مدونات

حُداء الخالدين.. من ابن الأكوع إلى الساروت وأبو قينص

عبد الباسط الساروت- إكس
عندما وصلني قبل أعوام خبر استشهاد منشد الثورة السورية عبد الباسط الساروت أصابني غمٌّ شديد وحزنٌ عميق؛ لقد كانت أناشيدُه الثورية ذاتَ أثرٍ كبيرٍ في إلهاب الحماس بكلماتها القوية وبأدائه الصادق المواكب لأحداث الثورة.. والآن أصابني الغم والحزن ذاته لاستشهاد منشد الشهداء حمزة أبو قينص في غزة؛ لقد كانت أناشيده ومرثياته من أروع ما قيل في رثاء الشهداء، وقد زادها تأثيرا صوتُه الشجي وأداؤه المتناسب مع مقام الرثاء. وفي كلا المرتين اندفعت أمامي قصة الصحابي الكريم عامر بن الأكوع رضي الله عنه، فما قصة ابن الأكوع؟

يروي لنا سلمةُ بن الأكوع قصةَ عمّه عامر رضي الله عنهما فيقول: "خَرَجْنا مع رَسولِ اللهِ ﷺ إلى خَيْبَرَ، فَتَسَيَّرْنا لَيْلا، فَقالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ لِعامِرِ بنِ الأكْوَعِ: أَلا تُسْمِعُنا مِن هُنَيْهاتِكَ، وَكانَ عامِرٌ رَجُلا شاعِرا، فَنَزَلَ يَحْدُو بالقَوْمِ يقولُ:

اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ ما اهْتَدَيْنا
وَلا تَصَدَّقْنا وَلا صَلَّيْنا
فاغْفِرْ فِداء لكَ ما اقْتَفَيْنا
وَثَبِّتِ الأقْدامَ إنْ لاقَيْنا
وَأَلْقِيَنْ سَكِينَة عَلَيْنا
إنّا إذا صِيحَ بنا أَتَيْنا
وَبِالصِّياحِ عَوَّلُوا عَلَيْنا

فَقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: مَن هذا السّائِقُ؟ قالوا: عامِرٌ، قالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، فَقالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: وَجَبَتْ يا رَسولَ اللهِ، لَوْلا أَمْتَعْتَنا به. قال: فأُصيب، فقُتِلَ يومَ خيبر شهيدا".

اسمع للساروت يطوف في أراجيزه بين المدن السورية ويعدِّد مآثرها واحدة واحدة، وأنصت لأبي قينص ينشد لشهداء غزة والضفة والأرض المحتلة، ويؤكد في قصائده على ميراث الشهداء وعهد الأحياء لهم على الثأر ومواصلة الطريق

لقد حبا الله تعالى عامرَ بن الأكوع موهبة مميزة تتمثل بصوته الندي وقدرته على ارتجال الأراجيز التي تناسب الحدث، وقد كان صوتُه في المعركة مؤثرا بصورةٍ جليةٍ في رفع معنويات الجيش وبثِّ الحماسة فيه. ولم تكن تلك الموهبة مجرد أداة تسلية وترفيه، بل كان لها أبعاد أكبر وآثار أعمق في نفوس الجنود ضمن ميدان المعركة. وقد فهم عمر رضي الله عنه -كما في بعض الروايات- أن النشيد المحفِّز والصوت الشجي أحدُ متطلبات المعركة، وعرف أهميته في رفع معنويات الجند بين يدي الاستعداد للقتال، وهو ما دفعه ليقول: لولا أمتعتنا به يا رسول الله، أي: لولا أبقيته لنا ننتفع بدوره المهم. ثم إن هذه الهنيهات التي كانت مطلبا شعبيا في تلك الأمسية، إنما تعبِّر عن حاجةٍ فطريةٍ في النفوس، لا بد من ملئها وتلبيتها لا سيما في تغطية الأحداث وحشد التأييد وتعبئة الجماهير، وبصورة مكثفة زمن الحرب والاستنفار. وهذا ما جال في خاطري عندما بدأت تصل أخبار استشهاد الساروت وأبو قينص: يا رب لولا أمتعتنا به، رجاءَ أن يبقيهما الله ليكملا رسالتهما، ويتابعا دورهما الأساسي في التسلية والترفيه وفي التحشيد والتحميس.

وقد جمع ابن الأكوع رضي الله عنه إلى حدائه الماتع مهارتَه القتالية وشجاعته العسكرية وانخراطه المباشر، وهذا بُعدٌ إضافي في التأثير، فكلمات الحداء المليئة بالقيم العالية والمعاني السامية يتضاعف تأثيرها حين يتمثَّلُها صاحبها ويعيشها في واقعه؛ فالشجاعة والشهادة والتضحية والثبات والفخر والأخوة وبذل النفس وحب الوطن وغيرها من القيم.. تبقى مجردة في عالم الأفكار حتى يراها الناس في صورٍ واقعيةٍ تتجلى في الحياة العملية، فكيف إذا كان صاحبها يؤديها بروحه وشجنه ويسقيها من جرحه ودمه؟! اليوم نحن نسمع كلمات الساروت وأبو قينص بطعمٍ جديد وأثرٍ أعمق.

