بعد 11 عاما من علاقات متردية بين
مصر وتركيا، بسبب ملفات "جماعة الإخوان المسلمين"، و"شرق المتوسط"، و"جنوب قبرص"، و"ليبيا"؛ نجحت محاولات الجانبين بالسنوات الثلاث الأخيرة في تضميد ما ألم بعلاقات تاريخية ممتدة لعشرات القرون.
والأربعاء، جمعت العاصمة المصرية القاهرة، الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان، برئيس النظام المصري عبدالفتاح
السيسي، بعد غياب امتد نحو 12 عاما من آخر زيارة جرت عام 2012 خلال عام حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، حينما كان أردوغان رئيسا لوزراء أنقرة.
لكن يبدو أن لقاء القاهرة أمس، الذي يعد الأول لأردوغان وهو رئيس لتركيا، كان حاسما لكثير من الخلافات، وسيتبعه زيارة من السيسي إلى أنقرة في نيسان/ أبريل المقبل، كما بدا أن شقه
الاقتصادي أكثر نجاحا وأسرع في نتائجه.
"صفحة جديدة"
وبعد استقبال حافل من السيسي وزوجته، لأردوغان وقرينته، باستراحة رئاسة الجمهورية بمطار القاهرة عصر الأربعاء، ومن داخل قصر الاتحادية بشرق القاهرة، وأمام الكاميرات، وقع أردوغان، والسيسي، اتفاقا لرفع مستوى التعاون الاستراتيجي بين البلدين.
الوفد التركي، المرافق لأردوغان، غلب عليه التشكيل الاقتصادي، فإلى جانب وزيري الخارجية هاكان فيدان، والدفاع يشار غولر، حضر للقاهرة وزراء الخزانة والمالية محمد شيمشك، والصناعة والتكنولوجيا محمد فاتح كاجر، والتجارة عمر بولات، والصحة فخر الدين قوجة، بحسب وكالة "الأناضول".
الأجواء بدت جيدة ومبشرة، خاصة مع حديث السيسي، الذي قال مرحبا بضيفه: "لنفتح معا صفحة جديدة بين بلدينا، بما يثري علاقتنا الثنائية ويضعها على مسارها الصحيح".
وكذلك قول أردوغان، الذي دعا السيسي لزيارة أنقرة في نيسان/ أبريل المقبل: "لقد وضعنا هدفا مع الرئيس السيسي للوصول إلى التبادل التجاري بين البلدين إلى 15 مليار دولار في أقرب وقت".
وهي التصريحات التي تبشر باتفاقيات اقتصادية تساهم في حل أزمات البلدين الاقتصادية، والمالية، ومواجهة الأوضاع الإقليمية التي تؤثر بشكل كبير على الاقتصادي المصري، الذي يتعرض لأكثر أزماته في العصر الحديث مع ديون خارجية تفوق 165 مليار دولار، وهبوط تاريخي لقيمة العملة المحلية وتراجع في المؤشرات الاقتصادية كافة، ونظرة سلبية من مؤسسات التصنيف الدولية.
"الغاز والسلاح"
وبرغم القطيعة السياسية، إلا أن الملف الاقتصادي كان إحدى نقاط التلاقي والتقارب، وبحسب بيانات رسمية للبنك المركزي المصري، تبلغ قيمة الاستثمارات التركية بمصر 2.5 مليار دولار، من خلال 790 شركة تركية تعمل بالبلد العربي الأفريقي، صاحبة السوق الكبيرة التي تربو على 106 ملايين نسمة.
وهناك ارتفاع لافت بتدفقات الاستثمارات التركية لأكثر من 118 مليار دولار بالعام المالي (2022- 2023) من نحو 103 مليارات بالعام المالي السابق، فيما بلغ حجم التبادل التجاري عام 2023 نحو 10 مليارات دولار.
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري، وصل حجم الصادرات المصرية إلى
تركيا إلى 3.8 مليار دولار خلال عام 2023، بينما بلغ حجم الواردات المصرية 2.8 مليار دولار خلال العام نفسه.
