اتهم الصحفي المعروف
جوناثان كوك، الإعلام
الغربي بالتواطؤ في جرائم الإبادة التي ترتكب في
غزة.
وقال كوك في مقال على موقع "
ميدل إيست
آي" إن وسائل الإعلام الغربية لم تكلف نفسها التحقيق في المزاعم الإسرائيلية
بخصوص الفظائع التي قيل إن حماس ارتكبتها يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وذلك
بالرغم من أنها تدعي أنها "لا تخشى في تعقب الحقيقة لومة لائم"، بل ثبت
بالفعل أن "كل ما تفعله هو أنها تتقيأ أخباراً وحكايات تغذيها بها "إسرائيل"
نفسها".
وبحسب كوك، فإن الخطورة تكمن في أن الرواية
الإسرائيلية (المشكوك في صحتها) استغلت لشن الحرب المجنونة على قطاع غزة، كما
استخدمتها الأنظمة الغربية لتأييد "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وتم
استخدامها كذلك لإحراج مناهضي الحرب على غزة.
وبالرغم من شح الأدلة على تلك الجرائم التي
يتحدثون عنها فإن وسائل الإعلام الغربية تتجاهل الحديث عن أفعال "إسرائيل"
نفسها يوم السابع من أكتوبر.
ولا تكف "بي بي سي" وغيرها عن
العودة إلى الحديث عن جرائم حماس في ذلك اليوم، ولكنها تخفق في ذكر أي شيء عن
الأدلة المتزايدة على أن إسرائيل قتلت مواطنيها.
وفي ما يأتي نص المقال:
لا يكاد يمر يوم منذ هجوم حماس يوم السابع من
تشرين الأول/ أكتوبر إلا وعادت وسائل الإعلام الغربية إلى الحديث فيه عن وقائع ذلك
اليوم، وعادة ما يكون ذلك من أجل الكشف عن ما يزعمون أنه تفاصيل جديدة لفظائع مذهلة
قامت بها المجموعة الفلسطينية.
كانت الغاية من مثل هذه الإعلانات ضمان
استمرار السخط الشعبي في الغرب وإحداث حالة من القلق والحرج في صفوف النشطاء
المتضامنين مع فلسطين.
وبذلك مهد السخط سبيل "إسرائيل"
للمضي قدماً في تدمير مساحات شاسعة من غزة، وقتل ما يزيد على الـ 18700 فلسطيني معظمهم
من النساء والأطفال، والاستمرار في حرمان سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة
من الحصول على الطعام والماء والوقود.
وكان من نتائج ذلك، وهو أمر بالغ الأهمية،
التيسير على الحكومات الغربية الإعلان عن دعمها الكامل لـ"إسرائيل"،
وتزويدها بكل ما تحتاجه من أسلحة، حتى بينما كان القادة الإسرائيليون يخرجون على
الناس بتصريحات تكشف عن نيتهم تنفيذ
إبادة جماعية، وحتى وهم يقومون بعمليات تطهير
عرقي ضد الفلسطينيين.
تسببت حملات القصف الكثيف التي نفذتها "إسرائيل"
في حشر ما يقرب من مليوني فلسطيني في مساحات صغيرة في غزة، على مقربة من الحدود
الضيقة مع مصر، بينما بدأت المجاعة والأمراض الفتاكة تنال منهم.
كثير من المزاعم حول السابع من أكتوبر كانت
صادمة لدرجة تفوق التصور، مثل الحكايات التي تحدثت عن قطع حماس لرؤوس أربعين
رضيعاً، وأنها شوت في الأفران آخرين، وارتكبت عمليات اغتصاب جماعية منتظمة، وبترت
جنيناً من رحم أمه.
بل إن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ذهب إلى حد التوصيف بتفاصيل مرعبة – ثبت أنها باطلة – لهجوم زعموا أن حماس شنته
على عائلة إسرائيلية، فقال: "اقتلعت عيني الوالد على مرأى من أطفاله، وقطع
ثدي الأم، وبترت قدم الفتاة، وقطعت أصابع الفتى قبل أن يتم إعدامهم جميعاً".
