كتاب عربي 21

الثبات والصبر والبراجماتية.. واجب الوقت

"استمرار النزيف اللبناني والفلسطيني واستمرار الحصار والمجاعة لسكان غزة"- جيتي
استفاد الإعلام العربي المتصهين من الانتكاسات التي حدثت لحزب اللبناني الشهر الماضي، وأخذ في بث روح اليأس والانهزامية في نفوس الجمهور العربي، زاعما قدرة إسرائيل على الوصول إلى أي منطقة في الشرق الأوسط، مرددا مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي، ولم يخجل لأن تلك المقولة تؤكد عجز جيوش الدول الممولة لتلك الوسائل الإعلامية عن التصدي لإسرائيل، رغم ما تمتلكه من أسلحة وأفراد وما تحصل عليه من ميزانيات، كما يؤكد ذلك بنفس الوقت انبطاح تلك النظم والجيوش أمام جيش الاحتلال، وتماهيها مع العدوان الإسرائيلي على فلسطين ولبنان.

وتوسعت تلك الوسائل الإعلامية الممولة من السعودية والإمارات وطوائف لبنانية إلى جانب قنوات خاصة مصرية، وما يسمون بالكُتّاب والمفكرين العرب المناصرين للتطبيع، ومعهم الذباب الإلكتروني التابع لأجهزة صهيونية وعربية، في بث الفتنة والشقاق بالطعن في إيران وفي حزب الله وقياداته، ولم تكترث -مثل النظم الممولة لها- باستمرار النزيف اللبناني والفلسطيني، واستمرار الحصار والمجاعة لسكان غزة، أملا في تحقق المسعى الإسرائيلي لإحداث الوقيعة بين سكان غزة والمقاومة، مع طول أمد الحرب وغياب الحديث عن مفاوضات لوقف إطلاق النار، وانشغال الإدارة الأمريكية بالاستعدادات للانتخابات الرئاسية ومواجهة خسائر إعصار فلوريدا.

لكن الصورة ليست قاتمة كما يروج هؤلاء، فقد مر عام كامل ولم تحقق إسرائيل أهدافها المُعلنة، في القضاء على المقاومة الفلسطينية أو تحرير أسراها، أو تهجير سكان غزة أو إعادة سكان مستوطنات غلاف غزة أو مستوطنات الشمال الإسرائيلي إليها، واتساقا مع الآية الكريمة "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فحال المقاومة اللبنانية في الشهر الحالي من حيث الطعنات التي وُجهت إليها، يختلف عما كان في الشهر السابق بالثبات أمام محاولات الغزو البري، والتخلي الجزئي عن قواعد الاشتباك ووصول صواريخها ومُسيّراتها إلى مدن إسرائيلية ما بين حيفا وطبريا وحتى تل أبيب.

تراجع النمو والسياحة والتجارة الإسرائيلية

وها هي عمليات المقاومة الفلسطينية في غزة مستمرة في إلحاق الخسائر بالعدو بالأفراد والمعدات، وما زالت حالة الاستنفار في الضفة الغربية مستمرة، وشهدنا عمليات في الداخل الإسرائيلي كان آخرها في حيفا وبئر سبع، وقامت إيران بإطلاق عشرات الصواريخ على قواعد عسكرية إسرائيلية، وما زالت عمليات الحوثيين والمقاومة العراقية مستمرة، فحتى وإن كانت قليلة الأثر الحربى إلا أن أثرها المعنوي على سكان إسرائيل كبير، بأثرها على مزاعم الأمن والأمان التي تتمتع بها إسرائيل، والتي يتم استخدامها لجذب مهاجرين جدد ومستثمرين أجانب، ورافق ذلك تراجع التصنيف الائتماني لإسرائيل من قبل وكالات التصنيف الرئيسية أكثر من مرة.