ويرى مراقبون أن الزيارة بداية حقيقية لاستثمارات تركية وعدة في مصر ، خاصة مع دفع أردوغان، والسيسي بهذا الاتجاه، ومع محاولة إزالة بعض العقبات، وخاصة في ملف العملات الصعبة التي تعاني البلدين من تراجع مخيف في قيمة عملتيهما الليرة والجنيه بمقابلهما، وخاصة أمام الدولار.
وفي هذا الإطار، وفي تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، اتفق البنك المركزي المصري مع نظيره التركي، على آلية تطبيق التبادل التجاري بين البلدين بالعملات المحلية، بشكل مبدئي في ما يتراوح بين 25 إلى 30 بالمئة، من إجمالي التجارة البينية.
وحول الاتفاقيات المتوقع عقدها، صرح عضو لجنة الأمن بالرئاسة التركية الدكتور مسعود جاشن، لفضائية "القاهرة الإخبارية"، الأربعاء، بأن مباحثات أردوغان والسيسي، تتطرق إلى شراء تركيا الغاز الطبيعي من مصر، وأيضا ملف الأسلحة التي ترسل إلى مصر كطائرات (إف – 16) وغيرها، بالإضافة إلى إبرام شراكة جديدة في الجانب العسكري.
وقبل أيام، أُعلن عن صفقة عسكرية غير مسبوقة بين الجانبين، يحصل بموجبها الجيش المصري على المسيرات التركية، صاحبة الصيت الذائع في عالم التسلح.
"منطقة صناعية تركية"
والثلاثاء الماضي، بحث وزير التجارة والصناعة المصري أحمد سمير، ورئيس الغرفة التجارية الصناعية بمدينة بورصا التركية إبراهيم بوركاي، ونائب رئيس اتحاد الغرف التجارية والصناعية التركية، خطة إنشاء منطقة صناعية تركية بمصر.
ووفق المعلن من الأنباء، تكون تلك المنطقة الصناعية منطلقا لتصدير المنتجات التركية من مصر إلى قارة أفريقيا والخليج العربي وأوروبا وأمريكا، وهي المناطق المرتبطة مع القاهرة باتفاقيات تجارية بينها "الكويز"، إلى جانب انضمام مصر مؤخرا إلى مجموعة "بريكس".
وتسعى الغرفة التجارية الصناعية في مدينة بورصا التركية لإنشاء منطقة صناعية في مصر، متخصصة في صناعة "المنسوجات، والسيارات، والألمنيوم، والآلات والمعدات التكنولوجية المتقدمة"، وتركز منها على التصدير إلى أسواق أفريقيا والخليج.
وقبل زيارة أردوغان، وفي 6 شباط/ فبراير الماضي، التقى رئيس اقتصادية قناة السويس وليد جمال الدين، والسفير التركي بالقاهرة صالح موتلو شن، لمناقشة وجود منطقة صناعية تركية بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، التي تمنح ميزات تنافسية عبر 6 موانئ بالبحرين الأحمر والمتوسط، و4 مناطق صناعية تضم 21 قطاعا صناعيا.
وفي بيان لها، أعلنت اقتصادية قناة السويس عن استثمارات تركية عديدة بها مثل مصنع "Hayat Egypt" للمنتجات الصحية بمنطقة السخنة، وأنه جار التباحث حول وجود كبرى شركات المنسوجات والملابس التركية بمنطقة القنطرة غرب الصناعية، أبرزها "Jade textile"، و"KCG" وغيرها.
المثير هنا، أن الاستثمارات التركية قائمة على إقامة مصانع وفتح أسواق وتشغيل عمالة جديدة، وأنها تختلف اختلافا كليا عن استثمارات الخليج في مصر، التي تعتمد على الاستحواذ على شركات دون إقامتها، وعلى السيطرة على أعمال قائمة بالفعل دون إنشائها من الأساس، ما دفع إلى حالة من التفاؤل بين المصريين.