شح الأدلة
لا ريب في أن حماس وغيرها من المقاتلين في "إسرائيل"
ارتكبوا فظائع في ذلك اليوم، كما وثقت ذلك منظمة "هيومن رايتس ووتش".
وما زالت هذه الفظائع مستمرة، وترتكب في غزة
كل يوم منذ ذلك الحين، بما في ذلك من خلال استمرار القصف الإسرائيلي الذي يستهدف
المدنيين بلا رحمة، ومن خلال رفض حماس تحرير بقية الرهائن الإسرائيليين من دون
استبدالهم بالفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية.
ولكن في ما يتعلق بالمزاعم الأكثر صدماً ضد
حماس، والتي روجت لها وسائل الإعلام الغربية –بما قوى حجة إسرائيل لتبرير حملاتها
التدميرية في غزة على مدى شهرين– يندر أن يقدم دليل عليها، ولا تتجاوز في الأغلب
كونها مزاعم يطلقها المسؤولون الإسرائيليون أو يتحدث بها أشخاص لا يخفى تحيزهم،
ولا مصداقية لهم.
في الأسبوع الماضي خرجت "بي بي سي"
وغيرها من المنصات الإعلامية لتروي حكايات حول عمليات اغتصاب جماعي منتظم ارتكبتها
حماس يوم السابع من أكتوبر. إلا أن مساعي الأمم المتحدة لإجراء تحقيق في هذه
المزاعم قوبلت بالتعطيل من قبل "إسرائيل".
ومع ذلك، فإنه يتم تارة أخرى تهميش تغطية أخبار
عمليات التدمير المتزايد في غزة.
وظل محدوداً ذلك الاستعداد الإعلامي لإعادة
التدقيق في ما جرى يوم السابع من أكتوبر بعد فترة طويلة من وقوع تلك الأحداث، ولا
يُنشر من ذلك إلا المزاعم التي تدعم الرواية الإسرائيلية حول تفاصيل ما حدث في ذلك
اليوم.
كما أنه يتم تجاهل، أو كتم، كتلة متنامية من
الأدلة التي تشير إلى واقع أكثر تعقيداً، وهو واقع يكشف عن أفعال مزعجة قامت بها "إسرائيل"
نفسها ويسلط مزيداً من الضوء عليها.
يشير هذا التعامل غير النزيه على الإطلاق من
قبل وسائل الإعلام الغربية إلى أنها ليست كما تدعي من أنها لا تخشى في تعقب
الحقيقة لومة لائم، بل ثبت بالفعل أن كل ما تفعله هو أنها تتقيأ أخباراً وحكايات
تغذيها بها "إسرائيل" نفسها.
لا ينم ذلك فقط عن انعدام الضمير لدى هذه
الوسائل الإعلامية –وخاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار سجل "إسرائيل" الطويل
في نشر الأكاذيب، ما صغر منها وما كبر– ولكنه يكشف أيضاً عن ممارسات تنتهك جميع
المعايير الصحفية الأساسية.
والأسوأ من ذلك هو أن التضخيم الساذج من قبل
وسائل الإعلام لرواية "إسرائيل" حول ما جرى في يوم السابع من أكتوبر هو
الذي يستمر في بث الحياة في الحجة الإسرائيلية التي تقول إن تحطيم غزة من أجل
القضاء على حماس أمر مبرر أخلاقياً.
فرق التشجيع الفعالة
ما ليس معروفاً لدى معظم الجماهير الأوروبية
هو أن ثمة تسرباً للأدلة من داخل المصادر الإسرائيلية ظل مستمراً على مدى الشهرين
الماضيين بما يوجه أصابع الاتهام إلى الجيش الإسرائيلي بالقيام على الأقل ببعض ما
ينسب إلى حماس من عمليات قتل.