مع الأخذ في الاعتبار التكتم الإسرائيلي على أعداد الضحايا للعمليات العسكرية سواء في غزة أو لبنان، أو نتيجة صواريخ الحوثيين أو المقاومة العراقية أو الصواريخ الإيرانية، وترويج الإعلام الغربي للرواية الإسرائيلية عن الأحداث الحربية، لكن تراجع التجارة عبر ميناء إيلات بسبب عمليات الحوثيين شاهد عملي على تأثير العمليات، كما أن تراجع السياحة الواصلة لإسرائيل بنسب عالية شاهد آخر على غياب الأمان، كذلك تراجع التجارة الخارجية الإسرائيلية حسب البيانات الإسرائيلية وتراجع معدلات النمو وزيادة العجز بالموازنة.

ومن المهم سد بعض الثغرات التي ينفذ من خلالها الإعلام العربي المتصهين، وأبرزها قضية العلاقة بإيران بإعتبار أنها دولة لها أجندة خاصة وتتدخل لمساندة المقاومة لتحقيق مصالحها الذاتية، وهنا نتساءل: وهل هناك دولة كبرى أو إقليمية بالعالم تساعد غيرها دون أن ترتبط تلك المعونات بتحقيق مصالحها الذاتية؟ حيث ترتبط جميع أنواع المعونات التي تقدمها الدول الغربية لدول العالم بلا استثناء بتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية والحربية، حتى الصين وروسيا وغيرها لا تقدم أية معونات غير مرتبطة بتحقيق مصالحها بالدولة متلقية للمعونات أيا كان نوعها؛ إنسانية أو طبية أو غذائية أو مالية أو فنية أو حربية.

ولدينا بالفقه مبدأ الضرورات تبيح المحظورات، من خلال الآية الكريمة "وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه" (الأنعام: 119)، والآية "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" (البقرة: 173).

فقه الضرورة وسد باب الفتن

ومن هنا يجب التعامل مع الواقع العملي سواء كان من جانب إيران أو غيرها، حيث ألجأت الضرورة حركتي حماس والجهاد لقبول العون من إيران وهما تدركان مصالحها، ونفس الأمر ينطبق على قبول حماس مساعدات من النظام السورى رغم ما تعرفه عما ألحقه بالشعب السورى من مجازر وإبادة، بدافع الاضطرار والحاجة، في ظل امتناع غالبية الدول العربية والإسلامية عن مساعدتها، إن لم يكن كثير منها تنسق مع إسرائيل والدول الغربية للقضاء عليها. وهكذا سعت حماس للحصول على أسلحة روسية وهي تدرك مطامع روسيا في المنطقة وعلاقتها الوثيقة بإسرائيل والمجازر التي ارتكبتها في سوريا ضد الشعب السوري وأهدافها في طول أمد الحرب في غزة، لصرف التركيز الدولي على حربها في أوكرانيا.

وقبلت حماس دعوة الصين للصلح بين الفصائل الفلسطينية، وهي تدرك مصالح الصين في استمرار الحرب في غزة، سعيا لتوريط الولايات المتحدة بالانغماس بشكل أكبر فيها، بما يقلل من تركيزها على الخلافات مع الصين سواء حول تايوان أو الحرب التجارية، وما تقوم به من عنف تجاه مسلمي الإيغور.

كما أن حماس منفتحة للحوار مع السلطة الفلسطينية رغم التنسيق الأمني للسلطة مع إسرائيل، ورغم طعنها للمقاومة أكثر من مرة وعدم الثقة في نواياها تجاه حماس.

بل إن حماس تتعامل مع النظام المصري خلال مفاوضات السعي لوقف إطلاق النار، وهي تعلم كراهية النظام المصري لها وتنسيقه مع إسرائيل للقضاء عليها، لكنها مضطرة للتعامل معه لحاجتها لاحتمال سماحه بدخول بعض المساعدات الإنسانية والغذائية أحيانا، لتخفيف المعاناة عن شعبها، واحتمال سماحه بخروج بعض الجرحى والمرضى للعلاج في الخارج عبر منفذ رفح أحيانا.

