قضايا وآراء

محمد عبد القدوس.. "عمنا" الذي أحبنا وأحببناه

محمد عبد القدوس وميكروفونه الذي لا يفارقه- صفحته على فيسبوك
حين قررت الكتابة عن أستاذي وصديقي (متعدد الصفات والأبعاد) محمد عبد القدوس؛ جالت بخاطري عشرات القضايا الأخرى التي تستحق الكتابة عنها، لكنني وجدت أن محمدا أكثر استحقاقا في هذه اللحظة، حيث احتفل قبل أيام بعيد ميلاده السابع والسبعين وسط عدد محدود من زملاء المهنة؛ تقدمهم نقيب الصحفيين خالد البلشي.

وفي تقديري أن محمدا يستحق أعلى تكريم من نقابة الصحفيين، وهي بصدد عقد مؤتمرها العام السادس في ذكرى (يوم الصحفي) 10 حزيران/ يونيو وهو اليوم الذي كان محمد نفسه أحد أبرز صانعيه، من خلال عضويته بمجلس نقابة الصحفيين (المجلس الذي أسقط في العام 1996 قانونا انتقص من حقوق وحريات الصحفيين كان البرلمان قد أصدره وأقره الرئيس الأسبق مبارك)، ومن خلال ترؤسه للجنة الحريات في النقابة، وهي اللجنة التي قادت معركة الحريات ليس في نقابة الصحفيين فقط بل في مصر عموما، حيث احتضنت كل أصحاب المظالم من عمال وفلاحين وصيادين وموظفي ضرائب ومعلمين.. الخ.. الخ.. (أتمنى أن يجد نقيب الصحفيين شكلا مناسبا لتكريم عمنا عبد القدوس في يوم الصحفي).

محمد عبد القدوس، أو "عمنا" كما يخاطب زملاءه ويخاطبوه، هو صحفي وكاتب، من مواليد 20 أيار/ مايو 1947، وهو نجل الأديب الراحل إحسان عبد القدوس وحفيد الصحفية والفنانة الراحلة فاطمة اليوسف (روز اليوسف)، أول سيدة تؤسس صحيفة في مصر تحولت لاحقا إلى مؤسسة صحفية متعددة الإصدارات.. هو الأرستقراطي ابن العز الذي لم يخلد لحياة الرفاهة والدلع،
في تقديري أن محمدا يستحق أعلى تكريم من نقابة الصحفيين، وهي بصدد عقد مؤتمرها العام السادس في ذكرى (يوم الصحفي) 10 حزيران/ يونيو وهو اليوم الذي كان محمد نفسه أحد أبرز صانعيه، من خلال عضويته بمجلس نقابة الصحفيين (المجلس الذي أسقط في العام 1996 قانونا انتقص من حقوق وحريات الصحفيين كان البرلمان قد أصدره وأقره الرئيس الأسبق مبارك)، ومن خلال ترؤسه للجنة الحريات في النقابة، وهي اللجنة التي قادت معركة الحريات ليس في نقابة الصحفيين فقط بل في مصر عموما
وإذا كان والده هو من كتب رواية "لن أعيش في جلباب أبي" التي صار عنوانها أحد "الكليشيهات" الشبابية للتعبير عن الاستقلال عن الآباء، فإن محمد عبد القدوس نفسه رغم أنه يحب والده كثيرا ويقول فيه شعرا، سلك طريقا مخالفا له، وإن جمعتهما مهنة الصحافة التي انتقلت إليهما من الجدة (فاطمة اليوسف).

فالمعروف أن الأب أديب متنوع، ناصر ثورة 23 يوليو 1952 وكان صديقا شخصيا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، يخاطبه باسم الدلع "جيمي"، لكن الأخير لم يعد يقبل هذه الطريقة بعد أن صار حاكم البلاد، فقلب له ظهر المجن. أما الابن فقد انتمى مبكرا لجماعة الإخوان المسلمين، وجاهر بانتمائه لهم في وقت أخفى كثيرون غيره انتماءهم لمخاوف أمنية، وقد تم القبض عليه في اعتقالات أيلول/ سبتمبر 1981 الشهيرة، وفي لقاء للأدباء مع الرئيس السادات عقب تلك القرارات جرى حديث بينه وبين إحسان عبد القدوس، وألمح له إلى أنه إذا تعهد بإثناء محمد عن طريقه وانتمائه للإخوان فإنه سيفرج عنه، لكن الوالد الليبرالي رفض مؤكدا أن محمد شخص بالغ، وأنه حر في اختيار طريقه وتحمل تبعاته.