لكن، تظل المخاوف قائمة من أن يكون المناخ الاستثماري في مصر غير جاهز لاستقبال الاستثمارات التركية، في ظل ما يواجهه الاقتصاد المصري من أزمات مع الدولار، ومعوقات بيروقراطية ولوجستية وتشريعية وقانونية، والتعامل الأمني وسمعة النظام المصري بملف حقوق الإنسان، سببا في كبح جماح المستثمرين الأتراك وتراجعهم عن قراراتهم.
كما تظل المخاوف قائمة من ألا يتعدى الحديث عن منطقة صناعية تركية مجرد الإعلان، وينضم إلى ما تم إعلانه من قبل دون تنفيذ حقيقي، أو مردود سريع من إقامة منطقة صناعية صينية في مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة)، ومنطقة أخرى روسية في بورسعيد (شمال شرق).
"خطوة مهمة من اقتصاد تشاركي"
وفي قراءته لأهمية المنطقة الصناعية التركية للاقتصاد المصري خلال الظرف الاقتصادي الصعب الذي يمر به اقتصادها، قال السياسي المصري مجدي حمدان موسى: "بشكل عام زيارة أردوغان للقاهرة، لها مدلول سياسي أكبر من المدلول الاقتصادي".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أوضح أن "الزيارة تقضي على قطيعة 11 عاما، والرئيس أردوغان ناقش ملفات مهمة بينها الاقتصادي، ولكن هناك ملفات خطيرة جرى التحدث بشأنها، مثل ملف غاز المتوسط وترسيم الحدود البحرية بين البلدين وقبرص واليونان وليبيا، بجانب الموقف الموحد تجاه ما يحدث من حرب إبادة دموية في غزة".
القيادي بحزب "المحافظين"، وعضو "الحركة المدنية"، يرى أن "وجود منطقة صناعية تركية في مصر أمر مهم جدا للصناعة المصرية، خاصة في صناعات كان للمصريين بها باع، وانمحت من تاريخها الصناعي، كصناعة السيارات التي تفوقنا فيها عبر شركة النصر للسيارات بستينيات القرن الماضي، لكن تم القضاء عليها".
وأشار إلى أن "تركيا متميزة في هذه الصناعة، وتصنع ماركات معروفة بمصانعها وأنتجت سيارة (تي 10 إكس) الكهربائية الخاصة بها، وأعتقد أنه ملف مهم جدا خاصة في ظل ندرة الدولار في مصر، والتوقف عن الاستيراد"، مضيفا: "وهنا وجود منطقة صناعية يغني عن كل ذلك، وتفتح مجالات كثيرة جدا".
وأوضح أن "تركيا أيضا، في حاجة كبيرة لمصر كونها البوابة الرئيسية لأفريقيا، حيث إن التجارة التركية تمر عبر البحر المتوسط إلى القارة السمراء، ومن ثم الأراضي المصرية هي بوابة العبور لتجارتها"، مضيفا: "لذا أرى أن منطقة صناعية تركية في مصر خطوة مهمة جدا للبلدين".
وقال؛ إن "أردوغان، رجل يدرك فعلا مآلات إدارة الدولة، وله محددات، وجاء لمصر في توقيت مهم جدا حدده لهذه الزيارة بعد القطيعة، وهذا أمر مهم".
ويرى أنه "على القاهرة أن تستفيد بأكبر قدر ممكن من الاتفاقيات التي تمت، وتبدأ تفعيلها على الفور لأن هذا يخفف الضغط على الجنيه المصري، ويفتح مجالات كبيرة للتصدير عبر الأراضي المصرية".
وعن رؤيته لحجم اختلاف الاستثمارات التركية في مصر، عن غيرها الخليجية، أكد أن "الاستثمارات الخليجية عبارة عن اقتصاد استحواذي وتملكي، بخلاف الاستثمار التركي فهو تشاركي، والهدف منه التنمية الصناعة وتنمية البلد التي يستثمر بها".
