أفكَار

هل من تأثير لطوفان الأقصى في تفسير صعود اليمين المتطرف بالانتخابات الأوروبية؟

لا ينبغي أن نغفل دور اللوبيات المالية والاقتصادية المقربة من اللوبي الصهيوني التي أضحت ترى أن أحزاب اليمين المتطرف هو ملاذها الأخير.
نتائج الانتخابات الأوروبية التي تم الإعلان عنها مؤخرا خلفت وراءها عددا من الأسئلة، ودفعت صناع القرار السياسي الأوروبي إلى المسارعة إلى إنتاج خيارات الضرورة لمواجهة السيناريوهات الأكثر سوءا مما يرتبط بالانتخابات التشريعية والرئاسية في عدد من البلدان الأوروبية.

ينبغي أن نلاحظ أن انشغال السياسيين بترتيب أجوبة لمنع هذه السيناريوهات المقلقة حال دون فتح نقاش حقيقي حول أسباب صعود اليمين المتطرف ودلالاته واستشرافاته، بل جعل عملية الربط بين هذا الصعود وبين تغيرات السياق الدولي والإقليمي أمرا هامشيا بالقياس إلى أولوية إعداد خيارات مواجهة اليمين ومنعه من الوصول إلى السلطة.

بالنسبة للانتخابات الأوروبية والزخم الذي حققه اليمين المتطرف فيها، فيشكل حدثا كبيرا، يتطلب أن يوضع في مشرحة التحليل، وألا يتم التغطية عليه بأي حدث آخر، حتى ولو كان يندرج ضمن تقديم الجواب عن التهديد الذي يشكله صعود اليمين المتطرف في أوروبا.
لنتأمل على سبيل المثال، كيف وقع الانزياح في اهتمامات الرأي العام الفرنسي بشكل كلي، من أولوية تحليل دلالات صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية إلى تسليط الضوء الكثيف على قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (حل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات تشريعية سابقة أوانها)، فوسائل الإعلام الفرنسية، بدون استثناء، حولت بوصلتها إلى تحليل خلفيات هذا  القرار الجريء، وما إذا كان الرئيس الفرنسي قد ركب مغامرة غير محسوبة، فأعطى بذلك هدية ثمينة ليمين مارين لوبين كي تستعجل الوصول إلى قصر الإليزيه بعد أن تهيمن على مقاعد الجمعية الوطنية، أم أن  قراره جاء في سياق حسابات دقيقة لتحديد المسؤوليات التاريخية للفرنسيين ولحزب ماكرون تحديدا أمام كارثة الصعود المرتقب لليمين المتطرف في الانتخابات المقبلة؟ في حين ظل سؤال تحليل الانتخابات الأوروبية والعوامل التي زكت هذا التوجه العام في أوربا مجرد هامش على متن تفسير خلفيات قرار الرئيس.

في الواقع، قد يكون مبررا لصناع القرار السياسي الاهتمام بمواجهة خطر يقدرون أنه يمس مصالحهم أو يمس مصالح الأمة، لكن بالنسبة للانتخابات الأوروبية والزخم الذي حققه اليمين المتطرف فيها، فيشكل حدثا كبيرا، يتطلب أن يوضع في مشرحة التحليل، وألا يتم التغطية عليه بأي حدث آخر، حتى ولو كان يندرج ضمن تقديم الجواب عن التهديد الذي يشكله صعود اليمين المتطرف في أوروبا.

صعود اليمين المتطرف في أوروبا.. مسار مضطرد

من المهم أن نشير إلى أن سجل نتائج الانتخابات الأوروبية، ونتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية في عدد من البلدان الأوروبية، تكرس واقع الاضطراد والتنامي بالنسبة إلى اليمين المتطرف، فلا مجال للحديث عن أي طفرة، أو تقدم عفوي غير مفهوم، بل اتجاه التصاعد والتنامي يسير بشكل مضطرد منذ عقدين من الزمن، والأمر لا يتعلق فقط ببلد دون آخر، بل يكاد يكون عاما، ويشمل إيطاليا وألمانيا وفرنسا والنمسا وهولندا وغيرها من الدول الأوروبية.

