للسجن أحواله التي تتكرر
وتتشابه، حتى تكاد تتحول إلى قوانين، ومما لاحظته بنفسي وأكدته الحكايات التي
نتداولها في
السجون أن لكل زنزانة تكوينا بشريا لا يختلف إلا في القليل، ففي كل
زنزانة عصابة ومخبر ومصلح اجتماعي وإمام مسجد ومريض نفسي وخائفون ومتنمرون وشخص
يفكر في الانتحار..
هذه تنويعة كبيرة لا تتسع لها
كلمة "زنزانة"، لأن المقصود بالطبع ليس الزنازين الصغيرة والانفرادية،
المقصود هو "العنبر" الذي يسكنه في العادة بين 30 و80 شخصا، حسب مساحته
وحسب نسبة الكثافة والازدحام في السجون.
في عنبر (2) المميز الذي
انتقلت إليه بعد فترة الاستقبال في العزل، كان عدد السجناء 42 في مكان يتسع
لثمانين، وكانت هذه ميزة عظيمة تتيح مساحات لتخزين الماء والطعام، وكذلك لتبديل
الأماكن عند حدوث خصومات، أو على سبيل التغيير وكسر الملل، كما كانت المساحات
المتاحة تستخدم في اللعب وحفلات السمر وتدبير المقالب ليلا..
عموما، معيشة السجناء في
العنابر الكبيرة تختلف تماما عن معيشتهم في الزنازين الصغيرة، في العنابر مجتمعات
وتعاون وتكافل ومشاكل تشبه مشاكل الحياة المشتركة في المدن الجامعية وثكنات الجيوش
ومعسكرات الشباب.
معيشة السجناء في العنابر الكبيرة تختلف تماما عن معيشتهم في الزنازين الصغيرة، في العنابر مجتمعات وتعاون وتكافل ومشاكل تشبه مشاكل الحياة المشتركة في المدن الجامعية وثكنات الجيوش ومعسكرات الشباب
قضيت النهار بطوله في مقر
النيابة العامة، وعدت منهكا وجائعا إلى السجن في ليلة قبل منتصف الليل بقليل، كنت
على يقين أن حمام الشرقاوي وصقر العرباوي لن يناما قبل عودتي والاطمئنان عليّ،
وإعداد طعام العشاء والشاي بطريقة "خابور الحلاوة" التي أذهلتني عندما رأيتها
لأول مرة، حيث يتم إشعال النار في قضبان الحلاوة الطحينية التي يتم توزيعها علينا
كوجبات، ووضعها تحت زجاجة من البلاستيك، دون أن يذوب البلاستيك!
لكنني عندما وصلت إلى بوابة
السجن فوجئت بتعليمات جديدة بتوصيلي إلى عنبر (2)، حيث تم نقلي بقرار استثنائي من
مأمور السجن دون أن أكمل فترة العزل المتعبة، وشرح لي الحراس أن الإقامة في العنبر
"حاجة تانية"، وطمأنوني بأنه تم نقل كل متعلقاتي، ولا حاجة لي للذهاب
إلى العزل.
اقتادني الحارس إلى العنبر،
واستقبلني السجناء بترحاب وكرم عظيم، وأجلسوني على سرير نظيف ومفروش جيدا في
مواجهة الباب، حيث تتوفر مساحة رحبة وإضاءة كافية وتهوية صحية..
كانت العادة عند انتصاف الليل
بالتمام، أن ينادي "نوبتجي العنبر" بصوت عال من سريره: اللي واقف قرب
الباب يطفي الأنوار ما عدا "واحد" "وتلاتة".. اللمبة رقم (1)
قوتها ضعيفة، لكنها تكفي لإضاءة المدخل، ولمبة رقم (3) في نهاية العنبر لإضاءة
منطقة دورة المياه، وعند الفجر يتم إضاءة كل الأنوار مجددا استعدادا لصلاة الجماعة
التي يشارك فيها معظم النزلاء، حتى الذين لا يصلون من قبل خارج السجن!
