لم يختلف اثنان منذ السابع من أكتوبر على أن استطالة أمد المحرقة المفروضة على الفلسطينيين اليوم، لن تكون إلا بمثابة المادة الدسمة والورقة الضاغطة في خضم السباق الرئاسي الأمريكي المقبل، وأن توظيف هذه الحرب لغايات هذا السباق لن يكون إلا نتيجة حتمية أمام حمى الحاجة للظفر بالناخبين الأمريكيين عبر قلوبهم وجيوبهم وولاءاتهم.
ولعل المفارقة المرة لا تكمن فقط في طبيعة هذه
الانتخابات، أو في توظيف قضية خارجية فيها فحسب، إنما لأن فلسطين التي حضرت في سباقات سابقة لم تمتلك الأثر الذي تمتلكه اليوم أمام فداحة الجريمة المرتكبة بحقها في هذا الوقت، وهولها وما رشح عنها من كارثة غير مسبوقة. أما المفارقة الثانية فتكمن في طبيعة المتنافسين، وتحديداً الرئيس دونالد
ترامب المتعطش للعودة للسلطة بأي ثمن.
ترامب وبايدن ليسا أصدقاء الحق ولا أصدقاء العالم الحر، ولا الفلسطينيين ولا اليهود المتنورين، بل هما أصدقاء الظلم إن استمرا في النهج القائم على تجاوز حقوق شعبنا وإرادته بالحرية والاستقلال
ترمب المهووس بحس الانتقام من كل الذين لم يصوتوا له في سباق 2020، عاد ليجد ضالته في الملف الفلسطيني الإسرائيلي، كيف لا وهو صاحب ما سمي بصفقة القرن المشؤومة، وما عرف باتفاقات إبراهام التطبيعية، وهو أيضاً من أقر وبشكل صارخ بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في تحدٍ غير مسبوق للمواقف والقرارات الدولية. هذه الخطوات الصارخة وما صاحبها من جنون ترامب وصراحته المطبقة إنما شكلت المحرك وراء العودة إلى الملف الفلسطيني الإسرائيلي، ليستخدمه ضد غريمه
بايدن، الذي يسميه «جو النعسان» أو «الرئيس الأسوأ»، لتطغى من جديد السمة الدينية والعقائدية على حجج ترامب، في تطور لافت وحساس وخطير. وعليه جاء تصريح ترامب الأخير الذي قال فيه: «أي شخص يهودي يصوت لبايدن، لا يحب إسرائيل.. كيف يمكن لشخص يهودي أن يصوت لبايدن أو لديمقراطي فهم يقفون إلى جانب الفلسطينيين بنسبة 100%. وعليه فإن نقطة الارتكاز للحرب الانتخابية بالنسبة لترامب إنما تتمحور حول العوامل التالية:
1ـ إنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي اخترق الموانع التاريخية وانتصر لدولة الاحتلال بصورة غير مسبوقة.
2- إن على اليهود وحسب ترامب أن يثبتوا حبهم لإسرائيل عبر التصويت له، وكأنه يخوض انتخابات لرئاسة حكومة إسرائيل وليس أمريكا.
3 ـ إن الحزب الديمقراطي، وحسب ترامب هو الحزب المنحاز للفلسطينيين على حساب إسرائيل.
خطاب التحريض هذا انطلى على الناخبين في الماضي القريب، لكن ومع انكشاف فداحة الأمور ميدانياً، وبشاعة المحرقة التي شهدتها فلسطين، فإن معايير التقييم اختلفت عن سابقاتها، فهل سحق قطاع
غزة وقتل 34 ألف فلسطيني وتشريد 90% من سكان القطاع وتدمير 80% من مشافيه 90% من كنائسه و60% من مساجده و85% من جامعاته و80% من مدارسه يجعل من الديمقراطيين ورئيسهم بايدن، صديقاً للفلسطينيين؟ بايدن الذي وفر الغطاء السياسي والعسكري واللوجستي لإسرائيل في حربها على فلسطين، ووفر لها شبكة الأمان في مجلس الأمن، ومكنها من تجاوز قرارات محكمة العدل الدولية، هل هذا كله يجعل من بايدن متحيزاً للفلسطينيين؟ ثم إذا كان هذا الظلم الصارخ تحيزاً فكيف سيكون شكل العدائية للفلسطينيين؟
ما قول ترامب في عضو الكونغرس الجمهوري تيم ويلبيرغ عن ميشيغان، الذي أقر بضرورة إلقاء قنبلة نووية على غزة مكرراً ما قاله الوزير الصهيوني عمياحي إلياهو، بهذا الخصوص؟ هل هذا بمثابة التحيز لإسرائيل أم خطاب التأييد لإسرائيل؟ لقد وارب ترامب الحقيقة من جديد، واربها عن سبق إصرار وترصد خدمة لحملته الانتخابية، لكن آلاف اليهود المتنورين حول العالم، ومنهم مجموعة من المثقفين أمثال نعوم تشومسكي وإيلان بابيه ونورمان فنكلستاين وجدعون ليفي، وغيرهم الكثير وعبر مشاركاتهم التظاهرية أو مداخلاتهم الأكاديمية، ساهموا في تبديد السمة الدينية والعقائدية التي حاول نتنياهو إلصاقها بحرب «العماليق» المزعومة، وهو ما يرد في الوقت ذاته على كل المحاولات اليائسة لترامب.
إن صداقة إسرائيل لا تكمن في تحريضها على القتل والاحتلال والغدر والاستيطان وإنما في إفهامها بأن زمن القمع ومصادرة كرامات الشعوب وسحق إراداتها وتهجير مكوناتها وإفناء أعراقها وإعمالها للأسلحة العابرة للحوم البشر، قد ولى إلى غير رجعة، وأن الحق أكبر من سيف الجلاد ودروعه ومتاريسه وأوهامه. تصريحات ترامب العنصرية فيها إهانة ليهود العالم وليس فقط يهود أمريكا وفيها إذكاء لنهج الفرقة الآدمية والصراع العرقي البشري.
ترامب وبايدن ليسا أصدقاء الحق ولا أصدقاء العالم الحر، ولا أصدقاء للبشرية ولا الفلسطينيين ولا اليهود المتنورين بل هما أصدقاء الظلم إن هم استمرا في النهج القائم على تجاوز حقوق شعبنا وإرادته بالحرية والاستقلال. فلسطين الوطن والهوية على مذبح الانتخابات الأمريكية، فهل تنتصر كلمة الحق؟ أم يستمر العمى السياسي الذي عاشته وتعيشه أمريكا منذ عقود؟ ننتظر ونرى!