قضايا وآراء

ليلة عفريت الشوكولاتة.. يوميات معتقل (8)

"حبس احتياطي يتجدد تلقائيا بدون عرض على نيابة أو محكمة بحجة" - جيتي
استيقظ النائمون في فزع مقبض، بعد صرخة خوف هيستيرية في عمق الليل، صاحبتها ضجة وضجيج!

حركة عشوائية في كل الاتجاهات بطول العنبر وعرضه، من فوق الأسرة إلى أسفلها، ومن تحتها إلى فوقها للابتعاد أو الاختباء!

لم أكن نائما كعادتي في السهر إلى ما بعد صلاة الفجر، كان معي صحبة الليل المعتادة: هشام الحسيني وسيف الفخراني وأيمن الجاحد (الجاحد لقب شهرة)، وعدد قليل متغير من ضحايا الأرق والشعور بالملل الذي يزداد في الليل.

قمنا باتجاه الصرخة، مسعود نصفه على الأرض ونصفه على السرير الحديدي في حالة تشبه الغيبوية، وحلقة من الناس حوله تحاول إفاقته وسط سيل من التعليقات المتداخلة التي تجمع الغضب مع السخرية مع الشتائم مع الدعاء مع التعبير عن الخوف.

بعد دقائق قليلة تبيّنت الحقيقة للجميع: فريق من "عصابة زلزلة" اتفقوا على تدبير مقلب ضد مسعود، فصنعوا ثوبا فضفاضا بطرطور رفيع من الأكياس البلاستيكية السوداء التي يجمعون فيها نفايات العنبر كل ليلة لتسليمها مع شروق الشمس لمسؤولي النظافة من السجناء الذين يمرون على العنابر صباحا، واجتمعوا في السرير الأخير في ركن العنبر ناحية دورة المياه، ويسمونه "غرفة العمليات"، وبدأوا عملية مكياج بمعجون البن والشوكولاتة لتحويل وجه عصام إلى هيئة "عفريت"!

عصام هو أصغر سجين في العنبر، بائع سمك في سوق الأربعين، وبالأدق صبي "أرزقي" يعمل لحسابه بالاتفاق مع أصحاب المحلات، حيث يقف أمام المحل ويعرض تنظيف السمك للمشترين مقابل "إكرامية بسيطة"، وقد تم اعتقاله بعد مظاهرات السويس الشهيرة في أيلول/ سبتمبر 2019، والتي هتفت برحيل السيسي واصطدمت مع قوات الأمن في اشتباكات ليلية، انتهت بحملة تأديب واعتقالات واسعة لمعظم شباب المدينة.
بعد احتجاز وتعذيب بالضرب والصعق الكهربائي دام شهرين في مقر الأمن الوطني، تم تحويل عصام وأكثر من ثلاثة آلاف غيره إلى النيابة، وتوزيعهم على السجون في حبس احتياطي يتجدد تلقائيا بدون عرض على نيابة أو محكمة

عصام لم تكن له أي صلة بالسياسة، لكنه شارك في المظاهرات باعتبارها "فيلم أكشن"، حركة وإثارة وسهرا و"سلوك الشلة له حكمه"، وبعد احتجاز وتعذيب بالضرب والصعق الكهربائي دام شهرين في مقر الأمن الوطني، تم تحويل عصام وأكثر من ثلاثة آلاف غيره إلى النيابة، وتوزيعهم على السجون في حبس احتياطي يتجدد تلقائيا بدون عرض على نيابة أو محكمة بحجة إجراءات فيروس كورونا الاحترازية. قضى عصام قرابة العام في سجن أبو زعبل، حيث تشكلت هناك "عصابة زلزلة" وأصبح عصام "فاكهتها" ومسؤول المرح والمقالب، نظرا لذكائه وفائض الحركة الذي يجعله دائما في حالة نشاط زائد..

بعد المكياج تسلل "سماجة" لإطفاء لمبة دورة المياه لتحويل نصف العنبر الأخير إلى ظلام، واتجه عصام بهيئته المخيفة إلى سرير مسعود النائم، ووقف في زاوية تواجه نظره عندما يفتح عينيه، بينما كان "كنّي" في السرير العلوي ينقط قطرات من المياه على رأس مسعود، الذي فتح عينيه ببطء ليصدمه المشهد المرعب وينهار بعد صرخات الفزع.

انتهى الموقف السخيف المخيف بكلمات مواساة وكوب من الماء المحلى بالسكر وعبارات متناثرة تعيب مثل هذه التصرفات، وأخرى تشجعها بحجة خلق جو من المرح والتسلية في الأيام والليالي الملولة الكئيبة، لكن الليلة لم تستمر كما بدأت، تغيرت الأمزجة وحكايات السهر والمشاعر الداخلية، وكان هشام الحسيني (باعتباره القريب مني ورفيق السهر) هو مفتاح التعرف على أثر "عفريت الشوكولاتة" في كسر خزان الخوف داخل النفوس المشروخة..

