مقالات مختارة

الصهاينة و"مشروع قبرص"

جيتي
يذكر الأب المؤسّس للصهيونية ثيودور هرتزل، قبرص 40 مرة في يوميّاته. لكن جميعها تَرِد في سياقين فقط: الأوّل، ولمرّة واحدة، كأرض قابلة للشراء والمقايضة مع الباب العالي في إسطنبول؛ مِن أجل الاستحصال على وعد لإقامة دولة يهودية في فلسطين. الثاني، وهو السياق الأهمّ، كمشروع استيطاني بديل.

يقول هرتزل، وهو أوّل رئيس للمنظمة الصهيونية العالمية التي تأسّست عام 1897؛ إنّ قبرص تبادرت إلى ذهنه فور سماعه نصيحة الوجيه العثماني عزّت بك، بأنْ "يستحوذ اليهود على قطعة أرضٍ غيْر فلسطين، ويقدّمونها مع مبلغٍ مِن المال" إلى السلطان كبادرة حُسْن نِيّة. مع مرور الوقت، تراجعت حظوظ قبول السلطنة بمنح حقّ إقامة دولة يهودية في فلسطين. فقد اعتبر هرتزل أنّ إسطنبول ليست يائسة بما فيه الكفاية للتخلّي عن فلسطين (مقابل عرض هرتزل بإطفاء ديونها)، وأنّ الصهاينة سيواجِهون تظاهرات معادية في أرجاء السلطنة في المستقبل القريب. في المقابل، يحتاج فقراء اليهود (الأوروبيين) إلى مساعدةٍ فورية، والحركة الصهيونية قد تخرُج عن طوعه وتبقى "كتلة هوائية عرضة للتبخّر"، إذا لمْ يقدّم إنجازا ما عند عقْد المؤتمر الرابع للمنظّمة العالمية الصهيونية.

في ظلّ هذه الظروف غيْر المؤاتية، حاولَ هرتزل رسمَ استراتيجية بديلة وعلى رأسها "مشروع قبرص"، الذي نادى به الصهيوني الألماني دايفيس ترايتش، وروّج له بنجاح في رومانيا. رأى هرتزل في قبرص مشروعا استيطانيا مرحليا إلى حين تفكّك السلطنة أو عدولها عن معارضة الخيار الفلسطيني. فالجزيرة قريبة جغرافيا مِن فلسطين، ويمكن أنْ تصبح، بحسب تعبيره، نقطة انطلاق للاستيلاء على "أرض إسرائيل" بالقوّة إذا لزم الأمر. وفي حينها، كانت قبرص تحت الوصاية البريطانية (منذ عام 1876) ما جعلها، وبحسب المنطق الاستعماري، أرضا مستباحة للتملّك والاستيطان رهنا بموافقة لندن. وفي نسخة موسّعة مِن الخطّة، شملَ "مشروع قبرص" المطالبةَ باستيطان سيناء والعريش (فلسطين المصرية على حدّ قول هرتزل)، وهو ما عُرف بمشروع "سيناء-العريش-قبرص".

سعى هرتزل إلى تنفيذ "مشروع قبرص" مِن خلال لقاءاتٍ متعدّدة مع صنّاع القرار في بريطانيا لحيازة الغطاء السياسي، ومع كبار أثرياء اليهود الأوروبيين للحصول على الدعم المالي. تكشفُ محاضرُ هذه اللقاءات التي دوّنها هرتزل في يومياته، عن الأطماع الاستعمارية والعقلية العنصرية للصهاينة في التعاطي مع الشعب القبرصي وأرضه، وعن العوائق التي واجهتهم في تحقيقه.

في رسالته إلى اللورد روتشيلد، يقول هرتزل؛ إنّ وجود "مستعمرة يهودية كبيرة في شرق المتوسط"، سيرفع مِن فرص الاستحواذ على فلسطين، وإنّ "اليهود في مستعمرة إنكليزية تحت راية الشركة الشرقية اليهودية، لن يكونوا أقلّ وفاء للصهيونية مِن المستعمرين [اليهود]... في الأرجنتين البعيدة". ويضيف أنّ لديه "خطّة سرّية" بالتوازي مع "مشروع قبرص"، وهي استيطان العراق بعد أنْ عرض عليه ذلك السلطان عبد الحميد. وخلال اجتماع هرتزل مع روتشيلد، دعا هرتزل الأخيرَ إلى ترتيب اجتماع يضُمّ وُجهاء مدينة لندن لإنشاء الشركة اليهودية، التي ستؤدّي خدمة وطنية لإنكلترا. وأصرّ هرتزل أنْ يبقى المشروع في إطار "البيزنس مِن دون أي نشاط خيري". تجاوب روتشيلد مع طرح هرتزل ووعده بنقاش الموضوع مع وزير المستعمرات اللورد جايمس تشامبرلين، في حال كتبَ هرتزل تعهّدا خطّيا لمشروعه. لكن روتشيلد، بعكس طموحات هرتزل، أراد أنْ يبقى المشروع في نطاق "تجربة صغيرة لا تتعدّى [إرسال] 25 ألف مستوطن".