وهذا الأسبوع اعترف الجيش الإسرائيلي أخيراً
بأنه قتل بعض المدنيين الإسرائيليين يوم السابع من أكتوبر "بكمية ضخمة
ومعقدة". ونظراً للأعداد الضخمة، أضاف الجيش بشفافية أبعد ما تكون عن المنطق:
"لن يكون صواباً من الناحية الأخلاقية إجراء تحقيق في هذه الحوادث".
كيف يكون مقبولاً، على اعتبار أن لديهم اهتماماً
مستمراً في التدقيق في مجريات يوم السابع من أكتوبر، ألا تقوم أي من وسائل الإعلام
الغربية بنشر أي من هذه الأدلة المزعجة، ناهيك عن أن تقوم بالتحقيق فيها؟
ليس من الصعب الاستنتاج أن وسائل الإعلام
الغربية مهتمة فقط بالتقارير التي تصور حماس، وليس "إسرائيل"، على أنهم
أهل الشر، بغض النظر تماماً عن ما إذا كانت هذه التقارير حقاً أم باطلاً. وهذا يعني
أن وسائل الإعلام ليست عبارة عن مراسلين محايدين ومتجردين، وإنما هم فرق تشجيع
فعالة تم تجنيدها من قبل "إسرائيل".
تقول الحكاية الإسرائيلية الرسمية، والتي
ترددها وسائل الإعلام الغربية، بأن حماس كانت قد خططت منذ وقت طويل للقيام بعملية
جنونية وهمجية لتعيث فساداً داخل التجمعات السكانية في "إسرائيل" مدفوعة
بمزيج من التعطش البدائي والديني للدماء والكراهية لليهود.
وبحسب الرواية الإسرائيلية، فإنها وجدت المجموعة
فرصتها لتحقيق هذا الهدف يوم السابع من أكتوبر، عندما تخففت "إسرائيل"
لحظياً من احتياطاتها الأمنية، فاخترقت حماس السياج عالي التقنية الذي كان من
المفروض أن يبقي سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة داخل سجن مؤبد.
وأثناء عملية الهروب من ذلك السجن، ركزت حماس
علي ذبح المدنيين، وقتل الرضع من خلال قطع رؤوسهم، واستخدام الاغتصاب سلاحاً للحرب
والتدنيس. وتزعم الرواية أنهم أطلقوا النار على المنازل في داخل التجمعات السكانية
الإسرائيلية المجاورة، التي عادة ما يتركونها حطاماً بعد أن يحرقوا ضحاياهم وهم
أحياء.
يمكن الإقرار بأن المزاعم بشأن قطع رؤوس
أربعين من الرضع تم بهدوء وضعها على الرف، لأنه لا يوجد أي دليل على الإطلاق على
حدوث أي من ذلك. وبحسب الأرقام التي نشرتها "إسرائيل" نفسها، رضيعان فقط
ماتا في ذلك اليوم.
ومع ذلك، فإنه نادراً ما تتحدى وسائل الإعلام
الناطقين الرسميين باسم "إسرائيل" أو السياسيين الغربيين عندما يعودون
إلى تكرار تلك المزاعم التي ثبت بطلانها وانعدام صدقيتها.
ولكن كثيراً من تلك المزاعم الأخرى ليست أقل
تهافتاً، إذ ينعدم الدليل علي حدوثها، وتحتاج هي الأخرى إلى أن توضع قيد التدقيق.
وعلى الرغم من أنهم نادراً ما يمنحون الفرصة
لكي يُسمعوا العالم أصواتهم، فإنه توجد لدى الفلسطينيين سردية بديلة يقصون من خلالها ما
يرون أنه حدث في ذلك اليوم، وبعض أجزاء تلك السردية يعززها ما يفد من المصادر
الإسرائيلية من تقارير.