ظل هشام واجما لفترة، لم أسمع صوته تقريبا أثناء التعرف على سبب الصرخة والانهيار، وعندما انتهى الموقف وعدنا إلى جلستنا ظل نظره زائغا كأنه لا يرانا، بل ينظر إلى عالم آخر!

- مالك يا هشام.. تعبان من حاجة؟

* أبدا افتكرت ذكريات قبضتني شوية.

- شكلك مش طبيعي وعاوز أطمن عليك.. احكي مالك..
* اللي حصل لمسعود ده بيحصل معايا كل ليلة تقريبا، وبصرخ صراخ مكتوم.

- يعني إيه؟

* جاثوم.. تعرف الجاثوم؟

- بتعاني من أحلام سيئة وكوابيس يعني؟


* الموضوع أصعب من كده شوية، عندي إحساس إن فيه قوى شيطانية بتراقبني وتلاحقني، إحساس يملأ نفسي بالخوف والقشعريرة والخطر، ومش قادر أتعامل معاه.


- اتكلم عنه، والكلام هيساعدك تفهمه وتتعامل معاه.


* أنا مهندس وتكنولوجي وعقليتي علمية وكل حاجة، لكن في غيبيات كتير بدأت تشغلني، وزادت معايا هنا في السجن.

- اشرح أكتر..


* يعني بفكر في العفاريت وأنا صاحي، ولما أنام بتهاجمني كائنات شكلها غريب، زي الهيئة اللي سمعنا وصفها عن "عفريت الشوكولاتة، أو مزيج بين بشر وحيوانات برؤوس غريبة واشكال مخيفة.

- معقول يا هشام؟.. عفاريت إيه بس اللي تفكر فيها وانت صاحي.

* ممكن تسمعني وتفسر لي اللي هتسمعه؟


- اتفضل.


* بعد تخرجي اشتغلت فترة في شركة خاصة، وكنت سأهر لوقت متأخر، وماكنتش اشتريت العربية، فكنت أنزل من الشركة الساعة 2 بعد نص الليل، وأمشي مسافة حوالي 3 كم، مكانش عندي مشكلة لأني بحب المشي، وكمان في بداية حياتي العملية توفير أجرة التاكسي مسألة مهمة، كنت أعرف طريق مختصر من الشركة للبيت، بس طريق مقطوع شوية، لأنه خلف شريط السكة الحديد، الناحية العكسية من شارع السودان، تبقى السكة الحديد على شمالي محاطة بسور عالي، وعلى يميني سور تاني وأراضي خلاء مكان مكار إمبابة القديم، والمفروض أمشي محاصر بين السورين لحد أول مزلقان بعد 2 كم تقريبا، اسمه "مزلقان المطار".

الأيام الأولى عدت لطيفة وكنت مستمتع بالمشوار، عامل حسابي ولابس في قدمي حذاء رياضي خفيف، وعلى رأي محمد منير "وحدي، لكن ونسان وماشي كده"، وبعد كام يوم بدا اللغز اللي بفكر فيه لوقتنا هذا، بدأت أسمع صوت "كعب حريمي" ماشي ورايا! التفت.. مفيش حد، أمشي الصوت يمشي ورايا.. تاك تاك، رنة الكعب الحريمي في صمت الليل، أقف مكاني من غير التفات، الصوت مستمر في المشي لحد ما يقف ورايا بالظبط، ويتكرر الموقف: أمشي يمشي.. أقف يقف، لحد ما وصلت عند المزلقان، وهناك إضاءة وحركة، لأن تجار الفاكهة عاملين فرشة بالليل منورة بـ"الكلوبات" والمزلقان مغلق على السيارات، لعبور الأفراد على رجليهم بس.

قلت موقف غامض وعدّى على خير، لكن في اليوم التاني اتكررت المتابعة، وبدا الخوف يزيد جوايا، وفي اليوم الثالث أصابتني حالة قشعريرة مخيفة، كنت عاوز أجري ومش قادر، عاوز أزعق وأستغيث أي حد يلحقني ومش قادر، لقيت نفسي في حالة شبه الحالة اللي كان فيها مسعود، بس واقف على رجلي، يعني من جوه كنت منهار ومرمي على الأرض زي ما شفنا مسعود، لكن من بره كنت واقف على رجلي وشكلي متماسك قدام أي حد ممكن يشوفني.. حسيت أن أنا اتنين، واحد جوه خايف، وواحد بره منظر بس.

