أمعن
في السّير بدءا من منتصف الليل بهمّة متقدة عالية وعزم من حديد، خرج من ضجيج
الحياة وأضوائها إلى ليل الجبل البهيم، صار وحيدا مع الليل، كم هو عاشق لهذه
الصحبة العزيزة، فضاؤك مفتوح على ملك السماوات والأرض، هناك خنقوا لك فضاءك وجعلوك
في سجن ضيّق بليد وحشروا معك نفر من الناس، كلّ يغنّي على مأساته ويعزف لحنه
الحزين، لتختلط الأحزان مع الأشواق والحنين فتفجر بركانا من ألم. كان شريط ذاكرته
الذي امتدّ على مساحة ستة شهور زمنية قريبة قضاها في سجونهم يلحّ عليه إلحاحا
شديدا:
"راسك
لتحت" أكثر عبارة خرقت رأسي، ممنوع أن ترفع رأسك، عليك أن تسير كما الدابّة
رأسها للأرض، إذا اضطررت للخروج إلى المحكمة أو للعيادة أو للنقل من غرفة أو قسم
أو سجن، طبعا دون أن يخبروك إلى أين هذا السفر البغيض، فستسمع هذه العبارة: "رأسك
لتحت"، والويل لهذا الرأس إن ارتفع أو رفع بصره إلى أعلى ولو قليلا، ستغامر
حينها بحياتك، ستلعب العصيّ على رأسك، وسيدعس الشداد الغلاظ في بطنك، قد تنجو منها
وقد تصبح شهيدا. وقد تُكسر أضلاع من صدرك فتعود لزنزانتك مهيضا أو كسيحا موجوعا لا
تحظى بحبة مسكّن أو أكمول لتُهدئ من روع آلامك.
حبسة
من ستة شهور بعد معركة طوفان الأقصى كانت له بمثابة ستين سنة، تلقى إبراهيم ابن
الثلاثين خريفا عاشها في كنف
الاحتلال الصهيوني البغيض كل صنوف التنكيل والمهانة،
ذاق من أشكالها وألوانها ما لم يخطر على بال أوسع الناس خيالا. حُبس عدة مرّات
كانت تمرّ خفيفة يسيرة، أمّا هذه الحبسة فكانت ثقيلة ثقل الجبال، عسيرة عسر
الشدائد العاتية، كسروا ريشا في صدره عندما انقضّوا عليه وهو مكبّل من يديه
وقدميه، لأنه لم يخفض رأسه عندما نعق عليه أحدهم: "راسك لتحت". وجهه
الحنطي الأسمر الناعم أصبح أزرقا كالحا شقّت به الأخاديد طريقا لها، طارت من
أسنانه ثناياها وانهدل جبينه عن إحدى عينيه، أربعة شهور مرّت وهو غارق بآلامه، ثم
بدأت الأوجاع أحيانا تهجع أو تأخذ لها قسطا من الراحة فتأخذه سنة من النوم.
كان
هناك ضابط يصدر التوجيهات اللعينة وأوامر
التعذيب الفاشية، يحمل سحنة الرجل الأبيض
بكل ما تحمل من عنصرية بغيضة، كان إبراهيم يراه يجمع كل قوى الشر الذي ذكرها
التاريخ في رجل واحد، مركّب تختلط في تركيبته كل قوى التوحّش والإجرام من
الصهيونية وحتى النازية والأمريكية والصليبية والمغولية وو.. إحدى مرّات القمع بعد
تكسير كلّ من في القسم وإسالة الدماء العزيزة في ساحة القسم، لم يعد هناك لإبراهيم
ما يخسره، كان هذا الضابط يقف متفرّجا على ما تفعله قواته الباسلة، ينظر بعيون
شامتة، يودّ لو يحقّق أعلى درجات المتعة فيما يرى ويشاهد كأنّه في حفل عرس لأعزّ
أحبابه، أراد المزيد من المتعة فأشار إلى جنده أن يدفعوا له إبراهيم صاحبنا إليه.
عق
بسخرية واستعراض:
- سمحت لك أن
ترفع رأسك، قل لي ما رأيك فيما فعلته حماس؟
نظر
أبراهيم إليه شزرا بطرف عينيه وهتف بنبرة هادئة:
- فعلت ما يجب أن يُفعل مع الاحتلال.
- ولكنها قتلت واغتصبت نساء وأطفال؟
- هذا وفق دعايتكم الكاذبة، لم يثبته أحد، أمّا ما هو
مثبت ما يفعله جيشكم فينا من نكبة 48 إلى غزة هذه الأيام، كم مجزرة فعلتم؟
- المشكلة فيكم، تعرف المثل العربي "الكف لا
يناطح مخرز"؟ أنتم مصرّون على مناطحة المخرز، مخرزنا ماض ولن تقدروا عليه.
- إذا هو منطق القوّة.
