كثيرة هي التصريحات والمواقف اللافتة والصارخة التي بتنا
نراها ونسمعها تنطلق من هنا وهناك عقب اشتعال معركة طوفان الأقصى، فقد كانت
المعركة فاضحة وكاشفة على نحو لافت، سقطت الأقنعة، وانكشف الكذب والدجل، والدعاية
المضللة، وتميز عدوك عن حبيبك، وانقسم العالم كله إلى "فسطاطين!" أو
قسمين، أحدهما معك والآخر ضدك، ومن لم يعلن موقفه صراحة، فضحته مواقفه ما ظهر منها
وما بطن.
الحكاية ليست فقط معركة بين "دولة" عظمى في
ظهرها دول أعظم منها وبين "فصيل" فلسطيني، بل هي بين حضارتين وأمتين
وتاريخين وجغرافيتين، ومن لا يرى ما وراء الصورة التي تظهر للعيان، يحسب أن الحرب
مجرد معركة ككل المعارك الي شهدتها بلادنا، بين العرب و"اليهود". وأقول
هنا اليهود ولا أعمم على كل اليهود، فهناك فئة منهم انحازوا للحق والعدل والإنصاف.
والحكاية لم تبدأ من إعلان بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة حينما جاء للكيان
معلنا: "جئتكم كيهودي" ولم تنته بإعلان رئيسه بأنه "صهيوني"
ويفتخر، بل ثمة إعلانات عدة، بلسان الحال أو المقال، لزعماء وجماعات وقوى ودول
شرقا وغربا، تقول بأنها يهودية وصهيونية حتى ولو رفعت المصحف على أسنة الرماح!
الحكاية ليست فقط معركة بين "دولة" عظمى في ظهرها دول أعظم منها وبين "فصيل" فلسطيني، بل هي بين حضارتين وأمتين وتاريخين وجغرافيتين، ومن لا يرى ما وراء الصورة التي تظهر للعيان، يحسب أن الحرب مجرد معركة ككل المعارك الي شهدتها بلادنا، بين العرب و"اليهود"
من بين تلك التصريحات اللافتة التي أطلقت في الآونة
الأخيرة ولم تحظ بما تستحق من توقف طويل جدا، ما جاء على لسان رئيس مجلس النواب
الأمريكي مايك جونسون في حفل استقبال أقامته سفارة الكيان في واشنطن، حين قال
(وأقتبس من النص الرسمي الذي نشره جونسون على موقعه): "الليلة، نحتفل بمرور
أكثر من 76 عاما من الإنجازات. إننا نحتفل بالوفاء بالوعود التي قطعناها منذ آلاف
السنين، الوعود التي قطعت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، الوعود التي نجت من المنفى
البابلي، والخلافة الإسلامية، والمحرقة النازية. وبعد سنوات من التشرد والاضطهاد،
في أيار/ مايو 1948، وُلدت أمة جديدة على أساس مبادئ الحرية والعدالة والسلام،
التي علمها الأنبياء العبرانيون. ومن خلال العمل الشاق الذي قام به رجال مثل
تيودور هرتزل، أصبح الحلم الصهيوني حقيقة. والليلة، نجتمع كمسيحيين ويهود وأشخاص
من جميع الأديان، نجتمع مع أولئك الملتزمين بالإيمان بأن الشعب اليهودي يستحق أن
يعيش بأمان في وطن أجداده الروحي".. إلى أن يقول: "يا أصدقائي، نحن
ملتزمون بنفس المعتقدات الأساسية، نحن مترابطون معا بنفس المزامير، ونحن نحتفل معا
بالتراث اليهودي المسيحي الفريد لجمهوريتنا. هذه التجربة الكبرى والحكم الذاتي،
هذه الأمة الواحدة في ظل الله.. ما سنفعله هو أننا سنقف معا، من أجل نور الله ومن
أجل الخير والرحمة والفضيلة والكرامة الإنسانية التي يجب أن تظل قيمنا الثابتة
وطريقنا الوحيد نحو ازدهار الإنسان، وسوف نتذكر الكلمات المعزية في المزمور 37.