كما أنَّ للنشيد أيضا دورا جليّا في توحيد الصف أثناء التحريض والاستعداد لمواجهة العدو، مما يعزز الهوية الجماعية ويذيب الخلافات بين الجنود لا سيما إذا تضمَّن الحداء تلك المعاني التي تزيد الألفة وتعمّق التآخي.. اسمع للساروت يطوف في أراجيزه بين المدن السورية ويعدِّد مآثرها واحدة واحدة، وأنصت لأبي قينص ينشد لشهداء غزة والضفة والأرض المحتلة، ويؤكد في قصائده على ميراث الشهداء وعهد الأحياء لهم على الثأر ومواصلة الطريق.

الشعر والنشيد يساهمان في صياغة الوعي وصناعة الرأي العام، فهما أداة فعالة في التعبير عن المشاعر العميقة والقضايا الدينية والوطنية والاجتماعية، وهو ما يمكن -حين يلتحم مع الثقافة والقضايا الساخنة- أن يتحوَّل إلى جزءٍ من المكونات الشخصية للجيل، بل يصبح في مرحلة من المراحل مصدرا للمعرفة والتراث، وبذلك تصبح مثل هذه الشخصيات جزءا أساسيا من الهوية الجماعية والتراث الثقافي

ومن جانب آخر فإنَّ الشعر والنشيد يساهمان في صياغة الوعي وصناعة الرأي العام، فهما أداة فعالة في التعبير عن المشاعر العميقة والقضايا الدينية والوطنية والاجتماعية، وهو ما يمكن -حين يلتحم مع الثقافة والقضايا الساخنة- أن يتحوَّل إلى جزءٍ من المكونات الشخصية للجيل، بل يصبح في مرحلة من المراحل مصدرا للمعرفة والتراث، وبذلك تصبح مثل هذه الشخصيات جزءا أساسيا من الهوية الجماعية والتراث الثقافي. لذا فإنَّ هؤلاء المؤثرين من خلال إنشادهم للشعر، يساهمون في تشكيل الرأي العام وتكوين الآراء حول القضايا الساخنة، مما يمكنهم من التأثير على توجهات المجتمع وتبنيه لمختلف الأفكار والخيارات، فضلا عن كون تأثيرهم هذا لا يقتصر على زمانهم، بل يمتد إلى الأجيال اللاحقة التي تتوارث أشعارهم وكلماتهم، وفي عصر التكنولوجيا تتناقل أصواتهم وأسلوبهم.

وهذا النوعُ من المؤثرين لا يلبث أن يتحول إلى أيقونة شعبية تجسِّد أحدَ أصناف القدوة التي تتعلق بها الأجيال، ويشكل بالنسبة إليها إلهاما معنويا، وحافزا للعمل ومواجهة التحديات، وعنصرا مهما في تعميق الوعي والانتماء. وهذا يمكن أن ندركه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: من السائق؟ أي الحادي، وَفِي الحديث: كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ في بَعْضِ أَسْفارِهِ، وَغُلامٌ أَسْوَدُ يُقالُ له: أَنْجَشَةُ يَحْدُو، فَقالَ له رَسولُ اللهِ ﷺ: يا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقا بالقَوارِير، ومعنى ذلك كما جاء في لسان العرب: أَي: حادٍ يَحْدُو الإِبلَ فَهُوَ يسُوقهن بحُدائِه، ‌وسَوَّاق ‌الإِبل يَقْدُمُها.

ولهذا وجب أن يتصدَّى صاحبُ الرسالة في ممارسة هذا الدور سوقا بالأجيال، فيحدو للقيم الإسلامية والمعاني الإيمانية والأخلاق القرآنية. وهذا هو أبرز الدروس التي نستلهمها من هذه الشخصيات، وأنه لا بدَّ لصاحب القضية أن يفعّل دوره الرسالي، ويكتشف ما أودعه الله فيه من المواهب والقدرات، والمزايا والطاقات، وأن يسعى في توظيفها بإتقان وإبداع في حياته العملية لخدمة دينه ودعم قضيته، فلكلٍ ثغرُه الذي أقامه الله فيه، وبابُه الذي يجب أن يلجَ منه، وبهذا تتكامل الجهود وتوظَّف الإمكانات: "یَـٰبَنِیَّ لَا تَدۡخُلُوا۟ مِنۢ بَابࣲ وَاحِدࣲ وَٱدۡخُلُوا۟ مِنۡ أَبۡوَا⁠بࣲ مُّتَفَرِّقَةࣲۖ وَمَاۤ أُغۡنِی عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَیۡءٍۖ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَیۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَیۡهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ" (يوسف: ٦٧).