بورتريه

رحيل عروبي كانت بوصلته فلسطين والمقاومة (بورتريه)

كان يؤمن بتحرير فلسطين كاملة غير منقوصة
خبير اقتصادي يعد من التكنوقراط، وكثيرا ما كان يقول بأنه دخل معترك السياسة "صدفة"، وصف بأنه "ضمير لبنان"، فقد كان يمتلك حسا وطنيا وعروبيا.

سياسي وكاتب نشر له 18 مؤلفا، كان مثقفا رصينا أمضى حياته بين التدريس والسياسة ومناصب اقتصادية داخل وخارج بلاده.

شغل موقع رئاسة الحكومة 5 مرات في أدق الحقب في تاريخ لبنان، 4 منها خلال الحرب الأهلية اللبنانية.

نشأ سليم الحص يتيما إذ إنه بعد ولادته في عام 1929 لعائلة سنية من الطبقة البورجوازية البيروتية، بمنطقة البسطة، حي حوض الولاية في بيروت، تيتم في سن مبكرة.

وفي 1941، خلال الحرب العالمية الثانية، نزح مع والدته وجدته من بيروت إلى منطقة صوفر في جبل لبنان بعد أن هاجمت القوات البريطانية لبنان لإخراج القوات الفرنسية.

التحق بالجامعة الأمريكية ببيروت، وتخرج منها عام 1952 في الاقتصاد والعلوم السياسية وعمل أثناء الدراسة محاسبا في شركة "التابلاين" لنقل البترول، ثم محررا للرسائل في غرفة التجارة والصناعة.

وفي 1955، بدأ بتدريس مواد المحاسبة في الجامعة، ونال درجة الماجستير في عام 1957.

ثم حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد وإدارة الأعمال عام 1961 من جامعة إنديانا في الولايات المتحدة، عاد بعدها إلى لبنان للتدريس في الجامعة الأمريكية.

وفي 1963، سافر إلى الكويت للعمل مستشارا ماليا للصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، واستدعي إلى لبنان لتولي رئاسة أول لجنة للرقابة على المصارف في لبنان، وتعاون مع حاكم مصرف لبنان وقتها إلياس سركيس.

وعندما انتخب سركيس رئيسا للبنان عام 1976 كلف الحص، بتشكيل حكومة تكنوقراط، وتنص الأعراف المعمول بها في لبنان، على أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا، ورئيس الوزراء مسلما سنيا، ورئيس مجلس النواب مسلما شيعيا.

وفي 1978، استقال الحص لإفساح المجال لحكومة جديدة. لكن بعد مشاورات مع النواب، عاد سركيس وكلف الحص بتشكيل الحكومة، وحين اصطدم بصعوبة تشكيل الحكومة، عدل عن استقالة الحكومة الأولى.

وفي 1979، تفاهم الحص مع سركيس على الاستقالة، لكن بعد مشاورات مع مجلس النواب، عاد سركيس ليكلف الحص بتأليف الحكومة الجديدة.

لكنه لم يستمر بعد ذلك سوى عام واحد حيث إنه استقال من رئاسة الحكومة في عام 1980، وسجل تجربته في الحكم، إلى جانب الرئيس سركيس، في كتاب بعنوان "زمن الأمل والخيبة".

وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وبناء على اجتماع أطراف الصراع اللبناني في مؤتمرين في جنيف ولوزان بسويسرا، اتفق المجتمعون في عام 1984 على تكليف رشيد كرامي بتشكيل الحكومة، وتولى الحص حقيبتي التربية والعمل في الحكومة.

وفي نفس العام تعرض الحص لمحاولة اغتيال عبر تفجير سيارة بالقرب منه أثناء توجهه إلى منزل المفتي الشيخ حسن خالد، لاصطحابه إلى صلاة العيد.

ودخل لبنان نفق الاغتيالات في عام 1987 بعد اغتيال كرامي، بينما كان في طريقه إلى مدينة طرابلس شمال لبنان.

وفي اجتماع عقدته قيادات إسلامية في دار الفتوى، اتفق على تولي الحص رئاسة الحكومة بالوكالة في عهد الرئيس أمين الجميل.

بعد انتهاء ولاية الرئيس الجميل رفض الحص تسليم الحكم للحكومة العسكرية التي أنشأها الجميل برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون، وأصبح بلبنان حكومتان، وكان يعد من وجهة نظر الموالين له والمناوئين لعون بأنه يتولى مهمة رئيس الدولة بالنيابة. وأسهم بشكل لافت في إقرار اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان.

وبعد عامين من اغتيال كرامي، اغتيل الرئيس اللبناني رينيه معوض في عام 1989، بتفجير سيارته، فسارع مجلس النواب إلى انتخاب إلياس الهراوي رئيسا للجمهورية الذي كلف الحص بتأليف الحكومة التي استمرت حتى عام 1991.

في عام 1992، ترشح الحص للانتخابات النيابية عن بيروت، على رأس لائحة "الإنقاذ والتغيير"، وفاز في الانتخابات وانضم إلى خندق المعارضة. لكنه لم يحتفظ بنفس قوته السياسية في انتخابات عام 1996، ولم يفز سوى بمقعدين وتفوق عليه خصمه السياسي رئيس الحكومة حينها رفيق الحريري.

لكن الحريري اصطدم في عام 1998، مع الرئيس إميل لحود، فقام لحود بتكليف الحص بتشكيل الحكومة.

ولم يلبث أن خسر الحص الانتخابات في عام 2000 ولم تفز لائحته بأي مقعد نيابي في مواجهة لائحة الحريري، فأعلن اعتزاله العمل السياسي.

في عام 2005، رفض الحص تشكيل الحكومة الجديدة بعد استقالة عمر كرامي، لأسباب صحية وعين نجيب ميقاتي لاحقا.

توفي عن 94 عاما من وصفه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بأنه "كان اقتصاديا بارزا ومثال الخبرة والأخلاق والعلم، يضع المصلحة العليا ومصلحة المواطن فوق كل اعتبار، وكان متجردا وموضوعيا ودستوريا بامتياز".

ودع لبنان رجلا عصاميا، وبنى نفسه بنفسه ليصل إلى أعلى درجات العلم، وأرفع المناصب. وكان رجلا وحدويا لا يميز بين اللبنانيين بناء على ديانتهم أو طوائفهم، فكانت زوجته ليلى فرعون مسيحية مارونية، واعتنقت الإسلام في أواخر حياتها لتدفن بجوار زوجها في مقابر المسلمين، وذلك بحسب مقابلة أجريت مع الحص.

الحص كان عضوا في المؤتمر المناهض للإمبريالية ومحور السلام، وأوصى قبل سنوات بقوله "اجعلوا البوصلة دائما نحو تحرير فلسطين، كل فلسطين"، وفي عام 2017، شارك الحص، في إضراب عن الطعام لمدة يوم واحد تضامنا مع إضراب لحوالي 1500 أسير فلسطيني.

كان يرفض جميع الحلول السياسية لفلسطين، ورفض جميع الاتفاقيات والمعاهدات العربية الإسرائيلية، ولم يؤمن يوما بـ"حل الدولتين" وكان يؤمن بتحرير فلسطين كاملة غير منقوصة، فكان سندا للمقاومة ومؤيدا لها حتى اللحظات الأخيرة من عمره.

وشاءت الأقدار أن يرحل في زمن التطبيع العربي وحرب الإبادة على فلسطين والضفة الغربية.