سياسة دولية

حروب "مُفرغة".. "إسرائيل" على خطى الولايات المتحدة في الهزائم الاستراتيجية

الاحتلال فشل في تحقيق أي من أهدافه في قطاع غزة- جيتي
307 أيام مرت على حرب غزة، وما زال الاحتلال يدور بحلقة مفرغة من الحلول، خالية من تحقيق الأهداف التي أعلن عنها بداية العدوان، فالقوة العسكرية الغاشمة وسياسة التدمير الشامل لم تسعفه لاستعادة أسراه أو تصفية قادة المقاومة ولا حتى إزالة حماس من حكم القطاع.

وفجر الفشل المتراكم صراعا بين قادة الاحتلال أنفسهم، وبدا أن الحرب ذاهبة لمشهد من هزيمة استراتيجية قاسية تذكر بما جرى في فيتنام وأفغانستان وقبلهما ستالينغراد مع فارق القوى بينهم وقطاع غزة المحاصر.

حرب استنزاف
ويعرف هذا النوع من الحروب، التي تجر الجيوش إلى دائرة مفرغة من المعارك غير القابلة للحسم، ويتم التركيز فيها على استنزاف القوة العسكرية للخصم وتكبيده خسائر مادية كبيرة ومعنوية، حتى تصل إلى الذروة، ليقع بين خيارين إما الحفاظ على ما تبقى من القوة أو الاستمرار حتى الانهيار.

ويكون المقياس الأهم في مثل هذه الحروب، معنويا أكثر من كونه ماديا، فإرادة القتال والقدرة على التضحية، تحسمان إلى حد كبير حروب الاستنزاف، فضلا عن مقدرة الطرفين على تحمل تكاليف مواجهة غير قابلة للحسم ولفترة طويلة.

وبالنظر إلى الحرب المستمرة على قطاع غزة، فإنه يمكن رصد تأثير حرب الاستنزاف على الطرفين، لكن وقعها على أصحاب الأرض مختلف تماما عن ما تحدثه لدى الاحتلال.

ورغم الخسائر الكبيرة والدمار الذي يعم القطاع، فإن فشل الاحتلال بتحقيق نصره "الموعود" صار المحرك الأساس للأحداث في المنطقة، فجميع حلفاء إسرائيل وخصومها، باتوا ينظرون لها بطريقة مختلفة.

وتعالت الأصوات من داخل أوساط الاحتلال محذرة من مغبة الاستمرار بحرب "الاستنزاف" في غزة.

وكان آخر المحذرين، زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان الذي قال، إن "إسرائيل تخوض حرب استنزاف منذ 10 أشهر، وهذا يضر بمصالحها".

ويضيف ليبرمان الذي كان على رأس عدة وزارات أهمها الحرب والخارجية، أنه "لا خطة لدى إسرائيل لمواجهة إيران، وأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مهتم ببقاء حكومته".

وتابع: "لا يمكن إدارة حرب في وقت تشهد فيه العلاقات بين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت قطيعة مستمرة".

نماذج للهزيمة
تعتبر معركة ستالينغراد بوابة النصر السوفييتي على ألمانيا النازية، ومن أبرز بوادر الهزيمة الشاملة لهتلر، أنه فقط استطاع الجيش الأحمر إدارة حرب استنزاف كبيرة في المدينة التي أحكموها ككمين للألمان.

يشبه مأزق النازيين في ستالينغراد، غرق الاحتلال بمستنقع غزة، مع فارق القوى وطبيعة المعركة للطرفين، إلا أن المسار الاستراتيجي يبدو متشابها إلى حد كبير.

ورفض نتنياهو خلال الفترة الماضية الاستماع لجنرالاته حول القتال بلا أفق في غزة، في مشهد مستعاد من رفض هتلر نصيحة قادته العسكريين بعدم تشتيت الجهد والذهاب إلى موسكو مباشرة، إلا أنه أصر على رأيه فتعرض للنكسة الكبيرة.

ورغم سيطرة النازيين تقريبا على المدينة، إلا أن تحصن السوفييت في الضفة الغربية لنهر الفولغا، منحهم الأفضلية لشن عملية "أورانوس" التي انهار بعدها الألمان.

وقياسا على ذلك، فإن إدارة المقاومة لمواردها وتحصنها بالأنفاق منحها الأسبقية للمبادرة بهجمات خاطفة يكون تأثيرها على جيش الاحتلال، أكبر من تأثير القتال الجبهوي المفتوح.

ويشابه ما يجري في غزة، سيناريو الحرب الأمريكية في أفغانستان، حيث استمرت الحرب تسع سنين قتل خلالها مئات الآلاف من المدنيين إلا أن الجيش الأمريكي أجبر في نهاية المطاف على الانسحاب.

ورغم الفارق الكبير في الخسائر بين الفيتناميين والأمريكيين بشريا وماديا، إلا أن واشنطن رضخت أخيرا تحت نار البندقية وفضلت الانسحاب بدلا من مواصلة حرب استنزاف بلا أفق.

وقد حذر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بداية الحرب، قادة الاحتلال من الاستمرار في قتل المدنيين لأنه سيحول نصرهم التكتيكي إلى هزيمة استراتيجية.

