قضايا وآراء

الأمة بين سيف بايدن المكسور وسيف ترامب المشهور.. قراءة في المصالح والمطارح

"سواء كان ترامب أم بايدن أو أيا من كان، فعلاقة واشنطن بتل أبيب لا تقوم فقط على دوافع دينية وعقدية ولكنها تقوم على مصالح استراتيجية عليا"- جيتي
منذ فوز الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب بالانتخابات الرئاسية؛ انشغل الجميع بتحليل تأثير ذلك على العالم وخاصة منطقة الشرق الأوسط، وتركز قسم كبير من وجهات النظر هذه في تحديد حجم التأثير الذي يمكن أن يحدثه ترامب في السياسة الأمريكية الخارجية والداخلية، ومدى نجاحه في الصراع المحتمل مع الدولة العميقة والمؤسسات السيادية هناك.

وما يعنينا في هذا المقال هو تسليط الضوء على نقطة هامة فيما يخص فلسطين والشرق الأوسط، وهي أنّه سواء كان ترامب أم بايدن أو أيا من كان، فعلاقة واشنطن بتل أبيب لا تقوم فقط على دوافع دينية وعقدية -تحدثنا عنها في المقال السابق- ولكنها تقوم على مصالح استراتيجية عليا بين الطرفين تحتاج فيها واشنطن إلى وجود إسرائيل في المنطقة؛ حتى مع تغيّر أوزان هذه المصالح صعودا وهبوطا بين الحين والآخر، لكن تظلّ ثوابت هذه العلاقة قائمة وثابتة لا تتغير في المنظور القريب والمتوسط.

من يحكم الشرق الأوسط يحكم العالم

فمنطقة الشرق الأوسط هي قلب العالم كما يقول منظّرو الجيوبوليتك، لذلك حظيت باهتمام كبير من جميع الحضارات والإمبراطوريات عبر التاريخ الإنساني. والحروب الصليبية شاهد على ذلك.

لكن فيما يخص موضوعنا تحديدا، نجد محمد حسنين هيكل في كتابه "المفاوضات السرّية بين العرب وإسرائيل" 37، يقول إن "نابليون بونابرت منذ ثلاثة قرون لكي يضمن عدم التقاء الضلعين عربيا وإسلاميا -المصري والسوري- فإنه زرع عند مركز الزاوية هذه شيئا آخر لا هو عربي ولا هو إسلامي.. وهكذا تشكلت رؤية نابليون الاستراتيجية من خلال "الورقة اليهودية" التي أظهرها أمام أسوار القدس، ووُزِّعت على كل يهود العالم، تصوُّرا للمستقبل ورؤية ربما لا تتحقق بسرعة لكنها قابلة للتحقيق في مستقبل الأيام" انتهى.

لذلك ليس مستغربا أنه بعد قيام دولة الاحتلال بخمس سنوات فقط -عام 1953م- أبرمت "إسرائيل" تحالفا مع فرنسا لتعزيز الأمن في دولة الكيان، وكان أهم بنوده مساعدة تل أبيب في بناء مفاعل "ديمونا"، فضلا عن تزويد وتطوير الكيان لمنظومة صواريخ بعيدة المدى بموجب هذه الاتفاقية.

الكيان كدولة حاجزة
فكرة الحاجز بين شرق وغرب العالم العربي موطن الحضارة والإسلام كانت حاضرة في ذاكرة قادة الغرب منذ قرون طويلة، واختراع إسرائيل لم يكن إلّا الترجمة الحرفية لهذه السياسة، لذلك من التبسيط المخل والمعيب جعل التضامن الغربي الكبير الحاصل مع الكيان بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مرده فقط لقوة النفوذ الصهيوني وتأثيره في دوائر صنع القرار في الغرب، وليس لأن الكيان هو مصلحة غربية عليا

وعليه ففكرة الحاجز بين شرق وغرب العالم العربي موطن الحضارة والإسلام كانت حاضرة في ذاكرة قادة الغرب منذ قرون طويلة، واختراع إسرائيل لم يكن إلّا الترجمة الحرفية لهذه السياسة، لذلك من التبسيط المخل والمعيب جعل التضامن الغربي الكبير الحاصل مع الكيان بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مرده فقط لقوة النفوذ الصهيوني وتأثيره في دوائر صنع القرار في الغرب، وليس لأن الكيان هو مصلحة غربية عليا يجب الحفاظ عليها لضمان بقاء العرب تحت السيطرة.

