بعد تسعة أشهر ونصف من القرار المسيس الذي اتخذته المحكمة الاتحادية (صدر 14 تشرين الثاني 2023) والذي أطاح برئيس
مجلس النواب محمد الحلبوسي، لايزال مجلس النواب «ممنوعا» حرفيا من انتخاب رئيس مجلس نواب بديل، وذلك بسبب إصرار الإطار التنسيقي على عدم استكمال
الانتخابات، ورفع الجلسة دون الذهاب إلى جولة ثانية بين المرشحين الفائزين بأعلى الأصوات، من أجل حسم الأمر!
ففي 13 كانون الثاني 2024، جرت الانتخابات الأولى لاختيار رئيس مجلس النواب، وفي الجولة الأولى لم يتمكن أي من المرشحين من الحصول على الأغلبية المطلقة المطلوبة، وكان يفترض إجراء جولة ثانية لكن النائب الأول لرئيس المجلس، والذي يتولى رئاسة المجلس بالنيابة، رفع الجلسة ولم يستكمل عملية الانتخاب!
ثم تكرر المشهد ثانية بعد أكثر من أربعة أشهر، وأجريت الانتخابات مرة أخرى، دون حصول أي من المرشحين على الأغلبية المطلوبة، وعليه قرر رئيس المجلس بالنيابة رفع الجلسة وعدم الحسم!
لا يمكن التعامل مع هذا الموضوع على أنه مجرد أزمة فنية تتعلق بعملية الانتخاب، بل هو يعكس أزمة الدولة
العراقية التي تحكمها علاقات القوة، وليس النصوص الدستورية أو القانونية أو الأنظمة الداخلية أو المنطق أو الأخلاق؛ فالقراءة المتأنية لمسار العملية ككل، تكشف عن احتكار الإطار التنسيقي لأدوات العملية السياسية جميعها، وهو يديرها بشروطه!
يقرر الدستور العراقي أن على مجلس النواب انتخاب رئيس للمجلس «في أول جلسة له» (المادة 55). ويقرر النظام الداخلي لمجلس النواب نفسه على أنه في حال تقديم الرئيس الاستقالة (أوفي حال إقالته) أوفي حال خلا المنصب لأي سبب، سينتخب المجلس خلفا له «في أول جلسة يعقدها» لكن النائب الأول،الذي أصبح رئيسا بالإنابة، أرسل كتابا غريبا إلى المحكمة الاتحادية العليا بتاريخ 11 كانون الأول 2023، مستفسرا عن الآلية الواجب اتباعها «في حالة عدم حصول أي من المرشحين لهذا المنصب على الأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء في الجولة الأولى»؟ وهو سؤال عبثي لأنه ليس من اختصاص المحكمة الاتحادية العليا تحديد هكذا آليات، وكان على المحكمة الاتحادية رفض هذا الاستفسار من الأصل، لأن العالم أجمع يعتمد الطريقة الوحيدة المنطقية في حال عدم حصول مرشح على الأغلبية المطلوبة مع وجود أكثر من مرشح، وأن الأمر يحسم بجولة ثانية تجري بين المرشحَين اللذين حصلا على أعلى الأصوات! لكن المحكمة الاتحادية ردت فعليا على الاستفسار بقرار مرقم بـ (322/ اتحادية/ 2023) وهو قرار مبتدع لم يسبقها إليه أحد. ونص القرار الغريب أنه في حال عدم حصول أي من المرشحين على الأغلبية المطلقة التي ينص عليها الدستور، ينتخب رئيس المجلس «في تلك الجلسة أو الجلسات التالية بعد الجلسة الأولى (من ضمن جميع المرشحين من الجلسة الأولى)» ولم تشرح المحكمة ما المنطق في إعادة الانتخابات بين جميع المرشحين وليس بين المرشحين الفائزين بأعلى الأصوات!
والملاحظة الأهم على هذا القرار هو أن المحكمة الاتحادية «أطاحت» بما قرره الدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب؛ بأن يتم الانتخاب في «أول جلسة» وليس في «الجلسات التالية»! وهو حكم لا علاقة له بالاستفسار الموجه للمحكمة، وكان واضحا أنه قرار مسيّس، كالعادة، للسماح باجتماعات لمجلس النواب دون الحاجة إلى انتخاب رئيس له!
