مدونات

استشهاد السنوار: نحو رؤية أكثر اتزانا

"شكل استشهاد السنوار علامة فارقة في مسيرة المقاومة الفلسطينية"- جيتي
أصاب أغلب أنصار القضية حزن بالغ بعد استشهاد يحيى السنوار رحمه الله. والملاحظ هنا هو حالة التذبذب الانفعالي عند كثيرين؛ ساد الفرح عند الضربة الإيرانية في نيسان/ أبريل الماضي، ثم حزن كثيرون بعد استشهاد إسماعيل هنية، وفرحوا بعدما بدأ حزب الله بضرب العمق الاستيطاني للكيان، ثم أصيبوا بحزن شديد بعد استشهاد الشيخ حسن نصر الله رحمه الله، ثم سعدوا مع تطور القتال على الجبهة اللبنانية وضربة إيران القوية للكيان في تشرين، ثم حزنوا لاستشهاد السنوار. هذا التذبذب إنما يشير لنقطة هامة، وهي أننا في العموم لا ندرك طبيعة المعركة الدائرة حولنا.

حرب التحرير، أي حرب تحرير، تجري بين قوة ضعيفة عسكرية تتمتع بحاضنة شعبية، وبين جيش محتل أقوى عسكريا بكثير. الجيش المحتل معه العدد، والإمكانيات، وتسليح بكميات كبيرة، وخزائن مال شديدة الضخامة بالنسبة لقدرات المقاومة. والأهم أنه قد يكون مدعوما دوليا أو ملك قدرا من القوة بحيث يمكنه رشوة أو تحييد من بإمكانهم مساعدة المقاومة. كل حركات المقاومة التي رأيناها مرت بهذا المسار، حيث مرت به فيتنام والجزائر وأفغانستان والعراق وحاليا تمر به فلسطين.

وحيث أن هذا هو الوضع، فليس من الحكمة أن نكون بهذا القدر من الانفعالية. الخسائر في طرف المقاومة طبيعي أن تكون أكبر بكثير من الخسائر في الطرف المستعمر. الوضع لخصه هنري كيسنجر في مقولته الشهيرة "تنتصر المقاومة إذا لم يُقض عليها، ويُهزم الجيش إذا لم يسحق المقاومة". والناظر لسجل المقاومة الفلسطينية يرى بوضوح أن الكيان ارتكب عددا ضخما من عمليات الاغتيال ضد أعدائه ومن يقاومه، فهل انتصر؟ هل قضى على المقاومة؟ هل تمكن من فرض سيطرته بقوة السلاح؟ لا، الكيان كما نرى جميعا في حالة لم يمر بمثلها في تاريخه، نظرة احتقار سائدة من المجتمع الدولي حتى داخل الدول الغربية، مظاهرات مستمرة تعارض جرائمه وتندد بها، حتى على المستوى العسكري، خسائر ضخمة على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية بدون تغيير حقيقي للأوضاع على الأرض.

لنحاول فقط إحصاء خسائر الكيان منذ السابع من تشرين العام الماضي:

1- فقدان الردع.

2- القتال على أكثر من جبهة، بدون تحقيق نصر حاسم على أي منها بعد مرور أكثر من سنة

3- فقدان عدد كبير من القوات والقيادات، منهم من ذوي الرتب العليا بالجيش.

4- خسارة سمعة استخبارات الكيان (وستحتاج فترة زمنية طويلة لاستعادتها إن فعلت).

5- نهاية فكرة أن الكيان دولة متحضرة بين مجموعة من العرب الهمج، وأنه مكان آمن لليهود.

6- فقدان الدعم الشعبي الغربي للكيان بصورة واضحة وحاسمة.

7- خسائر اقتصادية لا حصر لها، منها خسارة النشاط الزراعي بالشمال، وأغلب النشاط الزراعي بالجنوب حول غزة، وانخفاض التصنيف الائتماني للكيان.

كل هذه الخسائر وغيرها كثير تعرض لها الكيان منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ولم يستطع حتى الآن التعامل معها أو تغيير حقيقة ما يحدث. حتى الدول الكبرى التي كانت تؤيد الكيان بصورة واضحة لم يعد بوسعها أن تستمر في تقديم "شيك على بياض" للكيان. وبالطبع، فإن الغضب الشعبي العارم من جرائم الكيان يجعل تأييدها تأييدا مفتوحا مسألة غير يسيرة.

حين نضع كل هذه الخسائر التي تعرض لها الكيان، نرى أن منحنى المقاومة في صعود، ومنحنى الكيان في هبوط، ويأتي السؤال: لماذا يصيب كثير منا اليأس والإحباط جراء استشهاد بعض القادة؟

حين نضع كل هذه الخسائر التي تعرض لها الكيان، نرى أن منحنى المقاومة في صعود، ومنحنى الكيان في هبوط، ويأتي السؤال: لماذا يصيب كثير منا اليأس والإحباط جراء استشهاد بعض القادة؟

إن المقاومة الفلسطينية المسلحة إنما تتعامل مع عدو مجرم، فاق في إجرامه إجرام قوى استعمارية أكبر منه وأخطر، ويتحرك بدون أي مانع أو وازع أخلاقي أو سياسي أو حتى دبلوماسي. ورغم كل هذا الميل في ميزان القوى لصالح الكيان، إلا أنه تعرض لضربات وهزائم مذلة باستمرار منذ بدء الحرب. فهل كنا نتوقع غير هذا؟

لقد شكل استشهاد السنوار علامة فارقة في مسيرة المقاومة الفلسطينية، فكما رسمت صور تشي غيفارا على قمصان الشباب في فترة ما، فإن صور السنوار رحمه الله ستظل على ملابس وفي قلوب ملايين حول العالم لسنوات قادمة. إن عمق الخسارة الإعلامية للكيان التي نتجت عن إذاعة خبر استشهاد السنوار ستظل تلاحقه لفترة طويلة، لقد خسر الكيان الكثير من سمعته، وارتفعت شعبية المقاومة الفلسطينية بين القوى اليسارية والتحررية في العالم بعد إذاعة فيديو اللحظات الأخيرة للسنوار وقذفه بالعصا الخشبية على طائرة الدرون.. ما رأيناه عند وفاة الرجل كان أبلغ من أي خطاب.

"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".. صدق الله العظيم.