ملفات وتقارير

ما جذور التضامن اللافت لأيرلندا وإسكتلندا مع القضية الفلسطينية؟

"عايدة سلتيك" يحمل قصة فريدة كتبها مشجعو نادي سلتيك غلاسكو الإسكتلندي- جيتي
طالما تضامنت ودعمت كل من إسكتلندا وأيرلندا القضية الفلسطينية، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، وفي أكثر من مناسبة كان التضامن بمثابة انتقاد الاحتلال الإسرائيلي مباشرة، أو بقرارات رسمية تصب في صالح الفلسطينيين.

وجاء قرار اعتراف أيرلندا رسميا بالدولة الفلسطينية وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة في أيار/ مايو 2024؛ تتويجا لمواقف متعددة اتخذها طوال سنوات في دعم فلسطين وشعبها رفقة إسكتلندا.

وجاء في بيان للحكومة الأيرلندية، أن "الحكومة تعترف بفلسطين كدولة ذات سيادة ومستقلة، ووافقت على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين دبلن ورام الله، وسيتم تعيين سفير لأيرلندا لدى دولة فلسطين، إلى جانب سفارة كاملة لأيرلندا في رام الله".

فما الأسباب التي تجعل بلدين أوروبيين يعدّان الملف الفلسطيني من ضمن الأولويات في سياستهما الخارجية؟

"نرى أنفسنا"
يرى الأيرلنديون في القضية الفلسطينية كثيرا من نقاط التشابه مع قضيتهم، وهكذا منذ عام 1947 بدأت أيرلندا تنظر إلى "إسرائيل" باعتبارها مقاطعة تابعة للاستعمار من أجل السيطرة على العرب، كما ينظرون إلى أيرلندا الشمالية، باعتبارها محتلة من بريطانيا.

ومنذ دخولها الاتحاد الأوروبي، تصدرت أيرلندا مشهد المدافعين عن القضية الفلسطينية، وطالبت في 1980 بإقامة دولة فلسطينية، كما أن رئيس وزراء أيرلندا الأسبق، بيرتي أهرن، قال إن بلاده تتدخل في هذا الملف من ناحية "بعده الأخلاقي من حيث احترام حقوق الإنسان ومعاداة الإمبريالية".

وفي نهاية أيار/ مايو 2021، أقّر البرلمان الأيرلندي قانونا يعد المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية "ضما فعليا غير قانوني"، وهو القانون الذي حاز إجماع أحزاب جمهورية أيرلندا، فضلا عن إدانتها تهجير السكان الفلسطينيين.


وتاريخيا، بدأت العلاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية وأيرلندا في أواخر عقد 1970، بإشراف شخصية أيرلندية، وفي عام 1993، افتتحت المنظمة تمثيلًا دبلوماسيًا لها في أيرلندا، من ثم  في عام 2000، افتتحت أيرلندا ممثلية لها لدى السلطة الفلسطينية.


في كانون الثاني/ يناير 2011 ، منحت أيرلندا الوفد الفلسطيني في دبلن وضع البعثة الدبلوماسية، حينها، صرحت وزارة الخارجية في أيرلندا أنها ماضية في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لكن ذلك لن يتحقق إلا بعد سيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية على أراضيها.

ومع حلول تشرين الأول/ أكتوبر 2014، وافق مجلس الأعيان بالبرلمان الأيرلندي بالإجماع على اقتراح يدعو الحكومة إلى الاعتراف بدولة فلسطين. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2014، طالب دويل أيرن في البرلمان الأيرلندي الحكومة بالاعتراف بدولة فلسطين.

ومع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، أعلنت إسبانيا والنرويج وجمهورية أيرلندا اعترافها بدولة فلسطين اعتبارًا من 28 أيار/ مايو 2024، وهي خطوات حازت على ترحيب فلسطيني واسع.

أسطول الحرية 
في حين سارع العالم إلى الرد على الغارة الإسرائيلية القاتلة في الحادي والثلاثين من أيار/ مايو عام 2010 على أسطول الحرية، الذي اتجه إلى قطاع غزة من أجل كسر الحصار الإسرائيلي، جاء رد الفعل الأول من أيرلندا. 

