أثار الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان جدلاً
كبيراً بتصريحه الأخير بخصوص موقف بلاده من العدوان على قطاع غزة. فقد قال أردوغان
إن على بلاده أن تكون "قوية جداً، حتى لا تستطيع
إسرائيل أن تفعل ما تفعله
بالفلسطينيين"، مضيفاً أنها تدخلت في كل من إقليم ناغورنو قره باخ (الإقليم
المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان) وليبيا و"قد تفعل الشيء نفسه مع
إسرائيل"، إذ ليس ثمة ما يمنع ذلك "يكفي فقط أن نكون أقوياء" على
حد تعبيره.
التصريح اللافت للرئيس التركي تسبب بردات
فعل حادة ومتشنجة لدى دولة الاحتلال، حيث قال وزير خارجيتها يسرائيل كاتس إن
أردوغان بتهديده "يسير على خطى صدام حسين" الذي كان هدد
"إٍسرائيل" ثم رماها بالصواريخ مضيفاً أن على أردوغان "أن يذكر ما
حصل وكيف انتهى الأمر هناك". كما قال زعيم المعارضة يائير لابيد إن
"إسرائيل لن تقبل
التهديد من دكتاتور" داعياً أعضاء حلف الناتو لإدانة
تصريحه "وإجباره على إنهاء دعمه لحماس".
كما كان من اللافت أن تأتي انتقادات لتصريح
الرئيس التركي من خارج دولة الاحتلال، حيث دعا السياسي الهولندي المتطرف خيرت
فيلدر إلى طرد
تركيا من حلف الناتو، وهو مطلب تلاقى فيه مع وزير خارجية الاحتلال
كاتس.
ليست المرة الأولى التي يطرح فيها أردوغان فكرة التدخل عسكرياً في فلسطين، حيث كان سبق وأن اقترح أكثر من مرة أن تشارك تركيا ضمن الدول الضامنة لأي اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة وأن تشارك في إطار ذلك بقوات على الأرض في غزة وعموم الأراضي الفلسطينية.
وردّت الخارجية التركية على تهديدات
وتلميحات كاتس، ببيان للخارجية شبه نتنياهو بـ "مرتكب الإبادة الجماعية
هتلر" مؤكداً على أن الأول سيلقى المصير ذاته الذي لقيه الثاني، وعلى أن
"الإنسانية ستقف إلى جانب الفلسطينيين" الذين "لن تستطيعوا
إبادتهم" وفق البيان. كما كتب وزير الخارجية خاقان فيدان على حسابه على منصة
إكس إن الرئيس أردوغان "بات صوت الضمير الإنساني، والذين يحاولون إسكات صوت
الحق وعلى رأسهم الدوائر الصهيونية وإسرائيل يعيشون حالة من الهلع الكبير"،
مؤكداً على أن التاريخ يظهر أن "النتائج ستكون واحدة لكل مرتكبي الإبادة
الجماعية وداعميها".
وفي حين يتابع الجميع التراشق في التصريحات
والمواقف بين أنقرة وتل أبيب، يبقى السؤال الأكثر حضوراً بخصوص التصريح أسبابه وما
عنى به الرئيس التركي.
من المهم الإشارة أولاً إلى أنها ليست المرة
الأولى التي يطرح فيها أردوغان فكرة التدخل عسكرياً في فلسطين، حيث كان سبق وأن
اقترح أكثر من مرة أن تشارك تركيا ضمن الدول الضامنة لأي اتفاق لوقف إطلاق النار
في غزة وأن تشارك في إطار ذلك بقوات على الأرض في غزة وعموم الأراضي الفلسطينية.
ومن البديهي أن سياق هذه التصريحات السابقة يختلف جذرياً عن التصريح الأخير الذي
أشار إلى النزاع في كل من ليبيا وجنوب القوقاز حيث تدخلت أنقرة عسكرياً بشكل مباشر
وداعم لأحد طرفي النزاع بالسلاح والخبرة.
قد يُظن بأن الأمر لا يعدو عن كونه زلة لسان
للرئيس التركي من باب أنه كان في لقاء حزبي في مسقط رأسه ـ مدينة ريزة ـ في البحر
الأسود وبين كوادر الحزب وأنصاره، بيد أن الالتزام الحديدي بالنص المعروف عنه ونقل
الكلام على الهواء مباشرة يضعف كثيراً من هذه الفرضية.
إن السياق الرئيس لتصريح أردوغان هو سياق
دفاعي أو اعتذاري، إذ أتى في معرض الرد على انتقادات ومناشدات وجّهت للحكومة في
الآونة الأخيرة من الشارع و/أو النخب و/أو بعض أحزاب المعارضة بخصوص الموقف من
الحرب على غزة، ومن بين ذلك المطالبة بدعوة شخصية فلسطينية لإلقاء كلمة أمام
البرلمان التركي كردٍّ على خطاب نتنياهو أمام الكونغرس. ولذلك فقد حرص الرجل على
تأكيد أنه "ليس هناك ما يمنع" أن تفعل بلاده ذلك في فلسطين رابطاً ذلك
بشرط "القوة والقدرة"، أي أنه أراد إثبات النية والموقف رابطاً الأمر
بعدم القدرة حالياً.