لمْ يلق هرتزل تجاوبا كبيرا عند لقائه تشامبرلين، بالرغم مِن إبداء الأخير إعجابه بالصهيونية كفكرة، واستعداده للمساعدة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. أبلغ تشامبرلين ضيفه، بحسب رواية الأخير، أنّ هناك يونانيين ومسلمين يعيشون في قبرص، وأنه لا يستطيع إزاحتهم مِن أجْل مهاجرين جدد، وأنّ واجبه يملي عليه الوقوف إلى جانبهم. وفي حال قاوم اليونانيون الهجرة اليهودية بدعم مِن روسيا ودولة اليونان، فالأمور ستتفاقم، فضلا عن القلاقل التي ستثيرها النقابات العمّالية في قبرص، -كتلك التي تثيرها النقابات في الناحية الشرقية للندن-؛ احتجاجا على قدوم عمّال أجانب. وأشار تشامبرلين إلى أنّ اليونانيين سيقاومون اليهود في قبرص، كما يعارض الأستراليون هجرة الهنود؛ خوفا مِن أنْ "يغرقوا" بينهم. ثمّ خَتَمَ تشامبرلين بالقول، ودوما بحسب رواية هرتزل، "جِدْ لي بقعة في حوزة بريطانيا لم يقطنها أناس بيض حتّى الآن، ويمكننا مناقشة الموضوع".

لم ييأس هرتزل وأعلم روتشيلد عن نيّته إرسال "ستة رجال إلى قبرص كي يخلقوا طلبا شعبيا لدعوة اليهود [إليها]". وأطلق لمخيّلته الاستعمارية العنان، فتفتّقت عن مخطّط جديد: شراء الموزمبيق مِن البرتغال مقابل وعد بتغطية عجزها المالي ودفع ضريبة، ومِن ثمّ استخدامها كمجرّد سلعة لمقايضتها مع الإنكليز مقابل "شبه جزيرة سيناء بأكملها... وربما قبرص". في نهاية المطاف، ذهبت جهود هرتزل أدراج الرياح بعد أنْ حسمت المنظّمة الصهيونية العالمية أمرها، وحصرت خيارها الاستعماري في فلسطين.

فشلَ المشروع الصهيوني الاستيطاني في قبرص، لكنّ المشروع البريطاني الإمبريالي في الجزيرة، استمرّ بنسخة احتلالية مباشرة حتى سنة 1960 وبنسخة غيْر مباشرة بعدها. لم تتخلّ لندن عن حُكمها لقبرص قبْل أنْ تساهم في تقسيم الجزيرة، كما ساهمت في تقسيم الهند وبلاد الشام وغيرهما مِن دول الجنوب. احتفظت لندن كذلك بقواعد عسكرية في الجزيرة ضمْن مناطق تقع تحت سيادتها. تُشكّل هذه المناطق، باعتراف حاكِمها الجنرال روب تومبسون، "امتدادا عالميا" لدولته، و"ميزة استراتيجية" للغرب. وقد شاركت القاعدة الجوّية البريطانية الموجودة في تلك المنطقة في عملياتٍ عسكرية في العراق وأفغانستان، وأخيرا في تدعيم جبهة "الناتو" الشرقية بعْد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.

وفي العقد الأخير، عملتْ قبرص على توطيد علاقاتها مع إسرائيل، خاصّة على المستويين الاقتصادي والعسكري. انضمّت قبرص إلى منتدى غاز شرق المتوسّط، وهو منتدى تطبيعي يضمّ مصر والأردن واليونان وإيطاليا وسلطة رام الله، إلى جانب الكيان الصهيوني. وعلى الصعيد العسكري، تقوم قبرص بمناوراتٍ برّية وبحرية وجوّية مع إسرائيل بشكلٍ دوري.

في عام 2022، شملت هذه المناورات، وبحسب قناة "أي 24" الإسرائيلية، محاكاة لحرب في العمق اللبناني ضدّ حزب الله. ويأتيك اليوم مَن يتذمّر مِن تحذير حزب الله لقبرص، ومَن يهرع لطمأنة نيقوسيا بدلا مِن مساءلتها لطمأنة المقاومة وحماية لبنان، لا مصالح الكيان. لكنّ لبنان الرسمي، شأنه شأن الأنظمة الرسمية العربية، غارق في سباتٍ سيادي عميق.

الأخبار اللبنانية