وفي الجلستين اللتين خصصتا لانتخاب الرئيس، كانت الحجة التي استند اليها رئيس المجلس بالأنابة أن أعضاء في المجلس قد افتعلوا مشاكل منعته من استكمال عملية الانتخاب، وهذه مجرد حجة لا تصمد أمام السوابق. فقد كان من الممكن استدعاء قوات الأمن بالمجلس من أجل إخراج النواب الذين يتسببون في تعطيل عمل المجلس وقد حدث ذلك من قبل، والجميع يتذكر الحادثة التي جرت عند التصويت على قانون تعديل قانون الانتخابات في آذار2023، عندما استدعيت قوات الأمن لطرد النواب المعترضين بالقوة من المجلس، لكن حينها كانت هناك إرادة لاستكمال التصويت على ذاك القانون، في حين لا تتوفر اليوم هذه الإرادة لاستكمال انتخاب رئيس مجلس النواب!
بالعودة إلى النظام السياسي العراقي الطائفي الذي اعتمد بعد عام 2003، عمد الأمريكيون إلى توزيع المناصب الرئاسية الثلاثة؛ رئاسة مجلس النواب، ورئاسة الجمهورية، ورئاسة مجلس الوزراء، على المكونات العراقية الأكبر، وأصبح هذا عرفا على مدى السنوات العشرين الماضية، لكن هذا العرف لم يعد يتسق مع علاقات القوة الجديدة التي تحكم العراق اليوم؛ فالفاعل السياسي الشيعي بداية من العام 2018 استطاع أن يحتكر قرار ترشيح رئيس لمجلس النواب، ومن يكون رئيسا للجمهورية، ولم تعد الكتل السنية أو الكردية هي من تقرر ذلك، كما هو الحال مع منصب رئيس مجلس الوزراء الذي تحتكر قراره القوى السياسية الشيعية وحدها!
يسوّق الإطار التنسيقي فرضية أن تأخير انتخاب رئيس مجلس النواب يتعلق بالخلاف السني السني، وأن على السنة الاتفاق حول مرشح واحد، وبعيدا عن أن هذه الحجة تنتهك قرارا باتا وملزما للمحكمة الاتحادية التي يستخدمونها عادة أداة سياسية، والقاضي بأن تجري الانتخابات بين «جميع المرشحين من الجلسة الأولى». فهذه الحجة تعني، حكما، عدم انتخاب رئيس لمجلس النواب إلى نهاية هذه الدورة. فهذا الموضوع لم يعد يتعلق بالسياسة من الأصل، بعد التدجين الكامل للطبقة السياسية السنية، بل يتعلق بغرضين رئيسيين؛ الاستثمار في المال العام؛ فواردات هذا المنصب، في سياق النظام الكليبتوقراطي/ اللصوصي الحاكم في العراق(على المستوى الأفقي) تصل إلى مئات ملايين الدولارات سنويا.أما الغرض الثاني فهواستغلال المنصب/ السلطة لبناء الجمهور الزبائني، أو إدامته، في سياق النظام الزبائني الحاكم في العراق أيضا (على المستوى العمودي)
لذلك كله، فإن التأخير يرجع في الحقيقة إلى سبب وحيد، هو الخلاف الشيعي الشيعي حول من يكون رئيسا لمجلس النواب، فلم تعد تجربة الفاعل السياسي الشيعي في «صناعة» وتدجين رئيس مجلس النواب، التي بدأت عمليا عام 2014، وتكرست عامي 2018 و 2021 لم تعد مقنعة للأطراف الشيعية بعد تغير علاقات القوى كما ذكرنا سابق؛ فلإطاحة برئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي مثلا، كانت بسبب تحالفه مع الصدر ضد إرادة الايرانيين وحلفائهم في العراق، وهو أمر كان لا بد أن يعاقب عليه من الطرف الآخر.
لهذا يبدو الفاعل السياسي الشيعي اليوم بين خيارين: ضمان رئيس مجلس نواب سني مدجن بالكامل (وهنا السباق بين المرشحين لإثبات ذلك، على أشده) والثاني الإطاحة بالعرف الذي تأسس بعد 2003، واستقراء لردود فعل المجتمع الدولي حول إمكانية استحواذ الطبقة السياسية الشيعية، على منصب رئيس مجلس النواب بشكل مباشر.
(القدس العربي)