وأضاف: "لكن الخليج مجموعة استثمارات لدول تمتلك أموالا وتريد ضمانات كافية لهذه الأموال، فتقوم بالاستحواذ على مناطق بأكملها، أو تعمل في قطاع العقارات دون الصناعة، التي ليس لها فيها باع".
وختم: "والمنطقة العربية كلها ليس لها تاريخ صناعي، وليس من أولوياتهم عمل مصانع، لكن أعتقد أن الصناعة المتوطنة في تركيا أمر مهم جدا للاقتصاد المصري الآن".
"بهذا يتميزون"
من جانبه، يرى الكاتب والباحث الاقتصادي محمد نصر الحويطي، أن "فكرة إنشاء منطقة صناعية تتطلب بالأساس بنية تحتية كبيرة، وتستغرق وقتا طويلا، خاصة أن البنية الصناعية متعلقة باستقطاب أو جذب التكنولوجيا الحديثة، سواء كان لها علاقة بالتصنيع أو استحداث تكنولوجيا".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف: "ولكن في حال إتمام إنشاء المنطقة الصناعية الجيدة المتعلقة بتصنيع السيارات أو إعادة تصنيع السيارات أو ما إلى ذلك بين تركيا ومصر، بالطبع سيكون لها مردود إيجابي على اقتصاد البلدين".
وتابع: "خاصة؛ وأن مصر دولة مستهلكة بشكل كبير للسيارات، وتستوردها من دول عديدة، وفتحت الاستيراد بشكل كبير مع الصين، ونظرا لموقعها الجغرافي من خلال المنطقة الصناعية التركية تكون مصر منفذا لبيع السيارات تركية الصنع أو ذات تكنولوجيا التصنيع التركية، بدول المنطقة".
وعن اختلاف الاستثمارات التركية على الخليجية في مصر، يرى الحويطي، أن "رجال الأعمال في الخليج لا يُقيموا مناطق صناعية في مصر، ولا توجد مناطق صناعية خليجية في مصر، ولكنها استثمارات فقط، ودائما الخليجي يشتري أصولا وشركات قائمة أو يدخل استثمارات مباشرة".
وألمح إلى أن "مستثمري الخليج ليس لديهم (know how) بمعنى الحرفية والبراعة، ولكن الأتراك لديهم (know how) وعندهم فكرة صناعية ومتميزون بها، وهم فقراء ماليا مثل مصر، ومن ثم يعتمدون علينا في جزء من التكلفة، ونحن نعتمد عليهم في جزء من الفنيات، ويقيمون معا المشروعات، أما الخليج أصحاب أموال يشترون أصولا جاهزة، أو استثمارا ويدفعون أموالا به".
"مصلحة مشتركة"
وفي قراءته للأبعاد الاقتصادية لزيارة أردوغان، قال الصحفي جمال سلطان: "مصر بالنسبة للحكومة التركية بوابة أفريقيا الأهم ، وأكبر سوق للصناعات التركية في أفريقيا والعالم العربي، وتركيا بالنسبة لمصر حليف تاريخي، وقوة عسكرية واقتصادية كبيرة ومؤثرة في المنطقة كلها، بما فيها الحزام المحيط بمصر".
وأضاف عبر "فيسبوك": "كما أن تطور الصناعات الدفاعية التركية منخفضة التكاليف تحتاج، إليه مصر كثيرا في الفترة المقبلة التي لا تتحمل خزينتها فيها إنفاقا واسعا على السلاح".
وأكد أن "الملف الاقتصادي المباشر الأكبر والمحوري لتلك الزيارة، الذي يرى الطرفان فيه مصلحة مشتركة لا يجوز أن تعطلها أي خلافات سياسية".
ولفت إلى أن "لتركيا استثمارات مباشرة، مصانع وشركات، في مصر تبلغ 2 مليار دولار، تستوعب عشرات الآلاف من العمالة المصرية، كما أن شركات المقاولات التركية لها أعمال بأكثر من مليار دولار في مصر، وهناك اتفاقيات قديمة ومستمرة للتجارة الحرة بين البلدين واتفاقيات لمنع الازدواج الضريبي وغيرها".