وفي صباح الخامس من حزيران/ يونيو من العام ذاته، اعترضت القوات الإسرائيلية سفينة راشيل كوري، التي أبحرت من الساحل الشرقي لأيرلندا، في محاولة لخرق الحصار المفروض على غزة، وكان من بين الركاب الأيرلنديين على متن السفينة ميرياد ماجواير، الحائزة على جائزة نوبل للسلام عن عملها في جلب السلام إلى أيرلندا الشمالية.


وبحسب تقرير سابق لصحيفة "فورين بوليسي" فإن الخلاف الدبلوماسي الحاد بين الحكومتين الأيرلندية والإسرائيلية الذي رافق رحلة راشيل كوري إلى غزة ليس سوى حلقة في تاريخ طويل من العلاقات الخلافية بين البلدين. 

وتصاعدت التوترات حينها مع طرد أيرلندا لدبلوماسي إسرائيلي، وسط غضب أيرلندي إزاء استخدام "إسرائيل" لثمانية جوازات سفر أيرلندية مزورة في جريمة اغتيال القيادي في حركة حماس، محمود المبحوح، في دبي.

ولقد احتلت القضية الفلسطينية منذ فترة طويلة مكانة في الوعي الأيرلندي، بشكل أعظم كثيرا مما تستحقه الاعتبارات الجغرافية أو الاقتصادية أو السياسية، ومع ذلك، فإن أوجه التشابه الملموسة مع التجربة الوطنية الأيرلندية ألهمت ارتباطا عاطفيا مع فلسطين، ودفعت النشاط الأيرلندي في المنطقة حتى الوقت الحالي.

تحول في التضامن 
في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كانت تعاطف الأيرلنديين مع الحركة الصهيونية واضحا، واستند حينها إلى أوجه التشابه المفترضة بين المعاناة التاريخية الأيرلندية واليهودية، فضلا عن التجربة المشتركة للهجرة واسعة النطاق في القرن التاسع عشر.

وبالتوازي مع تاريخهم الخاص من الاحتلال، دافع الأيرلنديون أيضا عن "النضال الصهيوني" من أجل تقرير المصير، وفي آذار/ مارس 1945، ثار مراسل مجلة بيل الأيرلندية الرائدة على الأحداث الجارية في فلسطين الانتدابية: "لا ينبغي لنا أبداً أن ننسى أن الشعب الأيرلندي.. عانى كل ما يعانيه الشعب اليهودي في فلسطين من البلطجية المدربين والمسلحين والإرهابيين البريطانيين الذين فرضتهم القوة الانتدابية على البلاد".

ولكن سرعان ما تغيرت تصورات القوميين الأيرلنديين تجاه "إسرائيل"، فقد أدى التمرد المناهض للبريطانيين في البلاد إلى حرب أهلية مؤلمة تركت ست مقاطعات شمالية من الجزيرة تحت التاج البريطاني. 

ولكن ما إن قبلت الحركة الصهيونية تقسيم فلسطين، حتى بدأ الأيرلنديون يرسمون أوجه تشابه بين السياسات الإسرائيلية ووجودهم المنقسم، وفي نظر كثيرين، بدت "إسرائيل" الآن أقل شبها بمجتمع ديني وطني محاصر يكافح بشجاعة من أجل حقوقه الطبيعية، وأكثر شبها بمستعمرة أنشئت بشكل غير شرعي بقوة السلاح البريطانية، وتعتزم فرض نفسها على السكان الأصليين.


وقد عبر الروائي الأيرلندي الشهير شون أوفولين، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، في الوقت الذي كانت الأمم المتحدة تناقش فيه خطة تقسيم فلسطين الانتدابية، عن هذا الشعور عندما رفض المقارنة بين الصراعين الأيرلندي والإسرائيلي : "إذا تصورنا أن بريطانيا كانت تحول أيرلندا إلى وطن قومي لليهود، فلا شك أنني أعرف في أي جانب سوف أقف".