تحدي الحكاية الرسمية
تقول هذه الحكاية إن حماس تدربت منذ وقت طويل
للخروج من القطاع من أجل تحقيق هدف استراتيجي واحد، ألا وهو شن هجوم فدائي على
أربع قواعد عسكرية محيطة بغزة لقتل أو أسر أكبر عدد ممكن من الجنود الإسرائيليين،
وكذلك شن هجوم مشابه على التجمعات السكنية الإسرائيلية المحلية وخطف رهائن مدنيين.
والهدف بحسب هذه الرواية هو مقايضة الرهائن
بالمساجين الفلسطينيين الذين يقبع الآلاف منهم داخل السجون الإسرائيلية بما في ذلك
النساء والأطفال، والذين يحتجزون في العادة بدون محاكمة وبلا تهم.
من وجهة نظر الجمهور الفلسطيني، يعتبر هؤلاء
السجناء رهائن أيضاً لا يختلفون في ذلك عن الإسرائيليين المحتجزين في غزة.
اقتحمت حماس القواعد العسكرية والتجمعات
السكانية الإسرائيلية في بئيري وكفار عزة، ولهذا كان ثلث القتلى الذين وصل عددهم
إلى ألف ومائتين في ذلك اليوم هم من الجنود أو الشرطة أو الحرس المسلح، ولهذا
أيضاً كان عدد كبير من الرهائن الذين بلغ عددهم 240 هم من العناصر التي تخدم في
الجيش الإسرائيلي أيضاً.
طبقاً لمعظم التقارير، بما في ذلك التقارير
الإسرائيلية ذاتها، وقعت حماس مصادفة على مهرجان نوفا الموسيقي، والذي أعيد نقل
مقره إلى منطقة قريبة من السياج الفاصل مع غزة. حصلت اشتباكات غير متوقعة مع حراس
الأمن، بينما تحول الهجوم على المشاركين في المهرجان إلى حالة من الفوضى العارمة
والرعب.
لماذا إذن خرجت حماس عن خطتها الأصلية وراحت
تقتل هذا العدد الكبير من المدنيين؟ ولماذا قامت بذلك بهذه الدرجة من التوحش،
وبأسلوب لا مسوغ له ويستهلك الكثير من وقتها، ويتضمن حرق الإسرائيليين أحياء،
واستخدام القوة النارية التي لديها لتفجير منازل الإسرائيليين وتحويلها إلى ركام،
وإشعال النار بمئات السيارات على الطريق السريع المحاذي لموقع المهرجان الموسيقي؟
ما الذي ستكسبه حماس من هدر كل هذه الطاقة
والذخيرة فيما يشبه أحداث فيلم من أفلام الرعب بدلاً من تنفيذ خطتها الهادفة إلى
احتجاز رهائن؟
بالنسبة لكثير من الزعماء والصحفيين
الغربيين، لا يبدو أن ثمة حاجة إلى إجابة منطقية، فحماس من وجهة نظرهم، وربما جميع
الفلسطينيين، مجرد همج بالنسبة لهم قتل الإسرائيليين واليهود، وربما جميع غير
المسلمين، فطرة جبلوا عليها.
ولكن بالنسبة لمن لم تخضع عقولهم لتأثير
الفرضيات العنصرية، ثمة صورة بديلة للأحداث لم تلبث تتشكل بالتدريج، وذلك بفضل
شهادات الناجين والمسؤولين الإسرائيليين، وكذلك بفضل ما ينشر في وسائل الإعلام
الإسرائيلية.
ولكن نظراً لأنها تتناقض مع الرواية الرسمية
الإسرائيلية، فإن تلك الشهادات يتم تجاهلها بكل جد واجتهاد من قبل وسائل الإعلام
الغربية.