وعليه، فالدافع الأساسي لكلام الرئيس التركي
هو الرد على المعارضة التي طالما اتهمها بالمزايدة على مواقفه والتحدث بدون إلمام
ومعرفة. بيد أن ذلك لا يبدو كافياً لوحده لفهم سياق الحديث، إذ أن الحكومة تتعرض
لانتقادات شبيهة منذ بداية العدوان.
ثمة سياقان متعلقان بشكل مباشر بـ
"إسرائيل" مهمان جداً في فهم الأبعاد الكاملة لتصريح أردوغان. الأول أن
التصريح أتى على هامش تهديدات "إسرائيلية" متزايدة بضربة كبيرة
للبنان/حزب الله يمكن أن تشعل مواجهة إقليمية وفق تحذير عدد من الأطراف الإقليمية
والدولية، وستكون تركيا بالتأكيد من ضمن الدول المتأثرة بها إن حصلت. هنا، يوجّه
أردوغان تحذيراً للولايات المتحدة ـ على طريقته ـ بأن ترك المجال لنتنياهو لتنفيذ
خططه ضد لبنان ستكون له تداعيات وخيمة على كامل المنطقة. وقد كان له تصريح قبل
أسابيع بهذا المعنى لدى تصاعد نبرة التهديد ضد لبنان آنئذ.
ثمة ما ينبغي على أنقرة ويمكنها فعله دون أثمان كبيرة متخيّلة. يمكن ـ وينبغي ـ مثلاً تفعيل خيار الانضمام لقضية الإبادة أمام محكمة العدل الدولية، وقطع التجارة بشكل كامل ونهائي مع دولة الاحتلال، وقطع العلاقات الدبلوماسية معها، ووقف تصدير النفط الأذربيجاني إليها عبر الموانئ التركية، وغلق المجال الجوي التركي أمام دولة الاحتلال والدعم الذي قد يصلها، وإقرار حزمة من القوانين في البرلمان (بخصوص مزدوجي الجنسية في جيش الاحتلال وغير ذلك).
والسياق الثاني هو تطاول المدى الزمني
للعدوان على غزة دون قدرة الاحتلال على الحسم من جهة وباقترافه المزيد من المجازر
بحق المدنيين من جهة ثانية. بمعنى أن الاحتلال الذي عجز عن القضاء على المقاومة
كما ادعى في بدايات الحرب بات اليوم أكثر عجزاً عن ذلك، وكشفت معركة طوفان الأقصى
الكثير من الثغرات والأخطاء في بنيته الأمنية والعسكرية ما جرّأ الكثيرين على
انتقاده في هذه الزاوية تحديداً.
وقد كان من بين من وجه الانتقادات للمنظومة
الأمنية ـ العسكرية لـ "إسرائيل" واتضاح أنها أضعف مما تروج عن نفسها
وزير الخارجية التركي (رئيس جهاز الاستخبارات السابق) فيدان ورئيس جهاز
الاستخبارات السعودي الأسبق تركي الفيصل الذي قال إن "طوفان الأقصى حطمت صورة
إسرائيل القوية أمام العالم". بمعنى، أن الطوفان قد كشف عورة الاحتلال
الأمنية والعسكرية وهشّم أساطيرها وعرّضها للنقد، بل والسخرية من أطراف إقليمية
وليس فقط من قبل المقاومة. وهنا، من المهم الإشارة إلى أن تصريح أردوغان لم يشر
فقط لفكرة التدخل (الفعل) بل تجاوزها نحو القدرة على لجم "إٍسرائيل"
(التأثير).
أخيراً، لا تفوتنا الإشارة إلى أن التصريح
ورغم حدته وسقفه المرتفع جداً، ورغم انزعاج الاحتلال منه، ورغم أنه يشكل سابقة
مهمة يجدر الالتفات لها ومتابعة ارتداداتها، يبقى ـ رغم كل ما سبق ـ تصريحاً
وموقوفاً بدعوى "عدم القدرة"، أي أنه كلام دون انعكاس عملي حالياً، ما
يؤكد وجود هوّة واسعة بين سقف الخطاب الرسمي لأنقرة وحدود مواقفها العملية.
والحقيقة أنه دون الخيار العسكري، أياً كان
شكله، ثمة ما ينبغي على أنقرة ويمكنها فعله دون أثمان كبيرة متخيّلة. يمكن ـ
وينبغي ـ مثلاً تفعيل خيار الانضمام لقضية الإبادة أمام محكمة العدل الدولية، وقطع
التجارة بشكل كامل ونهائي مع دولة الاحتلال، وقطع العلاقات الدبلوماسية معها، ووقف
تصدير النفط الأذربيجاني إليها عبر الموانئ التركية، وغلق المجال الجوي التركي
أمام دولة الاحتلال والدعم الذي قد يصلها، وإقرار حزمة من القوانين في البرلمان
(بخصوص مزدوجي الجنسية في جيش الاحتلال وغير ذلك).
هذه الخيارات والمسارات ـ وغيرها ـ ممكنة
ومفيدة عملياً، وفي إطار القدرات التركية، ولا يتوقع أن يكون لها كلف أو أثمان
سياسية واقتصادية باهظة، وهي إلى ذلك تتسق مع توصيف أنقرة للحرب على غزة بالإبادة
الجماعية ولـ "إسرائيل" بدولة الإرهاب، حيث ينبغي قطع أي علاقة و/أو
تعاون يمكن أن يقوّي شوكتها للاستمرار بالإبادة، وهذا أضعف الإيمان.