ونتيجة لهذا، لم تمد أيرلندا اعترافها القانوني بـ "إسرائيل" إلا في عام 1963، بعد خمسة عشر عاما من إعلان قيامها، وبحلول أواخر الستينيات، كانت أيرلندا منشغلة بشكل متزايد بمصير اللاجئين العرب الفلسطينيين، الذين تضخمت أعدادهم في أعقاب حرب الأيام الستة والنكسة عام 1967. 


وفي حديثه في عام 1969 في مجلس النواب الأيرلندي، وصف وزير الخارجية الأيرلندي حينها، فرانك أيكين تسوية هذه المشكلة بأنها "الهدف الرئيسي والأكثر إلحاحًا" لسياسة أيرلندا في الشرق الأوسط. 
وبحلول الوقت الذي ترك فيه أيكين منصبه في وقت لاحق من ذلك العام، كانت السياسة الأيرلندية راسخة: فلا يمكن أن يكون هناك سلام دون إعادة أكبر عدد ممكن من اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم بالكامل، وليس مجرد إعادة توطينهم، لبقية اللاجئين.

وبعد انضمام أيرلندا إلى الاتحاد الأوروبي في عام 1973، تولت الحكومات المتعاقبة في دبلن زمام المبادرة في الدفاع عن القضية الفلسطينية داخل أوروبا، ففي شباط/ فبراير 1980، كانت أيرلندا أول دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تدعو إلى إنشاء دولة فلسطينية، وكانت أيضاً آخر دولة تسمح لـ "إسرائيل" بفتح سفارة لها في كانون الأول/ ديسمبر 1993.


وكان رد "إسرائيل" على هذا التجاهل بالغضب والحيرة، ففي حديثه على الإذاعة الأيرلندية في عام 1980، وصف رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي مناحيم بيجين حينها السياسة الأيرلندية بأنها تعادل قبول "حق منظمة التحرير الفلسطينية في تدمير الدولة اليهودية".

وخلال فترة اتفاقيات أوسلو وفترة ما بعدها، استمرت الحكومات الأيرلندية في تقديم الدعم للقضية الفلسطينية، وفي حديثه أمام جمعية السياسة الخارجية في مدينة نيويورك في أيلول/ سبتمبر عام 2000، أوضح رئيس الوزراء الأيرلندي حينها بيرتي أهيرن، أن "البعد الأخلاقي" للشؤون الدولية كان "السبب الأول والأهم" للتدخل الأيرلندي. 

وأضاف أن الاهتمام الأساسي لدى الرأي العام الأيرلندي، باعتبارهم مواطنين في دولة صغيرة محايدة تقع على هامش أوروبا، يتعلق بالقانون الدولي، وحقوق الإنسان، ومناهضة الإمبريالية، والتاريخ المجيد من التعامل مع الأمم المتحدة. وهذه النظرة إلى العالم، إلى جانب الرغبة الشديدة في شعارات المقاتلين من أجل الحرية واللغة المناهضة للاستعمار التي تركت الأجيال السابقة ضعيفة، تفسر التعلق المستمر بالمستضعفين الفلسطينيين.

وحتى الوقت الحالي، ظل حزب "شين فين" الشهير، الذي انطلق من ظل الجيش الجمهوري الأيرلندي، منتقدا بارزا للاحتلال، ففي عام 2006، وصف أنجوس أو سنودايغ، المتحدث باسم الحزب للشؤون الدولية وحقوق الإنسان في برلمان دبلن حينها، "إسرائيل" بأنها "واحدة من أكثر الأنظمة بغيضة ودناءة على هذا الكوكب". 

وحتى الآن، وخاصة مع استمرار الحري، تشهد العديد من المدين الأيرلندية فعاليات تضامنية واسعة مع فلسطين، وتضمنت فعاليات لزراعة أشجار الزيتون، وتنشط هذه الفعاليات في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، حيث يتم الدعوة لمقاطعة الاحتلال والعمل على فضح جرائمه، بحسب ما ذكرت حملة التضامن الأيرلندي الفلسطيني.