في ليلة وصولي حدث استثناء
كبير، وظلت الإضاءة كاملة والسهر متصلا حتى الفجر، وتلقيت الكثير من الهدايا:
فاكهة وشوكولاتة وقطع صابون ومناديل ورقية ومناشف ووسادة لرأسي وبطانية ناعمة بدلا
من البطانية الميري الكالحة، وعشنا ليلة من النقاش والتعليقات والضحكات أنستنا
أننا في سجن يحرمنا من أهلنا ويصادر حريتنا..
في تلك الليلة لم أحفظ إلا
قليل من الأسماء، ولم أفهم الكثير من التعليقات المتبادلة بين السجناء وبعضهم، حيث
كان لكل سجين اسم كودي غير اسمه الحقيقي (أو ملحقا به)، كأن يقولوا "حسن
كورونا" أو "علي جوكر" أو "جابر فيسبوك" أو الاسم منسوبا
إلى مكان: سويس.. بنها.. شرابية.. مطرية.. إلخ.
ولاحظت أن هناك لا حقة تتكرر
بعد أسماء كثيرة، بحيث يبدون جميعا أنهم من عائلة واحدة: إبراهيم محمد علي، وسعد
محمد علي، وواحد منهم اسمه محمد علي محمد علي، وتتبع هذه الأسماء عادة لاحقة
يتداولونها مع الضحك "فلان محمد علي الله يحرقه بجاز وسخ"!
وعرفت سريعا أنهم يشيرون إلى
أسماء القضايا المتهم فيها هؤلاء، فكل مجموعة ترتبط بمصير واحد في قرار تجديد
الحبس أو أي إجراءات تخص القضية، هذه قضية بسبب مظاهرات محمد علي، وهذه بسبب
"الجوكر" وهو إعلامي شعبي استخدم قناع الجوكر بعد شهرة الفيلم الذي يحمل
نفس الاسم، وهكذا قضايا بسبب النشر على فيسبوك، أو القبض على مجموعات في أماكن
معينة..
في ليلة الاستقبال الحافل،
سمعت تعليقا تبعته ضحكات وتعليقات لم أفهمها، ولم أسأل عنها، شأنها شأن تعليقات
كثيرة، كنت أعتبرها طبيعية بين ناس تعيش حياة مشتركة لفترة طويلة، بينما أنا وافد
جديد لا بد أن أنتظر لأفهم كل شيء في حينه..
التعليق كان: خير يا جدعان..
ما سمعناش سمفونية مسعود الليلة!
في الليلة التالية بعد إطفاء
الأنوار، هدأت الحركة في العنبر، وتحول الحوار بين الساهرين إلى همس احتراما
للنائمين وتجنبا للمشاكل مع السجناء الذين حولّهم الأرق ومشاكل النوم إلى شخصيات
عنيفة.
بعد قرابة الساعة وفي عمق
الليل، انتبهت إلى صوت نحيب حزين يقطع القلب، واختلطت معه تمتمات وغمغمة غير
واضحة، كنت أتبين منها (أو يخيل لي) كلمة "يا اما"..
توقف الهمس قليلا، ثم تحول
إلى ضحكات خافتة ومتقطعة بعد أن ارتفع صوت أحد السجناء: الحقونا يا ناس.. حد يبلغ
مجلس الأمومة والطفولة.
نام يا جاسر وسيب الراجل في
همه (قال سجين آخر)..
وتوالت التعليقات:
- نخلص من دوشة "أهل
القرية" تقلقنا عفاريت الليل.
- ما صدقنا ارتحنا من ضيوف
أسامة منير، ييجي مسعود يكمل البرنامج.
- حط عليه في الأنتريه.
- علاجه في 3 جرعات من لبن
ذكور الإبل.
- ناموا يا عنبر المجانين.
- اسمعوا كلام فيلسوف الحمير
وترعة المفهومية عشان ما نتأخرش على مواعيد البيزنس بكره..
بعد صمت طويل يهمس لي عصام
وهو يمسك بقطعة الشطرنج في يده منذ بدأت حالة النحيب الليلي: ده مسعود.. غلبان بس
مشاكله كتير، محبوس من سنتين، شخصيته مهزوزة شوية، وبيعوض النقص ده بأكاذيب وغرور
و"فشر" كتير، مرة يقول انه كان صحفي، ومرة سياسي وقيادة في حزب،
والحقيقة اللي نعرفها أنه اتحبس بعد توصية من عضو مجلس شعب قبطي، لأنه مسعود كان
بيشتغل ضده بأسلوب "بايخ" أثناء الانتخابات، فأبلغ عنه الأمن الوطني
واترمى هنا، محدش بيزوره ولا يسأل عليه، وعايش في العنبر يخدم الناس مقابل الأكل
والمساعدات، والمحزن كما يقول إنه وحيد أمه المريضة، وبعد تعب النهار بينام بعد
صلاة العشاء، ويصحى قبل الفجر في معظم الأيام يفتكر أمه ويعيط زي ما سمعت، وما
يعرفش إذا كانت عايشة ولّا ماتت!