فعلى سبيل المثال، نسوق بعض أرقام اليمين المتطرف الفرنسي الذي أحدث صعوده زلزالا سياسيا في فرنسا، فالتجمع الوطني الفرنسي (حزب مارين لوبين)، قد راكم على مستوى الانتخابات الأوروبية تقدما مضطردا، فبعد أن حصل سنة 2009 على أقل من 6.5 في المائة من الأصوات، تمكن من الحصول على 25 في المائة سنة 2014، ليحقق حسب النتائج الأولية للاستحقاقات الأوروبية لسنة 2024 على حوالي 32 في المائة. وحقق على مستوى الرئاسيات تقدما مماثلا، فباستثناء التراجع المتتالي في استحقاقات 2007 و2012، بواقع ناقص نقطتين في كل استحقاق قياسا إلى نتائج استحقاق 2002 التي حقق فيها 16.9 في المائة، فإنه استطاع أن يقلب المسار، ويحقق تقدما مضطردا، في الاستحقاقات التالية، فحقق سنة 2022 في الدور الأول من استحقاقات 2017 نسبة أصوات بلغت 21.3 في المائة، وأضاف حوالي نقطتين في استحقاقات 2022 بواقع 23.15 في المائة.

الواقع أنه ليست الأرقام وحدها ما يفسر وجود هذا الاتجاه المتنامي والمضطرد في نتائج اليمين المتطرف، بل قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه، يعتبر مؤشرا شاهدا عليه، فالرسالة الملتقطة منه وجود إرادة لمنع اليمين المتطرف من الوصول إلى السلطة في المركزين القويين في أوربا، أي فرنسا وألمانيا، وأن هناك وعيا مشتركا خاصة بين برلين وباريس أن تعميم حالة إيطاليا على أوروبا سيقود إلى الكارثة، خاصة بعد أن أظهرت النتائج التشريعية في السنة الماضية (2023) في هولندا تصدر حزب "الحرية" اليميني المتطرف النتائج بواقع 35 مقعدا من أصل 150.

سجل نتائج الانتخابات الأوروبية، ونتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية في عدد من البلدان الأوروبية، تكرس واقع الاضطراد والتنامي بالنسبة إلى اليمين المتطرف، فلا مجال للحديث عن أي طفرة، أو تقدم عفوي غير مفهوم، بل اتجاه التصاعد والتنامي يسير بشكل مضطرد منذ عقدين من الزمن، والأمر لا يتعلق فقط ببلد دون آخر، بل يكاد يكون عاما، ويشمل إيطاليا وألمانيا وفرنسا والنمسا وهولندا وغيرها من الدول الأوروبية.
هذه الرسالة المهمة تعني وجود قلق أوربي من واقع تصاعد اليمين المتطرف، ومخاوف من أن يهدد المصالح الأوروبية الاستراتيجية، فهذا التصاعد المضطرد أصبح يمثل تهديدا لأن الأمر لم يعد يتعلق بمجرد أصوات مؤثرة في البرلمان الأوروبي، بل صار الأمر يتعلق بالمفوضية الأوروبية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي ذات الصلاحية التقريرية، بل أكثر من ذلك، صار يتعلق بالاستحقاقات القادمة سواء التشريعية أو الرئاسية في كل بلدان أوروبا، والتي يمكن أن تزكي اكتساح اليمين المتطرف لهياكل السلطة.

في المحصلة، سواء تعلق الأمر بالنتائج التي حصلها اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية على مدى عقدين، أو تعلق الأمر بنوع الأجوبة التي ينتجها الساسة الأوروبيون لمنع سيناريو وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، فإن الواقع الذي لا يرتفع أن هذا الصعود هو اتجاه تاريخي مضطرد، وليس مجرد استجابة ظرفية لمشكلات مخصوصة أو سياق سياسي أو دولي مخصوص.

صعود اليمين المتطرف في أوروبا.. هل له علاقة بطوفان الأقصى؟

المفارقة، أن هناك من يحاول أن يقرأ هذه النتائج باستحضار طوفان الأقصى، ونوع القراءة التي يقدمها اليمين المتطرف لحقيقة الحرب على غزة، وكونها تمثل استجابة لتحد وجودي تعانيه الدولة العبرية، وأن الأمر يتطلب تعبئة يمينية شاملة لمواجهة حالة الحصار الدولي الذي تعانيه الدولة العبرية.