الحرق أحياء
من عجائب الأمور أن الشخص الذي أربكت
تصريحاته الروايات الرسمية وجعلتها عرضة للدحض هو مارك ريغيف، الناطق باسم رئيس
الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ففي مقابلة مع "إم إس إن بي سي" في
السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، لاحظ ريغيف أن "إسرائيل" خفضت
التعداد الرسمي للقتلى بحوالي مائتين بعد أن خلصت تحقيقاتها إلى أن الجثث المتفحمة
التي تم عدها تتضمن ليس فقط إسرائيليين وإنما أيضاً مقاتلين من حماس. وهؤلاء
المقاتلون، الذين أحرقوا أحياء، تشوهت جثثهم بحيث لم يعد سهلاً التعرف عليهم.
وقال ريغيف في حديث مع مضيفه في "إم إس
إن بي سي" مهدي حسن: "كانت هناك بالفعل جثث محترقة إلى حد كبير لدرجة
أننا في البداية ظنناها من جماعتنا، ولكن تبين في النهاية أنها تعود لإرهابيين من
حماس".
كانت هناك مشكلة واضحة في ما كشف عنه ريغيف،
ولكن مقدم البرنامج في "إم إس إن بي سي" أخفق في مساءلته بشأنها، بل
وتجاهلتها وسائل الإعلام منذ ذلك الحين. فكيف انتهى المطاف بهذا العدد الكبير من
مقاتلي حماس أن يحرقوا، وبالضبط في نفس الموقع الذي كان يتواجد فيه الإسرائيليون،
بما يعني أن جثثهم لم يتسن تحديد هوية أصحابها بشكل منفصل لعدة أسابيع؟
فهل قام مقاتلو حماس ببعض الطقوس الغريبة،
فأحرقوا أنفسهم داخل السيارات والمنازل مع رهائنهم؟ وإذا كان هذا هو الذي حصل،
فلماذا؟
هناك تفسير محتمل لذلك يؤكده أحد الناجين
الإسرائيليين من أحداث السابع من أكتوبر، كما يؤكده أحد الحراس الأمنيين، ومجموعة
منوعة من العناصر العسكرية. إلا أن شهادات هؤلاء تقوض بشكل سافر الرواية الرسمية.
قصف نفذته "إسرائيل" نفسها
كانت ياسمين بورات، التي هربت من مهرجان نوفا
وانتهى بها الأمر إلى الاختفاء في بيئيري، واحدة من عدد قليل من الناجين في ذلك
اليوم. أما رفيقها تال كاتز فقد لقي مصرعه.
وهي التي شرحت مراراً وتكراراً لوسائل
الإعلام الإسرائيلية ما الذي حدث.
طبقاً لشهادة ياسمين بورات التي أدلت بها
لقناة "كان" يوم الخامس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، فقد تحصن مقاتلو حماس في
بيئيري داخل منزل مع مجموعة من الرهائن الإسرائيليين عددهم في حدود العشرة أو
يزيدون قليلاً، إما بهدف استخدامهم كدروع بشرية أو كبضاعة يقايضون عليها من أجل
ضمان خروج آمن لأنفسهم.
إلا أن الجيش الإسرائيلي لم يكن مستعداً
للتفاوض على أي مقايضة. ولم تتمكن ياسمين بورات من الهرب إلا لأن أحد مقاتلي حماس
خرج من المنزل في وقت مبكر، واستخدمها درعاً بشرياً قبل أن يسلم نفسه.
تصف ياسمين بورات انخراط الجنود الإسرائيليين
في قتال بالأسلحة مع مسلحي حماس لمدة تصل إلى أربع ساعات، وذلك على الرغم من وجود
المدنيين الإسرائيليين. ولكن لم يقتل جميع الرهائن في تبادل إطلاق النار ذلك، بل
أنهت إسرائيل تبادل إطلاق النار حين قامت دبابة إسرائيلية بإطلاق قذيفتين على
المنزل.
بحسب شهادة ياسمين بورات، حينما سئلت لماذا
فعلوا ذلك: "شرحوا ذلك لي بأن الهدف كان تدمير الجدران من أجل المساعدة في
تطهير المنزل".