وهكذا يمكن انطباق تلك المواقف البراجماتية في التعامل مع كل من إيران وحزب الله والحوثيين والمقاومة العراقية، وإغلاق باب الفتنه بين السنة والشيعة التي تثيرها الجهات الغربية والصهيونية والعربية المتصهينة بلا كلل، طالما أن هناك معركة مستمرة وعدو مشترك يسعى للقضاء على الجميع، مدعوم حربيا وماليا وسياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا ومخابراتيا من قبل الدول الغربية، التي تحرص على تفوقه عسكريا على القدرات العسكرية لأية دولة عربية.

وكان من أبرز نتائج طوفان الأقصى والعدوان الحالي على لبنان، وضوح مدى الدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل، وانقسام الأنظمة العربية ما بين متواطئ ضد المقاومة أو متخاذل عن أداء أي دور ولو بتقديم الغذاء والدواء، والدور الشكلي للمنظمات والمحاكم الدولية، والانحياز الإعلامي الغربي، وصمت منظمات حقوق الإنسان عن عمليات الإبادة الجماعية، بل وتمرير الدول الغربية الاعتداء الإسرائيلي على قوات اليونيفيل في لبنان طالما أن الجنديين الجريحين من إندونيسيا المسلمة.

تسلط الأنظمة العربية لا يبرر التقاعس

لكن كل ذلك لا يعني اليأس والقنوط، فكل تلك المواقف الغربية المنحازة والمتواطئة كانت موجودة منذ سنوات طويلة، لكننا كنا نتغاضى عنها ونخدع أنفسنا بدعاوى الصداقة والمصالح المشتركة، وهذه المواقف العربية المتواطئة والمتخاذلة موجودة منذ سنوات طويلة لكننا كنا نتعلق بسراب المساندة العربية، مما يعني أهمية حساب الأمور حسب حقيقتها مهما كانت مؤلمة وفاضحة، وهي الحقائق التي كانت حماس والمقاومة تدركها ورغم ذلك قامت بطوفان الأقصى.

لذا تصبح مهمة الأفراد والتجمعات العربية التركيز على اتخاذ المواقف العملية لمساندة المقاومة، والتي تعني في نفس الوقت الحفاظ على مصالح شعوبها أيضا، ومن ذلك كشف وفضح دسائس الصهاينة العرب حكاما وإعلاما وكتابا ومدونين، والاستمرار في مقاطعة سلع وخدمات الشركات الدولية المؤيدة لإسرائيل، والذي من شأنه كحد أدنى ترسيخ ثقافة المقاطعة والتربية الفردية عليها كإحدى وسائل المقاومة.

كذلك السعي لإيصال المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة المحاصرين بكل الوسائل بما فيها التهريب، والسعي لتغيير النظم الحاكمة الساعية لتقزيم بلداننا لصالح إسرائيل، ونشر الثقافة الإلكترونية والتكنولوجية التي تقلل من مخاطر استخدام أجهزة الاتصالات، وتوجيه الكوادر إلى التفوق  في المجالات التكنولوجية المتقدمة باعتبارها وسيلة الصراع المستقبلي، دون أن نبرر تقاعسنا بسطوة النظم الديكتاتورية العميلة وبغياب الحريات وانتشار الفقر والبطالة والغلاء والحروب الأهلية في بلادنا، وإدراك أن الصراع طويل وممتد ومن الطبيعي أن يشهد مساره بعض الإخفاقات والانكسارات.

لكن ذلك لا يثنينا عن الثبات والصبر والأمل، وأن ما لا نستطيع الوصول إليه بالضربة القاضية يمكن الوصول إليه عبر الفوز بالنقاط، من خلال استنزاف العدو وفضحه وزيادة عوامل تفككه، ورفع معدلات الهجرة العكسية مع استمرار حالة الحرب التي لا يستطيع العيش فيها لمدد طويلة، لتكون إسرائيل بلدا طاردا، وأنه إذا لم نشهد تحقق النصر في حياتنا، نكون قد بذلنا ما في وسعنا من أجل القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى ومن أجل بلادنا المستهدفة جميعا من قبل الاستراتيجية الإسرائيلية للمنطقة، ليكون ذلك الثبات والصمود والأفعال شاهدا لنا أمام الله وأمام أنفسنا وميراثا نورثه للأجيال القادمة.

x.com/mamdouh_alwaly