نظريا، هذا التفسير ممكن، فأغلب تيارات اليمين المتطرف تدعم إسرائيل، وتعتبر أن مشكلة أمنها لن تحل أبدا إلا باستئصال فصائل المقاومة المسلحة، وبشكل خاص حماس، التي تعتبر في الأدبيات اليمينية المتطرفة "تطرفا" أو "إرهابا إسلاميا"، ويمكن أن يكون لهذا لتفسير متعلق من الواقع، إن تم استحضار مواقف بعض الدول الأوربية، التي ساهمت في عزل الكيان الصهيوني دوليا عبر إدانته حقوقيا وأخلاقيا، فاليمين المتطرف في هذه الدول يرى في هذه المواقف تخليا واضحا عن الدولة العبرية، ومساهمة في تعظيم مشكلتها الأمنية، بل يرى أن هذه المواقف أضحت تشكل خطرا وجوديا إلى إسرائيل.

لكن مهما يكن الأمر، فهذه التفسيرات تبقى نسبية، إذا ما استحضرنا بعض الأرقام الدالة المتعلقة بتحليل بروفايلات المرشحين للبرلمان الأوربي الذين حصلوا على مقاعد، فحسب إحدى الاستشرافات التحليلية الفلسطينية، فمنذ السابع من أكتوبر، لم يتجاوز أعضاء البرلمان الأوروبي الذين قاوموا البروباغندا الأوربية الداعمة لإسرائيل 21 من أصل 703 برلمانيا، في حين تظهر النتائج الأولية للاستحقاقات الأوربية صعود عدد مهم من الذين يفترض فيهم مناصرة القضية الفلسطينية، إذ يمكن أن نعدد -اعتمادا على معيار الذين نجحوا ضمن الأحزاب التي دعمت القضية الفلسطينية ضد العدوان الصهيوني -أكثر من 70 برلمانيا، أكثرهم ينتمون إلى تكتل رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز.

ثمة مؤشر آخر، مهم، يقدم الحجة المعاكسة لهذا التفسير، فاليمين المتطرف الإسباني، أقصد حزب فوكس، حصل على ست مقاعد فقط، ولم يتراجع الحزب الاشتراكي إلا بمقعد واحد (من 21 إلى 20)، وذلك ليس بسبب قوة اليمين المتطرف، ولكن بسبب الحملة الممنهجة التي قادها الحزب الشعبي باتهام زوجة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز  بالفساد فضلا عن إقرار بيدرو سانشيز بقانون العفو عن الزعماء المؤيدين لاستقلال كاطلونيا، ولم يكن لمساندة تكتل رئيس الوزراء لقيام الدولة الفلسطينية أي أثر في تفسير الفارق بينه وبين الحزب الشعبي (حصل على 22 مقعدا بواقع مقعد إضافي عن الانتخابات السابقة).

الأرقام المرتبطة بالأحزاب اليمينية في إيطاليا أو النمسا أو هولاندا، يصعب تفسيرها بالارتباط بطوفان الأقصى، بل تعود كلها إلى الزخم المضطرد الذي عرفه اليمين المتطرف في هذه الدول وذلك منذ أكثر من عقد من الزمن.

سياقات إقليمية ودولية مغذية لاتجاه الصعود اليميني المتطرف

كل المؤشرات السابقة والحجج المعكوسة لا تعني أكثر من صعوبة ربط هذا الصعود بطوفان الأقصى، لكنها في الجوهر لا تعني عدم وجود تأثيرات مغذية، مثلها في ذلك مثل بقية التأثيرات الأخرى المرتبطة بالسياق الإقليمي والدولي، وأيضا بالواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي ترتب في عدد من الدول الأوربية، منذ جائحة كورونا مرورا بالحرب الروسية إلى أوكرانيا ثم طوفان الأقصى وتداعياته الاقتصادية.

العامل الأكثر تفسيرا لحالة الصعود المضطرد لليمين المتطرف يعود إلى تنامي اللايقين في القارة العجوز، وذلك منذ جائحة كورونا، وما أعقبها من الحرب الروسية على أوكرانيا، وتوالي الأزمات الطاقية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن ذلك. فاليمين المتطرف، دائما ما يستثمر في الأزمة، وهو اليوم بجانب استثماره في النقمة الاجتماعية من ارتفاع نسب التضخم، وارتفاع تكاليف المعيشة، وصعود أسعار الطاقة، وارتفاع أرقام البطالة، فضلا عن بداية تنصل الدولة من بعض الخدمات الاجتماعية أو تقليص وعائها، يقود بعض مكوناته حملة ممنهجة ضد السياسة الخارجية الأوروبية اتجاه الحرب الروسية الأوكرانية ويتهمها بتقديم أوربا قربانا لتحقيق المصالح الأمريكية.