وهذا يذكرنا بأن فاعلي الشر مثل العشب يذوون سريعا، وأولئك الذين يأملون في الرب
يرثون أرض الموعد".. انتهى الاقتباس.
الملاحظة الأولى التي تقفز إلى الذهن هنا هي الربط
الغريب بين السبي البابلي والمحرقة النازية والخلافة الإسلامية من جهة، وبين
مناسبة قيام كيان العدو ("
إسرائيل") من جهة أخرى، وهو ربط ربما لم يجْرِ
من قبل على لسان أي مسؤول أمريكي أو غربي رفيع، كرئيس مجلس النواب الأمريكي، بل
ربما لم نلحظ بالقطع مثل هذا الشحن الديني لخطاب رسمي أمريكي على مدار عقود طويلة
مضت. ومن يقرأ نص الخطاب يُهيّأ له أنه ليس صادرا عن مسؤول أمريكي سياسي رفيع، بل
عن راهب أو حاخام في كنيسة أو كنيس، وهو بالضبط ما يؤخذ على الخطابات السياسية
التي تمزج بين الدين والسياسة وتصدر عن قادة عرب أو مسلمين، حيث جرى في العادة
اتهام هؤلاء بأنهم "أصوليون" أو متطرفون، أما حينما يتعلق الأمر بمسؤول
أمريكي رفيع المستوى كجونسون، فهو أمر عادي، بل تعمد هذا الجونسون أن يعلن في
الخطاب نفسه دعوة نتنياهو لإلقاء خطاب في "الكابيتول" وهي خطوة ذات
مغزى، وتعبر عن احتضان غير مسبوق لرئيس وزراء كيان اسمه على قائمة المطلوب
اعتقالهم بسبب ارتكابهم جرائم حرب!
هذه المشاعر التي جاشت بها كلمات جونسون، لم تكن لتظهر بمثل هذا الافتضاح لو لم تكن معركة طوفان الأقصى، والمعجزة التي اجترحتها المقاومة يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وبمعنى من المعاني، وما أكثر المعاني هنا، فهذه المعركة لن تنتهي قريبا
حتى اليوم،
الخلافة العثمانية التي يحتفي بانتهائها
جونسون؛ بالنسبة لكثير من نخب العرب والمسلمين (العلمانيين تحديدا) كانت رمزا
للتخلف والرجعية وما يسمونه "الاستعمار التركي!" لكنها بالنسبة لجونسون
والنخب المسيحانية (يهودية ونصرانية) رمز من رموز عزة الإسلام ومنعة الأمة،
وسقوطها هو سقوط لحضارة الإسلام ونهوض لحضارة الغرب، لذلك تتساوى في مدى "شرها"
مع السبي البابلي والمحرقة النازية، كونهما مناسبتين منعتا قيام "وطن"
لليهود، بالضبط كما فعلت الخلافة قبل سقوطها.
هذه المشاعر التي جاشت بها كلمات جونسون، لم تكن لتظهر
بمثل هذا الافتضاح لو لم تكن معركة طوفان الأقصى، والمعجزة التي اجترحتها المقاومة
يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وبمعنى من المعاني، وما أكثر المعاني هنا،
فهذه المعركة لن تنتهي قريبا، بل هي حرب بدأت لكي لا تنتهي إلا بتقويض مشروعهم في
فلسطين، صحيح أن الثمن غال جدا، ولكن القادم سيكون أكثر صعوبة ليس على منطقتنا
فقط، بل على العالم كله، الذي سكت على عالم يحكمه عدد من قطاع الطرق والزعران
وأعضاء العصابات، وبالتالي على كل ما ارتكبته مدنية الغرب من جرائم بحق البشرية،
ويبدو أنه جاء أوان الحساب الذي كما يقول الإخوة المصريون: الحسب يجمع!