عنوان "القسم التشريعي"، يُمنح صلاحيات سن القوانين، لكنهم لم يكتفوا بذلك، بل إنهم قالوا: كل السلطات الدستورية منوطة بالكونغرس، وبهذا لا يحق لأي سلطة أخرى أن تسن القوانين".

وأشار إلى أن "الوضع مختلف معنا، ليس لدينا فصل بين السلطات بالمعنى المقبول في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي حالتنا تعتبر الحكومة لجنة عمل مختارة للكنيست، وفي بلادنا تتمتع الحكومة بسلطة سن القوانين، سواء بموجب أنظمة الطوارئ، وهي سيئة السمعة منذ زمن الحكم البريطاني، أو بموجب القانون القائم، الذي يخول للسلطة التنفيذية سن قوانين فرعية، وهذا يعني أن سلطة الكنيست وحدها في سن القوانين لا تُمنح لها، ومع ذلك، فقد اكتفى واضعو القانون بجملة بسيطة، وهي: الكنيست هي الهيئة التشريعية لدولة إسرائيل".

وأوضح بيغن أنه "ليس هناك ما هو صحيح: فالكنيست يشكل حكومة ويزيل حكومة، وفي نهاية المطاف يشرف الكنيست، أو على الأقل ينبغي عليه أن يشرف، بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال لجانه، على الحكومة وأعمالها، وبطبيعة الحال، فإن إحدى وظائف الكنيست هي سن القوانين، لكن هذا ليس دوره الوحيد، وها نحن نأتي للمرة الأولى، ونقول إن وظيفة المجلس التشريعي الوحيدة والحصرية هي سن القوانين، وهذا ليس صحيحا، وهذا لا يعبر عن الواقع، وهو بالتأكيد لا يحترم موقف الكنيست".

عقدية الاختلاف 
قال المُحاضر والباحث الإسرائيلي في مجال القانون يهوشاع سيجف، إن عدم الاتفاقّ بينَ الأحزاب والشرائح السياسيّة يميّز الحقل السياسيّ في "إسرائيل" ما يجعل من كتابة دستور، كوثيقةٍ سياسية قانونيّة عليا، أمرا مستحيلا.

ويرى في دراسة له أن سمة عدم الاتفاقّ هي الغالبة عند الإسرائيليين حاليا وفي العقود الماضية، وهي ما تعيق كتابة وتبنّي دستور، ويعكس ذلك على تاريخ الحركة الصهيونيّة وتأسيس "إسرائيل"، وأنها قامت بالأصل على عدم الاتفاق على ثلاثة أمور أساسيّة إضافة للاختلاف على معانيها وتطبيقاتها وهي: القوميّة اليهوديّة والدين اليهودي والأرض اليهودية.

واعتبر أن أيّ حسم دستوري في إحداها قد "يهدم الصهيونية بأكملها، بالإضافةِ إلى تهديد بحرب ثقافيّة ودينية بين يهود متديّنين والحريديم من جهةٍ، ويهود علمانيين وليبراليين واشتراكيين من جهة أخرى".

وأشار إلى اعتقاد البعض بأن قادة اليهود في البلاد كانوا يخشون بصدق حربًا ثقافية بين الدوائر العلمانية والدينية قد تتطور إلى مواجهة مع الأحزاب الدينية، التي قد تُعرّض مشروع "بناء الأمة" للخطر في ذلك الوقت.

وأضاف أن "البعض الآخر يعتقد أن بن غوريون توصّل ببساطة إلى استنتاج مفاده أنه سيُمنح مزيدا من المرونة الحكومية بدون دستور، وعلى أي حال كانت هذه خلافات جوهرية حالت دون اعتماد دستور مكتوب مع قيام الدولة، وأعطى كل فصيل تفسيره الخاص لما يمكن تسميته بالشروط المشروعة لدولة يهودية وديمقراطية".

وختم بالقول: "بناءً على ذلك، فإن فشل إسرائيل في تبني دستور مع قيام الدولة يتم تصويره في ضوء فئوي، واكتسبت الاعتبارات الحزبية الضيقة وقصيرة المدى وزنا كبيرا وحالت دون اعتماد الدستور، وكان كل فصيل يتطلع إلى تعزيزِ مصلحته على حساب مصلحة المجتمع ككل".

تعذر الاتفاق 
من ناحية أخرى، يرى القانوني الإسرائيلي شاؤول شاريف، في سياق الخلاف على وجود دستور وهل "قوانين الأساس" من الممكن اعتبارها قوانين دستوريّة، أن الخلاف بينَ التيّارات المختلفة اليساريّة الليبراليّة من جهة واليمينيّة الدينيّة من جهة أخرى ما زالَ يحكم المسألة الدستورية.

وأوضح شاريف، بحسب مقال نشرته صحيفة "ميكور ريشون" المرتبطة بالصهيونية الدينية واليمين الإسرائيلي، أنه "لا يوجد اتفاق في هذا السياق لأننا نستطيع أن نجد قوانين أساس سُنت على يد المدافعين عن حقوق الإنسان في عام 1992، ونجد لاحقًا قوانين أساس، سنّتها حكومات يمينيّة".

وذكر أنه بسبب ذلك يمكن تلخيص جوهر عدم الاتفاق بأنه "عند سؤال مؤيدي الثورة الدستورية الكلاسيكية في الوقت الحالي عن ما إذا كان هناك دستور إسرائيلي، فإن ردّهم يتكوّن من إجابتين؛ نعم- القوانين الأساسية التي تم سنها في عام 1992 هي دستور يمكن فيه إلغاء قوانين الكنيست".

وأضاف أن الإجابة الثانية: "بالطبع 60 لا، لأن القوانين الأساسية التي سنّت في السنوات الأخيرة (وتلك التي تمّ سنها قبل عام 1992) ليست دستورا لأنه فوقها توجد قيم أكثر أهمية، ولا يُعطى تعريفها للجمهور وممثليه بل للقضاة فقط".

وأكد أنه "هكذا اتضحّت لنا الإجابة البنيويّة عن لماذا لا يوجد دستور في إسرائيل، وهي عدم القدرة على الإجماع على المسائل الأكثر حيويّة لترتيب القضايا السياسيّة القانونية والاقتصادية والاجتماعيّة".

وبحسب دراسة سيجف، يتضح أن الحاجة إلى دستور "هي ذاتها الحاجة إلى حماية حقوق الإسرائيلي وتبني المواطنة وفقا للتقاليد والأدبيّات الليبراليّة وجاءت هذه الادعاءات على يدِ التيّارات المؤيدة لاعتماد دستور".

وقال سيجف إن "حجج اعتماد الدستور تعتمد على الحاجة إلى حماية حقوق الإنسان، لذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت حماية حقوق الإنسان، الأضحية على مذبح التعاون بينَ التيارات المختلفة، وليس فقط الدستور المكتوب والرسمي.. وقد شكّك العديد من علماء السياسة في التزام الديمقراطية البرلمانية الإسرائيلية بالقيم الليبرالية والديمقراطية".

وختم بأنه "يُنظر إلى فشل الكنيست الأول في تبنّي دستور على أنه دليل حاسم لإثبات هذا الادعاء، وعليه، فإن التكتيك الدستوري المتمثل في قرار عدم اتخاذ القرار يُصوَّر على أنه معادٍ للحريات والحقوق المدنية، وهذا وفقا للتنظيرات النقديّة على أن إسرائيل لا تستطيع بنيويًا اعتماد حقوق المواطنة الليبراليّة الحديثة، بسببِ أزمة تكمن في صُلب تأسيسها".