- طبعا القوّة، وهل هناك أحلى من القوّة، هب
لو أن الأدوار تبدّلت ماذا تفعلون بنا؟
- لا يمكن أن نعذّبكم هذا العذاب ولا عشر
عشره، وقد رأيت الأسرى الذين خرجوا من عند المقاومة
الفلسطينية كيف كانت حالتهم؟
- إنت لسانك طويل ولازم أقصّلك إياه (وأشار إلى جنده).
تناولوه
بركلات أقدامهم وسحلوه إلى بوابة زنزانته.
إبراهيم
تألّم كثيرا، حمل من أثقال الضرب المبرح ما لم يذكر أمام هذه الوقفة المذلّة المهينة،
وكان للتخفيف من حجم هذه الآلام أن يتخيّل يوما يمكّنه الله من هذا الشرّير، ماذا
نراه يفعل بعد كلّ ما رآه وسمعه من غطرسة وعجرفة ولؤم وامتهان مريع للكرامة من
جذورها وأعماقها؟ هذا بالتحديد كان يشعره بالإضافة للثأر من كونه احتلالا بغيضا
ساهم في الاعتداء على بلده، إلا أنّه أيضا هناك ثأر شخصي خاص بهذا المخلوق.
وصل
شيك المستوطنة، هذه التي أنشأوها منذ عشرين سنة على أراضي قريتهم التي اغتصبوها من
أصحابها عنوة، كان عليه أن يتخطّاه دون أن يمسّ بالخط الساخن الكهربائي
والالكتروني الموصول بأيّ اهتزاز تحدثه الاسلاك الشائكة، أيّ خطأ ستنطلق صافرات
الإنذار فتفشل محاولة الاختراق، يعود به الشريط ليرى عيون الضابط الهدف وقد أعيد
إلى السجن (لا سمح الله) فيلتقيه ثانية ليمارس عليه كل الطقوس النازيّة من جديد،
ترتعد فرائصه لمجرّد مرور هذا الخاطر في قلبه، يستعين بالله ليثبّت به قلبه، ويجأر
إلى الله بدعاء خالص من أعماق أعماقه، أخرج خلويّه فعّله وأخذ ينظر في خانة تحديد
الموقع الذي اخترقه وأراد أن يستهدفه بهذه الفدائية الفريدة، في قلب المستوطنة وفي
عقر بيته.
أخرج
من حقيبته الصغيرة لباسا يشبه لباسهم، سار على هدي برنامج تحديد المواقع، يا له من
غبيّ رغم أنه ضابط أمن، إلّا أنّ إبراهيم تمكّن من الحصول على معلومات كثيرة من
خلال صفحته على فيسبوك، منها إحداثيّة سكنه في هذه المستوطنة.
الليل
يسير بطيئا والساعة تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل، والسؤال الذي كان يقضّ مضجع
ضميره: كيف لو كان في البيت أطفال؟ كيف سيسحبه إلى مضجعه من القتل خارج البيت
بعيدا عن أعين أطفاله؟
انتظر
إبراهيم وهو كامن يرقب البيت خلف سور استناديّ مقابل له على حافّة الطريق، وصلت
قوّة حراسة تجوب شوارع المستوطنة على سيارة تراكتور مكشوفة، وجوههم فرحة جذلة كأنّهم
في رحلة صيفية جبلية ممتعة، يحرّكون كشافات قويّة تسلّط ضوءها إلى حيث يمّمت وجهها
فتحيل المكان نهارا، بلغ قلبه حنجرته، اشتدّت ضرباته، أحكم اختباءه جيّدا خلف
السور فمرّت بسلام، ولمّا ابتعدت هتف من أعماقه يا الله وانطلق. طاف البيت فوجد
نافذة مفتوحة ولكنها محميّة بحماية حديديّة قويّة، تسلّقها وقفز إلى السطح، من
هناك نزل سلّما يفضي إلى باب خشبيّ داخليّ، كان لا بدّ من خلعه بضربة واحدة
والانقضاض بسرعة البرق إلى الهدف في ثانية واحدة، أخذ نفسا عميقا فضربه بكتفه بكلّ
ما أوتي من قوّة، دهم الغرفة التي انطفأ ضوؤها قبل ساعة فوجد حضرة الضابط يقلّب
عينيه، نهض رافعا رأسه يريد أن يستطلع الخبر فداهمه إبراهيم بقوله بعبرية فصيحة:
- راسك لتحت.
انتشر
الهلع بسرعة البرق في وجهه وعينيه، ارتعدت أوصاله وهو يرى السكين متجها لرقبته، لم
يمهله ثانية، جلس على صدره وحزّ رقبته، أسرع شريط السجن ليمرّ عذابهم الشّديد
بذاكرته مسرعا، هزّ رأسه، وهتف: رأسك لتحت يا واطي.
غادر
مسرعا قبل أن يصحو أطفاله من نومهم في الغرفة المجاورة، أغلق الباب عليه، نظر بحزن
لأطفاله: كم أحزن أبوكم من الأطفال الفلسطينيين بتعذيب آبائهم.
وكتبوا
في صحفهم: سجين فلسطيني ينتقم من سجّانه بعد الإفراج عنه.
(إبراهيم
منصور من قرية بديا غربيّ يالقدس)