ماذا عن إسكتلندا؟
لا يختلف المشهد كثيرا في إسكتلندا، حيث يسارع العديد من المسؤولين لتوجيه انتقادات واضحة للاحتلال، فضلا عن المظاهر الشعبية في دعم فلسطين في مناسبات متعددة شعبية ورسمية، وهي كلها مظاهر تدل على وجود بيئة حاضنة لهذه القضية.

وفضلا عن المواقف التاريخية والشعبية العديدة، دعا رئيس وزراء إسكتلندا جون سويني، في أيار/ مايو 2024 الحكومة البريطانية إلى الاعتراف بدولة فلسطين أسوة بأيرلندا والنرويج وإسبانيا.


وكتب سويني إلى كل من رئيس الوزراء البريطاني حينها، ريشي سوناك، وزعيم حزب العمال المعارض قبل أن يتولى السلطة كير ستارمر، يحثهما على "فعل الشيء الصحيح والاعتراف على الفور بالدولة الفلسطينية".

وأكد سويني أن الحزب الوطني الإسكتلندي الذي يتزعمه، سيفرض تصويتا ملزما بشأن ذلك في مجلس العموم البريطاني، بعد الانتخابات العامة المقبلة، وذلك في حال لم تعترف الحكومة الحالية بدولة فلسطين.

وقال إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية سيوفر "الأمل في إمكانية التوصل إلى حل سياسي دائم" بين "إسرائيل" والفلسطينيين.

المواقف الشعبية
في أيول/ سبتمبر 2020، استخدم محتجون إسكتلنديون الطلاء الأحمر لتغطية الطريق الذي سلكته حافلة منتخب الاحتلال الإسرائيلي لكرة القدم قبل مباراته ضد المنتخب الإسكتلندي، وذلك احتجاجا على قدومه ولمحاولة تسليط الضوء على القضية الفلسطينية.


ولم تكن هذه المرة التي يعبر فيها الجمهور الرياضي في إسكتلندا عن دعمه لفلسطين، فالإسكتلنديون معروفون بتضامنهم مع أي شعب يعتقدون أنه مضطهد، ويقفون مع جميع مطالب الشعوب التي يظنون أنها محقة.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، ظهر نجم المنتخب الفرنسي السابق لكرة القدم، إيرك كانتونا، وهو يرتدي قميصا عليه علم فلسطين وشعار نادي يحمل اسم "عايدة سلتيك"، مطلقًا حملة لدعم النادي الفلسطيني.

ودعا كانتونا حينها لشراء قميص النادي الفلسطيني، ضمن حملة أطلقها لجمع عائدات البيع لصالح النادي، وتوفير ملابس رياضية وتجهيزات أخرى تساعده على النجاح والتألق وتمثيل فلسطين مستقبلا.



ويحمل "عايدة سلتيك" قصة فريدة كتبها مشجعو نادي سلتيك غلاسكو الإسكتلندي، حيث أنشئ عام 2019 بفضل دعمهم وتضامنهم المتواصل للقضية الفلسطينية، وبسبب تحديهم للاحتلال الإسرائيلي والاتحاد الأوروبي لكرة القدم.


وتتلخص القصة عندما رفع مشجعو فريق سيلتك الأعلام الفلسطينية في مباراة ضد فريق هبوعيل بئر السبع الإسرائيلي في التصفيات دوري أبطال أوروبا في آب/ أغسطس 2016، وهو ما تسبب بفرض غرامة عليهم من قبل الاتحاد الأوروبي، بحجة رفع "راية غير مشروعة"، بحسب موقع "ESPN".

وحينها رد المشجعون على ما أكدوا أنه "التصرف السياسي التافه" للاتحاد الأوروبي، من خلال إطلاق حملة MatchTheFineForPalestine#، لجمع تبرعات للنادي لتسديد مبلغ الغرامة البالغ مقدارها 9 آلاف جنيه إسترليني.


وتمكنت الجماهير حينها من جمع تبرعات هائلة، غطّت ما يفوق مبلغ الغرامة، حيث يقدر المبلغ الذي تم التبرُّع به نحو 176 ألف جنيه إسترليني، لذا تم استخدام المبلغ الباقي في التكفّل بمساعدات لفلسطين، وتأسيس نادي عايدة سلتيك.