ويمثل هذا التحذير الصادر من دولة خاضت حروبا كبرى في فيتنام وأفغانستان والعراق، مخاوف حقيقية من هزيمة استراتيجية للجيش الإسرائيلي، يعاد من خلالها سيناريو الفشل أمام طالبان و"الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام الشيوعية"، المعروفة بـ"فيت كونغ".

واضطرت الولايات المتحدة للانسحاب من أفغانستان بعد 20 عاما من الحرب ضد طالبان، رغم أنها حققت نصرا تكتيكيا بداية الحرب بإزالة حكم الحركة، وهذا النصر لم يتحقق للاحتلال في غزة.

وكان النفس الطويل للحرب وإرادة القتال لطالبان، من أبرز أسباب الهزيمة الاستراتيجية الأمريكية، وهذا تماما ما توفره المقاومة الفلسطينية في غزة.

وفي صراع مثل هذا، يكون انعدام الخيارات دافعا مهما للقتال الصفري، فأصحاب الأرض بين خياري الفناء قتلا وتهجيرا، أو القتال الذي يجبر قوة الاحتلال على التراجع، بينما لا تتوفر هذه الدوافع لدى الإسرائيليين الذين امتلأ بهم مطار بن غوريون خلال عملية طوفان الأقصى.

وبالتوازي مع تأخر الحسم على الأرض يسعى الاحتلال، لصناعة نصر مزعوم باغتيال قادة المقاومة سواء السياسيين أو العسكريين، حيث اغتال رئيس الوزراء الفلسطيني المنتخب إسماعيل هنية في طهران الأسبوع الماضي، لكن كانت النتائج مغايرة تماما، فالآن ينتظر الاحتلال بترقب الرد الإيراني وسط تحذيرات من حرب شاملة لن تستطيع حكومة نتنياهو خوضها دون تدخل أمريكي مباشر.

كما أن اغتيال هنية لم يدفع حماس للتراجع قليلا، فقد انتخبت يحيى السنوار المطلوب الأول لإسرائيل قائدا للحركة، وعادة مثل هذه الاغتيالات تأتي بنتائج عسكرية على الطرف الذي قام بها.

وفي التجربة الأفغانية استطاعت الولايات المتحدة تحييد عدد من قادة طالبان من بينهم ملا أختر منصور الزعيم الثاني بعد الملا عمر، إلا أن الحركة لم تتأثر واستطاعت في نهاية المطاف فرض إرادتها والظفر بحكم البلاد.

لا حسم في الأفق
حتى الساعة، لم يستقم الأمر لجيش الاحتلال بأي منطقة دخلها في قطاع غزة، إذ ما زالت الألغام والعبوات الناسفة وقذائف الياسين تحصد جنوده بشكل يومي، والأصعب من ذلك أن المقاومة توثق جزءا من ذلك بالصوت والصورة.

ولخص كمين الفراحين يوم أمس وقبله عمليات تل الهوى ورفح، المشهد الحربي بغزة، قوة عسكرية تدمر ثم تدخل ثم تقاتل أشباحا يختارون زمان ومكان المعركة.

ومنذ وقت مبكر من الحرب ظهر تململ القيادات العسكرية للاحتلال، ثم اتسعت دائرة الغضب عندما بات الاحتلال يقاتل في أماكن قد دخلها مسبقا، حتى هاجم رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هاليفي، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بسبب الفشل في استراتيجية الحرب.

وغير مرة أقر قادة الاحتلال بأن فكرة القضاء على المقاومة باتت غير قابلة للتطبيق، كما ذكر ذلك المتحدث باسم الجيش دانيال هاغاري في عدة مناسبات.

وسبق أن حذر اللواء السابق في قوات الاحتياط إسحاق بن بريك، من أن "الجيش الإسرائيلي لا يملك القدرة على إسقاط حركة حماس حتى لو طال أمد الحرب".

ونقلت وسائل إعلام عبرية عن بريك تشكيكه، في جدوى استمرار القتال في قطاع غزة، مبينا أن "إسرائيل في حال استمرارها في الحرب فستتكبد خسائر جسيمة تتمثل في انهيار جيش الاحتياط الإسرائيلي خلال فترة وجيزة كما أنها تشمل انهيار الاقتصاد، فضلا عن تدهور علاقاتها الدولية وتمزق مجتمعها من الداخل".

من جانبه قال رام بن باراك النائب السابق لرئيس الموساد، وعضو الكنيست عن حزب "يوجد مستقبل": "هذه حرب بلا هدف ونحن نخسرها بشكل لا لبس فيه".

وأضاف باراك الذي كان رئيس لجنة الأمن والخارجية في عامي 2021 و2022، للإذاعة العامة العبرية: "نحن مجبرون على العودة إلى القتال في نفس المناطق، وخسارة المزيد من الجنود".

‏وأردف في تصريحات سابقة: "كذلك نحن نخسر على الساحة الدولية، وتشهد علاقاتنا مع الولايات المتحدة تدهورا شديدا، والاقتصاد الإسرائيلي ينهار"، وأضاف مستنكرا: "أرني شيئا واحدا نجحنا فيه!".