أمَّة يهودية مستقلة في يهودا

على الجانب الآخر من المحيط، نجد الرئيس الأمريكي جون آدامز (1767- 1848م) يعبّر عن دعمه لعودة اليهود إلى وطنهم، في رسالة بعثها إلى صديقه الكاتب اليهودي مانويل نوح في عام 1818م، تضمنت أمنية آدامز برؤية "أمَّة يهودية مستقلة في يهودا" مرة أخرى(1)؛ لأن مَن يسيطر على هذه المنطقة يسيطر على العالم". وهنا يتكرر الحديث عن أنّ مفتاح السيطرة على العالم لا يتأتّى إلا من السيطرة على فلسطين، وبهذه يجتمع قادة الغرب على جانبيّ الأطلسي على نفس الرؤية من وجود الكيان المحتل منذ مئات السنين.

عقيدة ترومان

هذه المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة مع إسرائيل عبرت عن بعضها مبكرا مذكرة سرية لوزارة الدفاع الأمريكية في عهد ترومان، أرسلت إلى مجلس الأمن الدولي، في 16 أيار/ مايو 1949م، بعنوان "مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في إسرائيل.. أهمية إسرائيل الاستراتيجية للولايات المتحدة". وقد ركزت المذكرة على موقع إسرائيل الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ودورها في حماية المصالح النفطية الأمريكية في الخليج العربي والمنطقة الممتدة بين القاهرة والسويس(2).

شكلت هذه المذكرة السرية أساس "عقيدة ترومان" المتعلقة بدور إسرائيل الاستراتيجي، والتي حكمت العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل منذ عام 1948م وحتى اليوم، وتبناها جميع الرؤساء الأمريكيين بعد ترومان. لاحقا، اعتبرت واشنطن "إسرائيل" حليفا استراتيجيا من الدرجة الأولى، رغم عدم عضوية إسرائيل في حلف شمال الأطلسي(3).

المصالح المتبادلة بين الطرفين

بعد انتهاء الخلافة العثمانية التي كانت مظلة سياسية للأمة الإسلامية، وانتهاء حقبة الاستعمار المباشر للوطن العربي خلال العقود الأولى من القرن الماضي، وانتقال العالم إلى نظام ثنائي القطبية، تربعت واشنطن وموسكو على قيادة العالم.

في ظلال الحرب الباردة وبعد نكسة 1967 وهزيمة العرب على يد الكيان الصهيوني في فترة بسيطة، وتنديد فرنسا بالهجوم الإسرائيلي، اتجهت تلّ أبيب بكامل طاقتها إلى واشنطن وبدء الزواج الكاثوليكي بين الطرفين، بكل تأكيد كما أسلفنا كانت العلاقة بينهما تنمو قبلها بقرون، ولكن يمكن أن نقول إنّها كانت علاقات ما قبل الزواج!!

بعد النكسة وبروز تل أبيب كقوى إقليمية لا يستهان بها احتاج الغرب أكثر إلى إسرائيل ككيان وظيفي في مواجهة الاتحاد السوفييتي ولاحقا في ضمان التحكم والسيطرة على المنطقة، لتقديم مجموعة من الخدمات الحيوية للغرب عموما ولواشنطن خصوصا.

عبّر عن هذا التحول على سبيل المثال لا الحصر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، حين قال: "طبيعة النظام الإسرائيلي وتشدّده يشكلان أوراقا رادعة يمكن استغلالها"، كذلك جوزيف شوربا، وهو مستشار للرئيس ريغن، حين قال "إسرائيل منذ تأسيسها أدّت دور مانع صواعق، يُبعد اهتمام الراديكاليين بعيدا عنا".

ولماذا نذهب بعيدا والرئيس الأمريكي الحالي بايدن هو الذي كرر أكثر من مرة "لو لم تكن هناك إسرائيل لاخترعناها" للتدليل على أهميتها الاستراتيجية لواشنطن!