العامل الأكثر تفسيرا لحالة الصعود المضطرد لليمين المتطرف يعود إلى تنامي اللايقين في القارة العجوز، وذلك منذ جائحة كورونا، وما أعقبها من الحرب الروسية على أوكرانيا، وتوالي الأزمات الطاقية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن ذلك.
صحيح أن داخل اليمين المتطرف في أوروبا اليوم فريقان، الأول منحاز لروسيا يرفض أن تكون أوروبا ملحقة أمريكية، والآخر ينبذها ويعتبر أن أوكرانيا مجرد خطوة أولى في انتظار التهاب الدب الروسي لكل أوربا. لكن مهما يكن هذا الاختلاف، فقد لعبت الحرب الروسية دورا مزدوجا في خدمة مواقع اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، فالذين يرفعون شعار الأمن الأوروبي في وجه التغول الروسي، هم أنفسهم الذين ينتقدون السياسة الاقتصادية الأوروبية التي ساهمت في ارتفاع منسوب النقمة الاجتماعية من الأوضاع.

في الواقع، الخيط الذي يمكن نسجه بين صعود اليمين المتطرف، وبين تحولات السياق الدولي وأجواء التوتر والحروب التي تميزه، أن اليمين المتطرف توفرت له كل الظروف للفوز بالانتخابات: منها أولا، واقع النقمة الاجتماعية من تردي الأوضاع الاقتصادية وتداعياتها على معاش الناس، وهو الواقع الذي أضفى قدرا من "المشروعية" على خطابات اليمين المتطرف، وبرر عودة مفهوم "المواطن الأصلي" و"المهاجر المقيم"، ومفهوم "الجنسية"، ومفهوم "الأمن"، ومفهوم "الأفضلية الوطنية"، فواقع الندرة الاقتصادية، يثير مشكلة الفرص الاقتصادية، ويعمق التباينات بين مكونات المجتمع، ويعطي فرصة لليمين المتطرف لإحياء مفاهيمه وإضفاء الشرعية عليها. ومنها ثانيا، تأثيرات الحروب والتوترات الدولية والإقليمية على الاقتصادات الأوروبية، وكيف تدفع اليمين المتطرف إلى إضفاء المشروعية على مفاهيم "الحدود" وتطبيق "النظم الحمائية" في العلاقات التجارية الخارجية. ومنها ثالثا، أن اليمين المتطرف أمام واقع فشل الحكومات الأوروبية في إنتاج أجوبة في وجه التحديات الداخلية والخارجية، أصبح يقدم نفسه بديلا عن الأحزاب الأخرى التي كانت دائما ما تتهمه بضعف الخبرة وعدم امتلاك أي برنامج اقتصادي واجتماعي. ومنها أيضا، أن عددا من أحزاب اليمين المتطرف، أضحت تنظر إلى السياسات الأوربية باعتبارها ملحقة من ملحقات الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه آن الأوان لإعادة النظر في الحرب الروسية الأوكرانية والمساهمة في التوسط للتوصل لحل سلمي، بدل أن تكون أوربا قربانا يقدم من أجل خدمة المصالح الاستراتيجية الأمريكية.

وفي الأخير، لا ينبغي أن نغفل دور اللوبيات المالية والاقتصادية المقربة من اللوبي الصهيوني التي أضحت ترى أن أحزاب اليمين المتطرف هو ملاذها الأخير، بعد أن قامت عدد من الأحزاب الأوروبية بدور مركزي في عزل الدولة العبرية وإدانتها أخلاقيا، بل قامت بالضغط من أجل التسريع بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.

في المحصلة، الأقرب إلى التقدير، أن نميز بين العوامل المفسرة التي ترتبط بإحياء إشكالات الهوية والجنسية والوطن والفرص الاقتصادية وبين العوامل المغذية، التي تشكل فيها التوترات الإقليمية والدولية محطات مناسبة لإضفاء الشرعية على جملة من الخطابات التي كانت تعد في الأمس القريب خطابات عنصرية أو خطابات كراهية، وصارت اليوم، تحظى بقدر من الاحترام من مكونات عريضة داخل المجتمع الأوروبي.