كانت الناجية الأخرى الوحيدة هي حداس داغان،
التي ظلت مستلقية ووجهها على الأرض فوق العشب الموجود أمام المنزل طوال فترة تبادل
إطلاق النار، وهي التي أخبرت ياسمين بورات بذلك الذي حدث بعد أن ضربت القذيفتان
المنزل. رأت حداس داغان بنفسها رفيقيهما ممددين إلى جوارها وقد قتلتهما الشظايا
التي تطايرت من الانفجار.
كانت هناك فتاة في الثانية عشرة من عمرها
تسمى ليل حستروني، كانت تصرح طوال تبادل إطلاق النار من داخل المنزل، ثم صمتت
فجأة.
ليل حستروني وعمتها أيالان كلاهما أحرقتا
تماماً، لدرجة أن التعرف عليهما استغرق عدة أسابيع.
ويلاحظ هنا أن البقايا المتفحمة لجثة ليل
حستروني كانت واحدة من الأدلة المثيرة التي اعتمدتها "إسرائيل" لاتهام
حماس بقتل الإسرائيليين وحرقهم.
في تقريرها عن مقتل ليل وعمتها وشقيقها
التوأم وجدها، جاء في موقع "واي نيت" الإسرائيلي الإخباري أن مقاتلي
حماس "قتلوهم جميعاً ثم بعد ذلك أضرموا النار في المنزل".
طيارون مرتبكون
لم تكن شهادة ياسمين بورات المصدر الوحيد
الذي يثبت أن "إسرائيل" من المحتمل أن تكون مسؤولة عن قتل عدد كبير من
المدنيين في ذلك اليوم، ومسؤولة كذلك عن الجثث المحترقة.
فهذا المنسق الأمني في بيئيري، واسمه توفال
إسكابا، يؤكد في مقابلة مع صحيفة "هآرتس" ما ذكرته ياسمين بورات، حيث
قال: "القادة العسكريون في الميدان اتخذوا قرارات صعبة بما في ذلك قصف
المنازل وهدمها على من فيها من أجل التخلص من الإرهابيين والرهائن معاً".
ويبدو أن السيارات المحروقة في مهرجان نوفا
ومن كانوا فيها لقوا نفس المصير. فخشية أن يكون مقاتلو حماس على وشك الفرار من
المنطقة بالسيارات مع الرهائن، قيل لطياري المروحيات بأن يفتحوا النار على
السيارات فيحرقوها بمن فيها.
وهناك تفسير محتمل لذلك، ألا وهو أن الجيش
الإسرائيلي طالما كان لديه بروتوكول سري يعرف باسم توجيه "هانيبعل"
والذي يقضي بأمر الجنود بقتل أي رفاق لهم يتم أسرهم من أجل تجنب أن يتحولوا إلى
رهائن. ليس واضحاً كيف يتم تطبيق هذا التوجيه في حالة المدنيين الإسرائيليين، وإن
كان قد استخدم في ما يبدو من قبل.
والهدف هو تجنيب "إسرائيل"
الاضطرار إلى التعامل مع مطالب بإطلاق سراح السجناء.
على الأقل في حالة واحدة، هناك مسؤول عسكري
إسرائيلي اسمه العقيد نوف إيريز، كان قد صرح بأن "توجيه هانيبعل تم تطبيقه
على ما يبدو". بل إنه وصف الضربات الجوية الإسرائيلية يوم السابع من أكتوبر بأنها
كانت "هانيبعل جماعي".
ونشرت "هآرتس" تقريراً جاء فيه أن
محققي الشرطة خلصوا إلى أن "مروحية مقاتلة تابعة لقوات الدفاع الإسرائيلية
وصلت إلى الموقع وأطلقت النار على الإرهابيين، ويبدو أنها أصابت كذلك بعض المشاركين
في المهرجان".
في مقطع فيديو نشره الجيش الإسرائيلي، يمكن
رؤية مروحيات من طراز أباتشي تطلق الصواريخ عشوائياً على السيارات التي تغادر
الموقع، ويبدو أنهم افترضوا أن السيارات كانت محملة بمقاتلي حماس في مسعى منهم
لتهريب الرهائن إلى داخل غزة.