شعرت منذ تلك الليلة أن السجن ليس عقابا للمسجون فقط، لكنه عقاب قاس ومؤلم للأهل، وتأكد هذا الشعور بعد أن بدأت الزيارات بالنسبة لي، فاللوائح في السجن الذي كنت فيه تقتضي منع الزيارات عن السجناء الجدد لمدة أسبوعين على الأقل، وأثناء الزيارات شاهدت "بهدلة" الأمهات والزوجات والعائلات التي تنتظر في طوابير مهينة أمام السجون لساعات طويلة، وقد يتم منع دخول معظم الزيارة ومعظم الأهل الذين أرهقوا نفسهم في السفر لمسافات طويلة
أثرت فيّ جدا حالة مسعود التي
تكررت بشكل شبه يومي بعد هذه الليلة، ولما تعرفت على هشام الحسيني وقصته الغريبة
مع الاعتقال المفاجئ والغريب من أمام قسم الشرطة، كانت مشكلته الصعبة أيضا في خوفه
على أمه: سيدة وحيدة في شيخوختها اختطفوا منها الابن البار الذي يرعاها، وأصبح
اعتمادها في الحياة على ابن مدلل يعود إلى البيت في آخر الليل، ربما يمر على أمه
في شقتها، أو يدخل إلى شقته مباشرة وينام مقتنعا أن أمه نامت مبكرا ولا ينقصها
شيء..
شعرت منذ تلك الليلة أن السجن
ليس عقابا للمسجون فقط، لكنه عقاب قاس ومؤلم للأهل، وتأكد هذا الشعور بعد أن بدأت
الزيارات بالنسبة لي، فاللوائح في السجن الذي كنت فيه تقتضي منع الزيارات عن
السجناء الجدد لمدة أسبوعين على الأقل، وأثناء الزيارات شاهدت "بهدلة"
الأمهات والزوجات والعائلات التي تنتظر في طوابير مهينة أمام السجون لساعات طويلة،
وقد يتم منع دخول معظم الزيارة ومعظم الأهل الذين أرهقوا نفسهم في السفر لمسافات
طويلة، ثم لا يسمح إلا بدخول شخص واحد يحمل تصريح الزيارة، وكل شيء في البداية
والنهاية يتم بمزاج الحراس وتقديرهم لقيمة الرشوة التي يدفعها الأهل صاغرين، حتى
لا يعودوا بلا زيارة، أو يتم منع معظم الملابس والأطعمة بحجج وأسباب كثيرة تتغير
كل مرة!
بعد استلامي أول زيارة من
الأهل، حرصت على حمل بعض الأطعمة والحلويات، وذهبت إلى مسعود راجيا أن يتفضل
بقبولها، استقبلني بمجاملات مبالغ فيها، مؤكدا أنه لا يصدق أنني أذهب إليه بنفسي
في سريره: طيب كنت نادي عليّ هتلاقيني قدامك.. ليه تتعب نفسك؟.. بس سامحني مش هقدر
أقبل حاجة.. أنا مش ناقصني حاجة الحمد لله، وينظر إلى جاره في السرير المقابل: مش
كده يا زلزلة؟
لا يرد زلزلة عليه..
ويكمل مسعود: زلزلة بيراعيني
ويحميني، وأنا بساعده في كل حاجة، مش عشان حاجة، أخوية كده، كلنا هنا اخوات، مش
كده يا زلزلة؟
لا يرد زلزلة مرة ثاني..
قلت لمسعود: عشان خاطري.. لو
ماقبلتش مني الهدية هزعل، واعتبر انك مش مقدرني..
لا ازاي؟.. العفو.. حاضر..
حاضر..
