حققت الحرب الإسرائيلية الوحشية على سكان
غزة كل الشروط التي من المفروض أن تستنفر العالم لوقفها، حتى لو تطلب ذلك استعمال أساليب غير مألوفة لردع إسرائيل ووقفها عن غيّها.
توفرت في هذه الحرب كل الصفات والمواصفات التي تُحتِّم على المجتمع الدولي الانتقال من القول إلى الفعل لوضع حد للإبادة غير المسبوقة التي يمارسها جيش
الاحتلال.
مثلا: قتلت إسرائيل من سكان غزة العزّل خلال الشهور الأربعة الأخيرة أكثر مما قتلت روسيا في أوكرانيا خلال 24 شهرا. وسبّبت إسرائيل من التهجير القسري والتجويع والخراب المادي والروحي والاعتداء على حرمات المدارس والمستشفيات ودور العبادة في غزة ما لم يجرؤ عليه أيّ جيش في العالم خلال العصر الحديث. أثر القنابل الإسرائيلية على غزة تساوي أثر القصف الأمريكي على هيروشيما وناغازاكي، وربما يتجاوزه.
لكن رغم هذه الفظاعات، كل ما نسمع ونقرأ حتى الآن
تنديد وإدانة ودعوات لإنهاء الحرب وأخرى لتخفيف وتيرتها. نسمع أيضا بكاءً وحزنا يختلف في الدرجات وطرق التعبير عنه، لكنه في المجمل يتراجع مقارنة بالأسابيع الأولى للحرب.
كان البكاء والحزن وثورة العواطف الجياشة «موضة» محبذة في الأسابيع الأولى من الحرب. كانت الأهوال طريقة تستوقف الناس وتدمي قلوبهم. اليوم هناك شعور بأن أثر الصدمة أصبح أقل، وتراجع معه التأثر وبدأت العواطف الجياشة تأفل، لأن العالم تعوّد وتآلف مع يوميات الحرب وشاهد منها أشكالا وألوانا. وقديما قالوا إن الألفة تُذهِب الدهشة.
كان هذا أحد رهانات المؤسسة السياسية والعسكرية في إسرائيل: النجاح في تجاوز الأسابيع الأولى من الغضب العالمي ثم يتعود الناس. كل ذلك تحت حماية المظلة الأمريكية الغربية بكل أذرعها وتفرعاتها. وقد صدق رهانهم.
بايدن يندد، الزعماء الأوروبيون يأسفون ويدينون، القادة العرب ينددون، السلطة الفلسطينية تندد، الشعوب العربية تندد، الرأي العام الغربي يندد.
لم يعد الأمر يتطلب أكثر من تغريدة من كلمات معدودة. تكرّس اعتقاد عبر العالم بأن التنديد بواسطة تغريدة يكفي ويصبح ممكنا لك بعده أن تذهب لشأنك.
بايدن يأسف لأن إسرائيل تجاوزت كل الحدود، ويحذّر لكنه يواصل إرسال الأسلحة الفتاكة والخبراء العسكريين لإسرائيل. وبرفض رؤية وقف إطلاق النار مفضّلا هُدنا استراتيجية في مصلحة إسرائيل. الاتحاد الأوروبي يعترف بأن إسرائيل ترتكب جرائم خطيرة ويتألم لحال سكان غزة، لكنه لا يفعل شيئا لوقف إجرامها. القادة العرب ينددون ويعيدون لكن لا أحد فيهم تجرأ على أكثر من ذلك. بعضهم ينددون في العلن وفي السر يفتحون أبوابهم الخلفية لوصول السلع الضرورية لإسرائيل عبر أراضي بلدانهم بعد أن استحال مرورها من خلال البحر الأحمر. الذين منهم أقاموا علاقات دبلوماسية مع إسرائيل لم يمتلكوا شجاعة تعليقها ولو مؤقتا. والذين كانوا على وشك التطبيع قبيل الحرب الحالية لم يُظهروا علامات واضحة على التراجع. بينما توارى الآخرون وراء صمتهم خوفا من أيّ محاسبة أمريكية لاحقة.
تساوى كل الناس في التنديد والإدانة. لا فرق بين الرئيس بايدن وأيٍّ من نظرائه العرب والعجم وأيّ عاطل عن العمل في أيّ بلدة عربية منسية لا يملك غير حساب على إحدى منصات التواصل الاجتماعي.
في مقابل كل هؤلاء، إسرائيل تقتل وتُهجّر وتحرق الممتلكات وتقضي على كل مقومات العيش في غزة ولسان حالها يقول: لا بأس بما أن أقصى ما لديهم هو التنديد.
لماذا أُصيب العالم بهذا الشلل؟ لأن الأمر يتعلق بإسرائيل، هذا هو الجواب الأبرز. وعندما يتعلق الأمر بإسرائيل وجرائمها لا صوت يعلو فوق الصمت، مشفوعا بالتفهم والتبرير الذي يرقى إلى درجة التواطؤ.
لكن هناك أكثر من كون الأمر يتعلق بإسرائيل. الموقف الرسمي دوليا متأثر غالبا بالموقف الأمريكي. والولايات المتحدة في عام انتخابات يلعب فيها داعمو إسرائيل دورا محوريا وحاسما. الولايات المتحدة تدعم إسرائيل بلا حياء أو تردد، والقادة الأوروبيون لا يستطيعون مخالفة هذا الموقف لأن مصالح القارة الأوروبية متداخلة مع المصالح الأمريكية لكن بمنطق التبعية وليس الندّية. القادة العرب لا يستطيعون اتخاذ موقف مخالف صراحة للموقف الأمريكي لأنهم جميعا مرتبطون بأمريكا، كلٌّ متورط معها بشكل ما، يحتاجها على طريقته ويخاف منها لأسبابه الخاصة. ليس بين القادة العرب من يستطيع الخروج عن الخطوط العامة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، رغم أنها عرجاء عمياء مهووسة فقط برفع عدد الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، مع اهتمام خاص بالسعودية باعتبارها الجائزة الكبرى.
يشكّل القادة العرب حالة عجيبة في هذه المعمعة. الحريصون منهم على بلدانهم وشعوبهم يحتاجون لأمريكا كي لا تتضرر بلدانهم وشعوبهم. الطغاة منهم يخافونها لأنها مصير كراسيهم يتوقف في جزء كبير منه على أمريكا. هناك فئة أخرى يشكلها الذين أقنعوا أنفسهم بأن أمريكا سيّدة العالم والأفضل تفادي الوقوف في طريقها.
بقي موقف دولي ثالث استثنائي هو ذلك الذي تعبّر عنه دول بعض الجنوب مثل جنوب إفريقيا وعدد محدود من دول آسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية. إذا حدث تغيير سيكون من هذا التكتل غير المتجانس، وقد بيّنت دعوى جانب إفريقيا أمام محكمة
العدل الدولية أن الفعل ممكن. لكن لحد الآن لا تزال الكلمة العليا للولايات المتحدة. ولهذا فعلى الأغلب سيواصل العالم مراوحته في مربع التنديد والذين لا يملّون منه مثلما فعلوا كل تهديد يصدر عن إسرائيل بشن هجوم ما، وبعد أن تشنه وتتكشف فظاعاته.