نقلت وكالة "واي نيوز" الإخبارية
عن تقييم قامت به القوات الجوية الإسرائيلية لعشرات الهجمات التي نفذتها طائراتها
المروحية في الأجواء فوق مهرجان نوفا ما يأتي: "كان من الصعب جداً التمييز بين
الإرهابيين والجنود أو المدنيين الإسرائيليين." وعلى الرغم من ذلك فقد صدرت
التعليمات للطيارين بأن يقوموا "بإطلاق النار على كل شيء يرونه في المنطقة
التي تقع ما قبل السياج" مع غزة.
ومضت المنصة تقول: "فقط عند نقطة معينة
بدأ الطيارون يبطئون من هجماتهم ويختارون أهدافهم بعناية".
وأشارت صحيفة إسرائيلية أخرى اسمها "ماكو" إلى
أنه "لم يكن هناك أي معلومات استخباراتية تقريباً للمساعدة في اتخاذ القرارات
المصيرية"، وأضافت أن الطيارين "كانوا يفرغون ما في بطون طائراتهم
المروحية" خلال دقائق، ويغادرون للتزود بالذخيرة ثم يعودون إلى الأجواء
ثانية، ويفعلون ذلك المرة تلو الأخرى".
وفي تقرير آخر لصحيفة ماكو، تنقل الصحيفة عن
آمر إحدى وحدات الأباتشي قوله: "إطلاق النار على الناس داخل أراضينا، ذلك شيء
لم يخطر بتاتاً ببالي أنني يوماً سأفعله". واستذكر طيار آخر الهجوم قائلاً:
"وجدت نفسي في حيرة، ماذا عساي أطلق النار عليه؟".
أسرار تذهب إلى القبر
من العجيب حقاً أن الصحفيين الذين كتبوا
تقارير عن الدمار الهائل الذي حل بالبيوت وعن ركام السيارات المحروقة، تجاهلوا
تماماً الأدلة المرئية التي كانت نصب أعينهم واكتفوا بكل بساطة بتكرار وتضخيم
الرواية الإسرائيلية الرسمية.
هناك الكثير من الأسئلة البسيطة، والأكثر من
واضحة، التي لا يطرحها أحد، والتي من غير المحتمل أن يعثر أحد لها على أجوبة
بتاتاً.
كيف تمكنت حماس من إحداث كل هذا التدمير
المكثف وعلى نطاق واسع بينما المقاطع المصورة التي التقطتها كاميرات مقاتليها تثبت
أنهم لم يكونوا يحملون سوى أسلحة خفيفة؟
وهل كان بإمكان من كانوا منهم يحملون مدافع "آر
بي جي" أن يتعقبوا ويصيبوا بدقة مئات السيارات المندفعة بسرعة هرباً من موقع
المهرجان وفعلوا كل ذلك من مستوى الأرض؟
تظهر المقاطع المصورة المأخوذة من كاميرات
مقاتلي حماس أن السيارات المغادرة لمهرجان نوفا كانت تقل داخلها المسلحين والرهائن
معاً. فلماذا تجازف حماس بتجريم العناصر التابعة لها؟
وإذا أخذنا بالاعتبار أن حماس حريصة كل الحرص
على تصوير انتصاراتها، فلماذا لا توجد مقاطع مصورة توثق مثل هذه الأفعال؟ ولماذا
تهدر حماس ذخيرتها، التي تعتبر ثمينة جداً بالنسبة لها، في تنفيذ هجمات عشوائية
على السيارات بدلاً من توفيرها لمهام أكثر صعوبة مثل الهجوم على القواعد العسكرية
الإسرائيلية؟
تبدو "إسرائيل" غير مهتمة بالتحقيق
في شأن السيارات المحترقة والبيوت المهدمة، ربما لأنها تعرف أصلاً الإجابات وتخشى
من أن يكتشف الآخرون يوماً ما حقيقة ما حصل.