وبعد ساعتين تقريبا، جاء
مسعود على سريري بالأطباق مغسولة ونظيفة، وأعاد الشكر والسؤال: مش عاوزني اعمل لك
أي حاجة؟
قلت: اقعد معايا شوية، نشرب
شاي وتحكي لي عن نفسك وقضيتك.
قال مسعود: ده شرف كبير، بس
عندي شرط.. ان انا اللي أعمل الشاي، ما يصحش أتعب حضرتك، الأستاذ خالد أبو دنيا
قبل ما تيجي العنبر، وقف بعد صلاة العشا يخطب، وقال لنا ان قيمة وطنية كبيرة هتيجي
العنبر معانا، ولازم نتصرف كناس محترمين ونبطل التصرفات الصغيرة ونكبر بعض، وما
كنتش أعرف ان حضرتك اللي جاي لأنه مقالش أسماء، ولما شوفت حضرتك داخل عرفتك على
طول، وفرحت وزعلت في نفس الوقت.. فرحت أني شوفتك، وزعلت اني شوفتك في مكان زي كده..
طمني عليك انت يا مسعود.. مش
عاوزك ضعيف.. انت هنا عشان انت قوي وقدرت تواجه وتعارض.. محدش هييجي هنا لأنه كان
جبن ومنافق.. اللي زي دول هيتسجنوا ليه؟
قاطعني بصوت واهن: أمي.. أمي
يا أستاذ.
أمي هي نقطة ضعفي.. ست كبيرة
ومريضة، وأنا كنت بشتغل وأصرف عليها، ولما قبضوا عليّ ّظلم وجابوني هنا، مش عارف
مصيرها إيه!
قلت: ربنا رحيم وقادر يا
مسعود، ثق بالله، انت متخيل ان ربنا ينسى رزق حد، اطمئن وتماسك لحد ما تخرج
بالسلامة..
قال مسعود بلهجة مختلفة تبدو
أكثر حماسا: حاضر.. إن شاء الله هكون عند حسن ظن حضرتك، ومش هضعف تاني..
قلت: الضعف سمة إنسانية يا
مسعود، كلنا بنضعف في لحظات، بس بنعدي ونقف على رجلينا، أرجوك اعتبرني صديقك، ولما
تلاقي نفسك ضعيف وعاوز تشكي أو تحكي تعالى فورا.
تغيرت سلوكيات مسعود بعد ذلك،
واختفت تدريجيا حالة نحيب الليل، وحلت محلها مشاكل نهارية توزعت بين العناد
والغرور، ثم الوضاعة والاعتذار.
كان مسعود يبالغ في تقدير
ذاته ويهاجم الآخرين، ويتلفظ بألفاظ عدائية من نوع: انت مين عشان تكلمني كده..
احنا لو بره السجن كنت تتمنى تعدي من قدامي أو تسلم عليّ.. أنا كنت بواجه حيتان لو
شوفتهم تترعب وتعملها في هدومك..
في المقابل زادت السخرية
والتنمر من الأطراف الأخرى، خاصة من جانب "زلزلة" وعصابته، فقد كان
"زلزلة" قبل القبض عليه، أميا يعمل في البلطجة وتأمين الأفراح والحفلات،
وبرغم طيبة قلبه وتصرفه الصادق بشهامة، إلا أنه كان يميل لفرض سلطته على مجموعة
كبيرة من السجناء، ارتضوا أن يدخلوا تحت جناح "زلزلة" ويتحولوا إلى
"مركز قوة" في العنبر، لا يمارسون العنف الفج، لكنهم يفرضون السيطرة عن
طريق التلويح بالقوة وليس استخدامها، وكان الأمر الواقع كافيا لفهم ميزان القوى،
ولما بدأ مسعود حالة التمرد، كان التصرف أقرب للمهزلة منه إلى المأساة، ما أنتج
أحداثا كثيرة مضحكة ومبكية حسب درجة خطورتها، وهو ما يلزم أن نعود إليه في مقالات
أخرى تتناول تأثير السجون على الحالة النفسية وتصرفات السجناء.
وفي المقال المقبل نواصل
حكايات السجن..
[email protected]
سلاح ورعب وأكاذيب.. يوميات معتقل (6)
ليلة عفريت الشوكولاتة.. يوميات معتقل (8)