من غير ما فكر لقيت نفسي قاعد أقرا "آية الكرسي" وأكررها لحد ما وصلت عند المزلقان، دخلت البيت في حالة سيئة ولما نمت جاني "الجاثوم"، لأول مرة وصحيت مفزوع، قعدت أفكر مع نفسي، وقررت إني مش هغير طريقي، ولما نزلت من الشغل مشيت في نفس الطريق وعندي شعور بالتحدي ومستني أسمع الصوت عشان أقرا "آية الكرسي"، لكن صوت الكعب الحريمي اختفى، ولم أسمعه مرة تانية لحد ما تركت العمل في الشركة لوظيفة أفضل!

قبل أن يكمل هشام أو أنطق بأي تعليق، سمعت صوت سيف الفخراني يقول بصوت مختلف كأنه يتكلم من أعماق بئر: أنا كمان عندي جاثوم، جاني أول مرة أثناء احتجازي في مقر الأمن الوطني، وكنت طول الفترة "متغمي" رابطين قماشة سودا على عيني، فحلمت بناس من غير عيون، أحلام متغيرة لكن الناس فيها بشر لهم وجه زيّنا، لكن مفيش مكان للعيون، التصرفات في الكابوس مش مخيفة، لكن تنتابني حالة من الرعب لما أبص في وجه الناس ولا أجد العيون، حفرة سودا مكان العين بتسحب روحي زي الثقب الأسود، والكابوس ده يلازمني بشكل يومي.. كل الناس في أحلامي اليومية بقت كده.

كأنه يكسر الإحساس السائد مدعيا الشجاعة، قال أيمن "الجاحد": غيّروا السيرة، الكلام ده بلاش منه هنا.

- شجاع يعني؟

سلوك الوشاية الذي توسع استخدامه في أماكن العمل والمجال العام كله في مصر، يكفي أن تبلغ جهات الأمن عن زميلك أو جارك فتقول "لديه ميول إخوانية"، أو "متعاطف"، أو "معارض للجيش والشرطة"، ليتم القبض عليه دون تحريات أو تحقيق بعد ذلك

* لأ.. الصراحة خايف، أنا نادرا ما بحلم وتقريبا تعمدت غني أنسى أحلامي، لأنها كانت زيكم كده، جعلت نومي فترة عقاب سيئة جدا، فقررت أتعامل معاها ببلادة، أقفل "زرار" التفكير في أي حاجة من النوع ده، عشان العقل ما يشغلش نفسها بالأفكار دي.. بلاش كلام أحسن.. صدقوني.

أيمن أخصائي نفسي واجتماعي في مدرسة إعدادية، وتم اعتقاله نتيجة وشاية من مدير المدرسة الذي يعمل فيها، لاعتراضه على قرارات إدارية ومشاكل في العمل، وراح ضحية سلوك الوشاية الذي توسع استخدامه في أماكن العمل والمجال العام كله في مصر، يكفي أن تبلغ جهات الأمن عن زميلك أو جارك فتقول "لديه ميول إخوانية"، أو "متعاطف"، أو "معارض للجيش والشرطة"، ليتم القبض عليه دون تحريات أو تحقيق بعد ذلك.

قال عادل رجب: أنا جيت بوشاية بنفس طريقة أيمن، لكن أنا عندي حكاية عن عفاريت تانية غير "الكعب الحريمي" و"كوابيس النوم"، حكاية محزنة وخطيرة، هحكيها إذا وعدتوني تفضل سر بينا.

عادل شرطي سابق، شارك في مظاهرات أمناء الشرطة أثناء ثورة يناير، وتم فصله بعد قضايا متبادلة مع الهيئة، وعمل في شركة أمن خاصة، وبعد أن حقق نجاحا في الشركة اختلف مع مديرة قسم الموارد البشرية لأسباب تتعلق بتشدده في مراقبة المكان مما يعطل "حرية تقاضي الرشاوى" وهو الأمر الذي تضررت منه المديرة، وهي في الوقت نفسه زوجة لأحد عمداء الشرطة، الذي أبلغ الأمن الوطني بأن عادل إخوان، وتم التنكيل بالشرطي السابق ورميه في حالة حبس احتياطي يضرب بها المثل، لأنها تجاوزت ثلاث سنوات بدون أي تحقيق حتى "ليلة العفريت"..

أما الحكاية التي اشترط علينا عادل الحفاظ على سريتها ليرويها، فسوف أحكيها في مقال مقبل بدون أسماء، مع تمويه على أطرافها وإغفال بعض أحداثها "المخجلة" التي اشترط عادل السرية بسببها.

في المقال المقبل نحكي عن صناعة الوضاعة في السجون.

maher21arabi@gmail.com

نحيب في قلب الليل.. يوميات معتقل (7)