المصالح الاستراتيجية بين الطرفين

تمثلت هذه المصالح الاستراتيجية بين الطرفين في عدة نقاط مهمة هي:

1- الحفاظ على الممرات المائية الحيوية (قناة السويس، وباب المندب) التي تمثل شريان حياة للغرب، لأن معظم صادرات النفط تأتي من قبلها، فضلا عن التجارة العالمية مع الشرق الأدنى.

العلاقات الأمريكية الصهيونية هي أكبر من تغيير رئيس بآخر، وأن ما ننتظره من ترامب هو ذاته ما سننتظره من كامالا هاريس إن كانت هي الناجحة، فلا فارق في السيناريو، ولكن فقط في طريقة الإخراج والديكور المستخدم ومساحيق التجميل من حقوق الإنسان والديمقراطية ونحو ذلك

2- ضمان السيطرة على مصادر النفط في الخليج العربي، لأن مَن يسيطر على مصادر النفط يسيطر على العالم وقتها.

3- إنهاك وإلهاء المحيط العربي بالكيان الصهيوني، واستنزاف موارده في الصراع العربي الإسرائيلي، مما يجعله في حالة تخلف وتبعية دائمة لتحالف (واشنطن- تلّ أبيب).

4- استخدام إسرائيل كقاعدة أمريكية متقدمة في الشرق الأوسط، لردع وتحجيم النفوذ السوفييتي سابقا والروسي والصيني حاليا.

5- ضمان وجود قوي للنفوذ الأمريكي من خلال إسرائيل بالقرب من سواحل البحر المتوسط، لما يمثله ذلك من أهمية استراتيجية كبيرة؛ فهو البحر الذي يعتبر ملتقى ثلاث قارات، ويمثل المجال الحيوي الأهم للأمن القومي الأمريكي، فضلا عن اعتبار إسرائيل ذاتها أداة تأمين وحماية للأسطول الأمريكي المرابض بشكل دائم في البحر المتوسط.

وبذلك يتضح من خلال هذه الإطلالة السريعة الموجزة على أنّ العلاقات الأمريكية الصهيونية هي أكبر من تغيير رئيس بآخر، وأن ما ننتظره من ترامب هو ذاته ما سننتظره من كامالا هاريس إن كانت هي الناجحة، فلا فارق في السيناريو، ولكن فقط في طريقة الإخراج والديكور المستخدم ومساحيق التجميل من حقوق الإنسان والديمقراطية ونحو ذلك.

مطارح الدماء

لكن ما يحزنني ويوجع قلبي حقيقة هي أن مشكلتنا كأمة -إلا من رحم ربي- أننا نعيش حاليا كأيام غزو التتار، حين كان الجندي التتاري ينكسر سيفه من كثرة القتل في المسلمين، فيطلب من المسلم أن يقف مكانه وينتظره محني الرأس حتى يذهب ويحضر سيفا آخر ليقتله به، فيظل المسلم المهزوم نفسيا ينتظر في مكانه حتى يأتي الجندي بسيف جديد فيطرحه أرضا ويقتله دون أن يحرك ساكنا.

بل نقل ابن الأثير أن الجندي الواحد من المغول كان يقف أمامه مئة مسلم مستسلمين للذبح على يديه، فيطرحهم على وجوههم للذبح ولا يفكر واحد فيهم في مقاومته حتّى ينتهي منهم جميعا!!

حاليا نحن -إلا نقاط مضيئة في فلسطين وهنا أو هناك- نشاهد وننتظر أن يتغير سيف بايدن المكسور بسيف ترامب الجديد ليتم الذبح!! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

--------------
(1) إسرائيل وأمريكا من الرصيد إلى العبء الاستراتيجي، د. هيثم مزاحم، مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية.
(2) "مستقبل العلاقات بين إسرائيل والغرب بعد طوفان الأقصى"، ممدوح المنيّر، شباط/ فبراير ٢٠٢٤.
(3) العلاقات الإسرائيلية- الأمريكية: النشأة والمستقبل، عماد أبو عوّاد.

* للنقاش حول المقال:
x.com/Mamdouh_Almonir
t.me/Mamdouh_Almoner
facebook.com/@Mamdouh.Almonir