ومع مطالبة المنظمات الدينية بأن يتم سريعاً
دفن السيارات من أجل الحفاظ على حرمة الموت، فلسوف تصطحب الهياكل المعدنية أسرارها
إلى القبر.
حكايات خرافية بشعة
ما يبدو مؤكداً من كل هذا الكم المتنامي من
الإثباتات –ومن سيل من الأدلة المرئية– هو أن عدداً كبيراً من المدنيين
الإسرائيليين قتلوا في يوم السابع من أكتوبر إما في تبادل لإطلاق النار بين "إسرائيل"
وحماس، أو بسبب توجيهات صادرة عن الجيش الإسرائيلي بمنع مقاتلي حماس من العودة إلى
غزة وهم يصطحبون معهم رهائن.
هذا الأسبوع، وصف معلق في صحيفة "هآرتس"
الشهادات بأنها "تزلزل الأرض" وأضاف: "هل تم تطبيق توجيه هانيبعل على المدنيين؟ لا بد من فتح تحقيق ونقاش عام الآن، بغض النظر عن مدى صعوبة
ذلك".
ولكن، وكما أوضح الجيش، فإنه ليس لديه نية في فتح
أي تحقيق طالما أن حملة الإبادة الجماعية التي يشنها على غزة تقوم بأسرها على
مزاعم بشعة يبدو أنها أبعد ما تكون عن الحقيقة.
لا شيء من ذلك يبرر الفظائع التي ارتكبتها
حماس، وخاصة قتل وأسر المدنيين. ولكنه يرسم صورة مختلفة تماماً لأحداث ذلك اليوم.
تذكروا أن "إسرائيل" وأنصارها سعوا
إلى مقارنة هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر بالمحرقة النازية، واختلقوا حكايات
خرافية من أجل تصوير الفلسطينيين على أنهم همج متعطشون للدماء يستحقون أي مصير
يلقونه.
لقد شكلت هذه الحكايات الخرافية الأساس الذي
يقوم عليه التعاطف المسرف من قبل الغرب مع "إسرائيل" وهي تنفذ عمليات
التطهير العرقي والإبادة الجماعية في غزة.
والحقيقة هي أنه كان سيصعب كثيراً على
الحكومات الغربية أن تبيع لجماهيرها ما تعيثه "إسرائيل" في غزة من تدمير
وإفساد لو أن جرائم حماس اعتبرت، للأسف، أعمالاً معتادة في المواجهات العسكرية،
حيث يصبح المدنيون أضراراً جانبية.
ما كان ينبغي أن تفعله الحكومات والمؤسسات
الغربية هو المطالبة بإجراء تحقيق مستقل من أجل توضيح حقيقة ما ارتكبته حماس من
فظائع في ذلك اليوم بدلاً من ترديد مزاعم المسؤولين الإسرائيليين الذين أرادوا
توفير ذريعة لتدمير غزة وإخراج أهلها منها والدفع بهم نحو سيناء المجاورة.
وكان أداء وسائل الإعلام الغربية أكثر بؤساً
وأشد خطورة. فمن المفروض أن يكون الإعلام، كما يزعم أهله، رقيباً على السلطة. إلا
أنه ظل مراراً وتكراراً يردد مزاعم الاحتلال الإسرائيلي التي لا تستند إلى دليل،
ويروج للتشهير والقدح بالفلسطينيين بلا فحص أو تدقيق، ويكتم عن سبق إصرار وترصد
الأدلة التي تتحدى الرواية الإسرائيلية وتكذبها.
ولهذا السبب وحده، يمكن القول إن الصحفيين
الغربيين متواطئون في الجرائم التي ترتكب حالياً ضد الإنسانية في غزة، نتحدث عن
جرائم ترتكب الآن في هذا الوقت تحديداً، وليس عن جرائم ارتكبت قبل شهرين.