هو أحد رموز الجيل الذهبي للشباب في مصر، أو ما يعرف بجيل السبعينات، الذي قدم لمصر نخبة من القيادات السياسية والفكرية والدينية، منهم عبد المنعم أبو الفتوح، وعصام العريان، وحمدين صباحي، وأحمد بهاء الدين شعبان، ومجدي حسين، وأبو العلا ماضي، وحلمي الجزار، ومحيي الدين عيسى، وأحمد عبد الله رزة، وفريد زهران، وياسر برهامي، وإسماعيل المقدم.. إلخ، وهذا الجيل هو الذي قاد النقابات المهنية، كما قاد العمل الحزبي قبل وبعد ثورة يناير وحتى الآن، لكنه الآن يرتحل في ظل حالة انسداد سياسي لم تسمح له بتسليم الراية لجيل جديد.

في القضايا الكبرى ذات الاهتمام الأكبر كان محمد عبد القدوس ولا يزال من أبرز رموزها، إذا نظرنا إلى القضية الفلسطينية ممثلة الآن في طوفان الأقصى وتبعاته فإن محمد كان ولا يزال من كبار المدافعين عن الحق الفلسطيني، ومن أكبر المناهضين للتطبيع. نتذكر هنا أنه قاد مظاهرة ضد أول مشاركة لإسرائيل في معرض الكتاب المصري عام 1985، وظل على مدار عقود في طليعة المشاركين بل الداعين للمظاهرات والفعاليات المناهضة للتطبيع.

في مجال الحريات العامة والديمقراطية، أصبح "الميكروفون" الصغير الذي لازمه دوما رمزا للحرية، يظهر ذلك في الأفلام الدرامية والتسجيلية، هو الميكروفون الذي كانت تنطلق منه الهتافات في كل المظاهرات التي شهدتها مصر منذ النصف الثاني من الثمانينات وحتى ثورة يناير، حيث لم يفارق الميكروفون صاحبه في الميدان رغم تعدد الميكروفونات الأخرى.
كان محمد أحد الآباء المؤسسين لثورة يناير عبر الكثير من المناشط والفعاليات التي نظمها من خلال لجنة الحريات بنقابة الصحفيين التي رأسها لأطول فترة، أو من خلال لجنة الدفاع عن سجناء الرأي التي أسسها مطلع التسعينات بالتعاون مع شخصيات سياسية وإعلامية متنوعة

لقد كان محمد أحد الآباء المؤسسين لثورة يناير عبر الكثير من المناشط والفعاليات التي نظمها من خلال لجنة الحريات بنقابة الصحفيين التي رأسها لأطول فترة، أو من خلال لجنة الدفاع عن سجناء الرأي التي أسسها مطلع التسعينات بالتعاون مع شخصيات سياسية وإعلامية متنوعة (كنت واحدا منهم)، وضمت أيضا الوزيرين السابقين (الناصري) كمال ابو عيطة، و(الإخواني) صلاح عبد المقصود، ورئيس حزب الوسط المصري أبو العلا ماضي، ونائبه السجين حاليا عصام سلطان، وآخرين. نتذكر هنا ذلك المشهد المهيب أمام نقابة الصحفيين يوم 26 كانون الثاني/ يناير 2011، حيث اندلعت مظاهرة في اليوم الثاني للثورة، وأمسك رجال الشرطة بمحمد عبد القدوس حتى يوقفوا هتافاته وميكروفونه، لقد أمسكوه بطريقة غير لائقة، وسحلوه على الأرض. وبالمناسبة حاولوا تكرار الشيء نفسه معي بعده في نفس المظاهرة لكنني كنت مسالما، أبلغتهم بأنني سأسير معهم حيث أرادوا دون مقاومة.

حين انتصرت ثورة يناير بعد إطاحتها بمبارك وكبار معاونيه شعر عبد القدوس بأنه أدى ما عليه تقريبا، ووفى لشعبه، فشعر براحة ضمير، وظن أن من حقه أن ينعم ببقية عمره بهدوء بعد أن تجاوز سن التقاعد في حينه (الآن هو 77 عاما)، لكن أنى له ذلك، إذ لم تستمر نعمة الحرية سوى عامين ونصف العام لتنقض خفافيش الظلام مجددا على الثورة وما أنتجته من حرية وديمقراطية، وليدخل محمد في سلسلة من الأمراض (ندعو الله له بالشفاء)، وليفقد الكثير من أصدقائه المقربين الذين أصبحوا نزلاء السجون أو المنافي، أو حتى القبور. وكم تؤثر بي -وكثير من الزملاء الذين اضطروا لمغادرة مصر بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013- تلك الاتصالات الهاتفية منه للاطمئنان علينا في غربتنا، وحين أعتذر منه عن عدم اتصالي خوفا عليه فإنه يرفض ذلك مؤكدا أنه يفعل ما يراه صحيحا تجاه أصدقائه وزملائه مهما كانت التبعات.. إنه النبيل الكريم الذي لم يتغير أو يتلون.. ولم يفرط أو يتطرف، ولا يزال يحمل قلب شاب رغم بلوغه السابعة والسبعين.. كل عام وأنتم بخير يا عمنا وعم كل الصحفيين.

x.com/kotbelaraby