سعت الولايات المتحدة
والدول الأوربية إلى إيجاد تغييرات محورية وهامة في مفهوم التطرف والإرهاب الديني،
ولتحقيق هذه التغييرات استخدمت الولايات المتحدة نفوذها الواسع في مراكز الفكر
والأبحاث لربط الإسلام والمسلمين بالتطرف الديني، ومحاولة إيجاد انحصار مفاهيمي
لهذا المصطلح وربطه بالمسلمين وحدهم. ولهذا فقد ركّزت إسرائيل والولايات المتحدة
معاً على نزع صفة التحرر السياسي والنضال ضد الاحتلال عن المقاومة ووصفها بـ"الإرهابية"
وقد ذهبوا في بعض الأحيان إلى أبعد من ذلك من خلال وصف هجماته حماس ضد مستوطنات
قطاع
غزة بـ"الهجمات البربرية".
إن من أهم التصريحات
التي ألقى بها نتنياهو خلال 23 يوماً من الحرب على غزة، كان تصريحه أمام الكنيست
الإسرائيلي حين وعد بتحقيق "نبوءة أشعياء". هذه النبوءة هي جزء من سفر
أشعياء المكون من 66 فصلاً في الكتاب المقدس، حيث تتحدث هذه النبوءة عن قيام دولة
إسرائيل الكبرى بين نهري النيل والفرات وإحداث دمار هائل في كل من العراق ودمشق
واليمن ومصر.
استحضار هذه النبوءة
في الخطاب والوعي السياسي الإسرائيلي والأمريكي ما هو إلا محاولة إحياء حقبة
الحروب الصليبية التي دارت بين القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر الميلادي. بدأت
هذه الحرب عندما أطلق البابا أوربان الثاني الحملات الصليبية في مجمع كليرمون عام
1095، ودعا أوربان المسيحيين إلى حمل السلاح ضد
المسلمين وتحرير الأرض المقدسة. وقوبل
خطابه بحماس كبير، وتطوع آلاف الأشخاص من جميع أنحاء أوروبا للانضمام إلى الحملة
الصليبية.
تم شن الحروب الصليبية
لعدة أسباب، حيث اعتقد بعض المسيحيين أن من واجبهم النضال من أجل الإيمان وتحرير
الأرض المقدسة من سيطرة المسلمين. وكان الدافع وراء البعض الآخر هو العوامل
الاقتصادية، مثل الرغبة في السيطرة على طرق التجارة أو الحصول على أراضٍ جديدة، كما
بحث آخرون عن المغامرة والمجد في الأراضي التي كانت تخضع لحكم المسلمين.
كانت الحملة الصليبية
الأولى ناجحة، حيث استولى الصليبيون على القدس عام 1099 وأنشأوا عددًا من الدويلات
الصليبية في الأرض المقدسة. ومع ذلك، لم يتمكن الصليبيون من الحفاظ على سيطرتهم
على المنطقة. فقد شن المسلمون سلسلة من الهجمات المضادة، وبحلول 1187 تم طرد
الصليبيين من الأراضي
الفلسطينية على يد قوات الناصر صلاح الدين الأيوبي.
تعتبر الولايات
المتحدة وإسرائيل أنّ هذه الحروب لم تنته بعد، ولا زالت هناك جولة أخيرة سيخوضها
هؤلاء ضد المسلمين في الأراضي المقدسة في فلسطين. ولذلك فإن خطابات الرئيس
الأمريكي جو بادين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تم تحشيدها بطريقة
تظهر بأن الصراع في فلسطين بشكل عام وقطاع غزة بشكل خاص ليس صراعاً للتحرر من
الظلم والاحتلال، بل هو صراع ديني قائم بين
اليهود والمسلمين. ولذلك فإن كل عمليات
الدعم العسكري وتحريك حاملات الطائرات الأمريكية وتقديم الذخائر إلى إسرائيل، وإن
كان يتم تحت غطاء منع أطراف أخرى من الدخول في النزاع، إلا أن هدفه الحقيقي هو
الاشتراك في الحملة ضد قطاع غزة. وهذا بالضبط ما تظهره تصريحات الرئيس الأمريكي
عندا قال بأنه طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن يكون رد إسرائيل حاسماً ضد حركة
حماس في قطاع غزة.
في الحقيقة وعلى عكس
الولايات المتحدة وإسرائيل، لا تنظر حركة حماس ولا الشعب الفلسطيني في قطاع غزة
إلى هذه الحرب على أنها حرب دينية، بل هي حرب تحرر واستعادة الأرض المحتلة من قبل
إسرائيل. وهم يستندون في وصفهم هذا إلى قرارات الأمم المتحدة (242، 1860، 2334
والعديد من القرارات الأخرى) التي وصفت إسرائيل بأنها قوة احتلال. وعلى عكس غرف
العمليات المشتركة الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية، والدعوات الفرنسية لتشكيل
تحالف ضد حماس، فإن حماس وعلى لسان الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة لم تطالب
أي جيوش عربية "لا سمح الله" بالتدخل في المعركة، بل طالبتهم بإدخال
المساعدات إلى الشعب المحاصر في غزة.
ختاماً، لم يعد يخفى
على أحد بأن العملية الهمجية والإبادة الجماعية التي يتعرض لها سكان غزة ما هي إلا
جزء من حرب لتصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد. ولا تتردد كل من إسرائيل والولايات
المتحدة وحلفاؤهما في أوروبا في استخدام المصطلحات الدينية لإضفاء الطابع الديني
على هذه الحرب وإفراغ مفهوم حركة التحرر الفلسطينية من مضمونه.
وبناء على ما تقدم،
فإن الخيار الأنسب اليوم بالنسبة لنا كمسلمين وعرب هو دعم الشعب الفلسطيني بشتى
الوسائل والطرق والمطالبة بإدخال المساعدات إلى غزة، والتظاهر بشكل مستمر أمام
السفارات الأمريكية حول العالم بوصفها شريكة حرب مع إسرائيل. وهذا بالضبط ما تنبه
إليه الشعب الإندونيسي في جاكرتا والشعب الموريتاني في نواكوشط عندما تجمعا بشكل
مهيب أمام السفارتين الأمريكيتين مطالبين بوقف العدوان على قطاع غزة. ونرجو من
الشعوب العربية والمسلمة التظاهر عند هذه السفارات في أي مكان في العالم.